

حوارٌ مع ذبابةٍ ساقِطَة
لِلْيوم الثالثِ على التوالي، أجلسُ في المقهى «المِثالي». المكانُ رحبٌ، والضِّيقُ في صدري. وحيداً... هُناكَ شَمْسٌ جميلةٌ، وهنا برْدٌ شديد. ... غارقاً في التخْييل... وعندما انتبهتُ إليها، وجدتُها قد تأبّدَ مكوثـُها في كأسي.
... كانتْ حُلْوَة... وجسمُها الضئيلُ قد تورَّم من فَرْطِ ما تجرَّعَتْ ـ قسْراً ـ من الشراب. ... كانتْ عادية...
وهي ذبابةٌ في عِزِّ أنوثتِها؛ ولا تعرف السِباحة. فأسعفتُها بما أسْعفني عِلْمي القليل، وراعني أنْ أرى آثار الزمنِ الشقيِّ على جسدِها المُرتجف: هيْكلٌ عظمي غير مَرْئي، نهدان مِجْهَرِيان ذاويان، جناحٌ مكسور، وقلبٌ منشطِرٌ من الخوف.
وفي ما تبقّى من كُحْلٍ أزرق، بقِيّةُ وهْمٍ ومَسْألة. فرَعَيْتُها ثلاثة أيّامٍ من زمن الذباب... إلى أن استعادَتْ قليلا من قوّتِها، فكان بينها وبيني هذا الحِوار:
– ما الذي جعلكِ تسقطين في كأسي؟
– فقدتُ الثقة في الحيوان.
– هذا سبب غيرُ كافٍ.
– العالمُ شرٌّ كلُّه.
– قلتُ مثل هذا الكلام لحظةَ غضب.
– ما نفعني الأدبُ ولا الفلسفة.
– هذه مُصادفة! كأنّكِ أنا.
– تزوّجَني "ذبابٌ" ذكر، وعندما امتلأ بطني، طلّقني... هجرني إلى ذبابة أخرى عُمُرُها بضعةُ أيّام... ذبابة طريّة، صدرُها أصغر، وجناحاها شفّافان، وجسدُها رطبٌ مثل الزُبْدة.
فقلتُ لها:
– اشتدَّ البرْدُ وحلَّتِ العَتـَمة، دعيني أدفِئُكِ من ورق هذه السيجارة! فقالتْ:
– البردُ والعَتَمَةُ كانا دوْماً اللباسَ الذي نلبسُه.
– لن أسترسِلَ معكِ في الكلام؛ فالكلامُ مضيَعةٌ للوقت. دعيني أشرَب وأسمعُ وأحِب..!
– أخذَ منّي أطفالي الملايين، ولكَمَني لكمة أسقطَتْ أسناني الأمامية؛ انظر! كيف لي أن أعيش؟ أفضِّل أن أغيبَ عن هذا العالم الشرّير.
– أ لهذا تحاولين الانتحارَ في كأسي؟
– لستُ أدري. وإنّما رأيْتُكَ تنتحِرُ في الشُّرب، فقلتُ لنفسي: هذا الكائنُ الخائبُ مِثلي؛ هو الآخرُ فقد الثقة في الحيوان.
– لا يهمُّكِ أمري ـ قلتُ لها ـ وما أنتِ إلا ذبابةٌ لا تُقَدِّرُ الأمور بالرّغم من ثقافتِها الواسِعة.
– اسمَعْ أيّها المُدَّعي: على الرغم من أنّني حاولتُ الانتحار، إلا أنّني مُتفائلة.
– كيف يمكنُ للتشاؤم والتفاؤل أن يمتزجا؟
قالت:
– ها أنتَ تبرهِنُ على قِصَر نظرك. إنّ التشاؤمَ والتفاؤلَ وجهان لعُملةٍ واحدة اسمُها "الرغبةُ في الحياةِ الكريمة"
قلتُ:
– الظاهِرُ أنّكِ مثقفّة أكثر من اللازم، وتجاوُزُكِ للقوانين هو ما جعلك ـ رُبّما ـ في هذا الوضْعِ المأساوي؛ أ ليسَ كذلك؟
– أنا غيرُ متّفقة معك، فوضعي ليسَ مأساةً، وإنّما هو حالةٌ وُجودية تخُصُّني أنا وليس أحداً آخر.
