«الوطن والقلم» لدواة على السّور
عقد ملتقى دَواة على السّور (الملتقى الأدبي الشبابي في القدس) لقاءَه التاسع عشر في دار إسعاف النشاشيبي للثقافة والفنون والآداب في القدس يوم الاثنين الموافق 24\12\12.
جاء اللقاء تحت عنوان (الوطن والقلم) لتُعلن عنه الدواة كسلسلة لقاءات تناقش فيها موضوع الوطن في الأدب الفلسطيني، وابتدأته بعقد اللقاء الأول من هذه السلسلة لتناقش القضية الفلسطينية في الشعر الفلسطيني. لتشير الكاتبة نسب أديب حسين التي أدارت الندوة هي والكاتبة مروة السيوري، بأنَّها على علمٍ بسعة هذا الموضوع والذي تطرقت له دراسات بحثية كثيرة، لكن يأتي هذا اللقاء واللقاءات التي تليه في محاولة لتسليط الضوء على هذا الموضوع وطرحه على الساحة الشبابية.
ابتدأت الأمسية بالوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء فلسطين وسوريا، ليتم استعراض المراحل التاريخية التي مرّ بها الشعر الفلسطيني من تاريخه القديم وحتى النكسة، ليظهر مدى ارتباط الشعر بالحقب والتطورات السياسية التي مرّت بها القضية الفلسطينية.
جاء هذا الاستعراض بالاعتماد على دراسات ومقالات ل د.عبد الرحمن ياغي، د.نبيه القاسم، د.محمد عطوات، د. رمضان عمر، الكاتب الكبير غسان كنفاني، ومجلة الكرمل عدد 3-4، 2012.
خلال استعراض المراحل التاريخية ألقت الشابتان منى ومريم كامل الباشا قصيدتين، الاولى قصيدة الأديب محمد اسعاف النشاشيبي (فلسطين والاستعمار الأجنبي) التي كتبها عام 1910 والتي أُعتبرت القصيدة الأولى التي تطرح حسًا وطنيًا فلسطينيًا، متنبئًا فيها بالخطر المحدق بفلسطين. أمّا الثانية فهي قصيدة (المعركة) للشاعر الفلسطيني معين بسيسو.
هذا وطرحت الكاتبة نسب أديب حسين تساؤلا عن العلاقة ما بين الشعر الفلسطيني والقضية، هل أثقل الوطن كاهل الشاعر؟ أم أثقل الشاعر كاهل الوطن؟
ليدور النقاش بين الكاتب جميل السلحوت والمخرج كامل الباشا وليرى الشاعر رفعت زيتون أنّ الوطن أثقل في كثير من الأحيان على الشاعر الذي كان عليه دومًا أن يحمل الوطن وهمومه، فيما رأت نسب أنّ العلاقة تكافلية بين الشعر من جهة والوطن من جهة أخرى وإن كان أحدهما قد أثقل على الآخر أحيانًا. فقد كان للوطن دورٌ مهم في مراحل تطور الشعر الفلسطيني واكسابه صبغة مميزة واعلاءُ لوائه على ساحة الشعر العربي، لكن من جهة أخرى صبغ الشاعر بصبغة معينة وحدده في قالب معين صعُبَ عليه أحيانًا أن يحيد عنه ولم يتقبل الجمهور بسهولة قصائده الأخرى التي تتطرق الى مواضيع مغايرة. هذا وقد يكون الشاعر قد حمّلَ الوطن أحيانًا صورًا وأحلامًا فوق قدرة الوطن على إحتمالها، لكنّه أيضًا ساهم بشكل كبير في الإعلاء من همة شعبه وفي نقل قضيته الى العالم.
وما بين السؤالين التاليين الذي طرحتهما نسب ومروة عن تأثر الشعر بالاتفاقات السياسية؟ ومدى محافظته على الصبغة الوطنية الصادقة أم أنه صار مستمتعا بدور الضحية؟ دار نقاشٌ موسع بين الحضور من أدباء ومثقفين، يرمي الى أنّ الاتفاقات السياسية قد أثرت بشكل كبير على زخم القصيدة.. وإن كانت القصيدة ما تزال متابعة للحراك الوطني.