فقلتُ لها:
– لو اهتممْتِ بالحرْب في فلسطين والشيشان، وفي السودان وأفغانستان، وفي العراق، والعَولمة، والمجاعة والتجويع، والتلويث، وانقراضِ الأنواع، وتشغيلِ الأطفال، وتدعير الطِّفلات، و تراجعِ الأدبِ والقراءة، وتأزُّمِ الفلسفة... لو اهتممْتِ بمثلِ هذه الأمور لما كنتِ أنانيةً ولما فكّرتِ في الانتحار.
فقالتْ:
– هذه الأمور فكّرتُ فيها لأنّني مثقفّة فِعْلاً، ولكنّني ذُبابةٌ جائِعة... مُنْذُ ثلاثةِ أيامٍ لمْ آكُلْ فُتاتَةَ خُبز.
فأعطَيْتُها من بعضِ عُصَيّاتِ بطاطس مقليَّة وجُبْنٍ أصفر وفولٍ سوداني مُحمّص. ولمّا شبِعتْ وعادَتْ إلى صورة الذباب النشيط؛ طارتْ إلى طاولة ٍ أخرى حيث يجلِسُ زبونٌ آخر يشبهُني، وأسقطَتْ نفْسَها في كأسِه هو الآخر، وما انتبهَ إلى ذلك السُّقوط...
كان ـ على ما يبدو ـ يشعُرُ بالبرد ويفكِّر في امرأة لطيفة وحُلوة...
قلتُ لنفسي: لعلَّها ذبابةٌ سِكّيرة فقط...
فحلَّ الليلُ، وبدأ المكانُ يَعَجُّ ويَضَجّ؛ فرأيتُها تُستخْرجُ من كأسٍ لتسقط في أخرى؛ وتَحُطُّ تارةً على شَفَةٍ مَنْسِية، وتارة أخرى على صدْر ٍ مَصْدور؛ ومرّة على جيبٍ مثقوبٍ، وأخرى على رأسٍ مهجورة... ورأيتُها تستكثرُ كلامَ المواساة، وتستقلِلُ الكَباب والنقانق والفستق ودخان "الوينسْتون"...
هل قالتِ لي حقيقَتَها مثل ما يقول ملاكٌ مظلوم، أمْ أنَّها كذبت عليَّ مثل ما تفعلُهُ حرباءٌ مُسيَّسَة؟
فسمعتُها تقولُ لواحدٍ: سأذهبُ إلى "التْواليت" ثم أعود...
وفي عِلمي أن الأنثى عندما تتركُ ذكراً في انتظارها من "التْواليتْ"، فلأجل أن ترجع له بالأصباغ والأكاذيب...
فعادتْ بحكل أخضر جديد، وشفتين حمراوين من العضّ، ونهديْن نفختْهما ب"السليكون"، وبَطْنٍ ملأتهُ القمامة...
– أمَا عُدْتِ راغبةً في الانتحار؟ - صرختُ لها – وأين هي شَكْواك؟ وأين هو التألُّمُ الذي عكّرتِ به صفو كأسي الأخيرة؟
فسألَها واحدٌ كانتْ تكرَعُ الخمْرَ من طاولتِه: هل تريدين منّي أن أشُجَّ رأسَه؟
فاستبْقَتْهُ لها باللّباقة والحيلة، وقالت له: إنّه كاتبٌ غِرّ... تجاهلْه، وهاتِ المزيدَ من الشراب؛ وإنْ أحببتني فعلا، فأرْسِلْ له قِنّينة فأنا أراه أفقر من ذي قبل...
ومرَّ دهرٌ آخر من زمن الذباب وجدني في نفس المكان والطاولة، لكنّني تعلّمتُ أن أستر كأسي بالورق، ومتى حاولتْ ذبابةٌ ساقطة الانتحارَ المزعومَ فيه؛ أستخرجُ من محفظتي مبيد حشرات، فأرشُّه عليها برفق، لكي لا أموت.