شارك الشاعر الشعبي لؤي زعيتر بقراءة قصيدة (حكاية وطن) وهي قصيدة مغناة، من لحن وغناء الفنان الوطني الملتزم (أبو نسرين). هذا وقد شاركَ الشاعر بكر زواهرة بقراءة قصائد من ديوانه الثاني (حمامة تنقر في الصخر) الذي صدر حديثًا عن دار الجندي للطباعة والنشر في القدس، وكان له ختام الأمسية بإلقاء قصيدة عن الدواة قال فيها:
دواة السّور يا حبر الفؤادِحصان الحرف يصهل بالعتادنطقت اليوم صدقاً في المعانيومعنى الصدق يكمن في المرادرسمتِ الدرب درباً من ضياءيراه العمي في ليل السهادفلما الخطب مد الباع حقداًاطل الفكر صرحا في البلادفصار الحرف زرعا في بلاديبسهل العلم يسقى بارتيادكأن القدس عكاظ اتاهاوكاد السوق يهزم بالكسادلسان الشعر من حكم يناديو كل القوم سمع للمناديدواء في الدواة به شفائيفأوجاعي اراها في ازديادواوجاع الديار لها حطاميهز المرء من ثقل السوادفياللنائبات بها انقضاضكمثل الذئب يهجم في الوهاديسام الاهل والاوطان سوءاوتبر الارض رخص في المزادملأنا الارض حبرا من دموعغداة الحزن نكتب بالقتادرسمنا في طلول الدار عوداوعود الشوق يشخص للحصادمللنا الليل في وجه كئيبفوجه العلم صبح للعبادرسالات لفتيتنا تسامتتعيد الشّيب من بعد الرمادرسالات كنجم الله تهديوقلب الدهر ينخر بالفسادِمن الخيرات صحب مع كتابوصحب السوء منا في ابتعادسلاح الحرف اقوى من سلاحواجناد الثقافة من عداد
يجدر الذكر أنّ الندوة شهدت حضورًا لمعظم اعضاء وبراعم الدواة ولعشرات من الشبان والشابات من أبناء القدس، كما وحضرها أدباء ومثقفين من أبناء المدينة المقدسة ومنهم الكاتب جميل السلحوت، الكاتب ابراهيم جوهر، الشاعر رفعت زيتون، المحامي أحمد الرويضي، المخرج كامل الباشا، رجل الاعمال علي شقيرات، مدير دار اسعاف النشاشيبي م.خالد خطيب، مدير المسرح الوطني الفلسطيني اسامة قطيني، الكاتب عيسى قواسمي، الفنان حسام عليان وممثلو مجموعة شباب البلد (جبل المكبر)، وغيرهم.
ملخص ملتقى دواة على السور
عن موضوع القضية الفلسطينية في الشعر الفلسطيني نحاول ومن خلال هذا الملخص التطرق الى أبرز النقاط التي تناولتها الدراسات والأبحاث التي كُتبت في هذا المضمار، فكان الاعتماد على المصادر التالية:
1. د. عبد الرحمن ياغي، (1981)، حياة الأدب الفلسطيني الحديث، من أول النهضة حتى النكبة، (بيروت).
2. غسان كنفاني، (1968)، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968، (بيروت).
3. د. محمد عبد عبدالله عطوات،(1998) الاتجاهات الوطنية في الشعر الفلسطيني المعاصر من 1918-1968،، (بيروت).
4. نبيه القاسم،(2003) الحركة الشعرية الفلسطينية في بلادنا، (كفر قرع).
5. مجلة الكرمل عدد 3-4 خريف ـ صيف 2012.
في كتابه (حياة الأدب الفلسطيني الحديث) يقوم د. عبد الرحمن ياغي بتقسيم الشعر الفلسطيني حتى عام 1948 الى أربعة مراحل:
المرحلة الأولى: ما قبل عام 1908 –
غلب الطابع الديني على الثقافة، إذ كان التعليم محصورًا في يد الحكومة العثمانية ورؤساء الدين وبذا لم يكن غريبًا أن نرى شعراءَ من الوسطين الدينيين سواءَ كان الاسلامي أو المسيحي. وقد أُثقل المضمون بتلك القيم الدينية التي يُروجها الاقطاع.
ومن شعراء تلك المرحلة الاستاذ جرجي عطية، والشيخ يوسف بن اسماعيل النبهاني من قرية اجزم قضاء حيفا، القس الياس مرمورة الناصري، الشيخ أبو اقبال اليعقوبي. ويشير ياغي في كتابه إلى أنّ أدباء هذه الفترة عمدوا الى هذا التوجه جميعَهم باستثناء خليل السكاكيني.
وهنا لم يتميز الشعر الفلسطيني عن غيرِه من الشعر العربي، إذ أنّ فلسطين شكلت جندًا من أجناد بلاد الشام ولم تكن كيانًا مستقلا. ولم تتميز الموضوعات الشعرية عن غيرها من الاقطار العربية.
المرحلة الثانية: 1908 -1919
تتمثل هذه المرحلة بانفصال الأتراك عن العرب، وحاولت تركية استعادة سلطتها، مما أدى ببعض الجمعيات السرّية في حركة التحرر العربية الى تجميع الجهود بين جميع الطبقات، ورأت من الخير استمالة الارستقراطية العربية الى جانب الحركة الوطنية. الأمر الذي أدى الى تشكيل قوة حربية جريئة. إلا أنّ الاستعمار الغربي عرف كيف يُوقع هذه الارستقراطية تحت تأثيره.
هنا وفي هذه المرحلة بالذات ومثلما كان اللقاء بين البرجوازية العربية والارستقراطية العربية، كان اللقاء بين البرجوازي الصغير خليل السكاكيني (1878 -1952) وبين سليل الارستقراطية محمد إسعاف النشاشيبي (1885- 1947). في هذه المرحلة أصبحَ الشعرُ أوثقَ اتصالا بالحياة في طرحِه مواضيعَ كالدستور والحرية والاستعمار والخطر الصهيوني.
وظهر الشِّعر في مسلكين رئيسيين:
1- شعر يمثل التيار الصاعد أو اللون المشير الى مستقبل جديد.
2- شعر يجاري الواقع المُعاش.
إنّ التلاقي بين اسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني حمل الكثيرَ من الخيرِ لحياة الشِّعر في هذه المرحلة وللتوجه الأول.
وهنا يجدر الذّكر أنّ محمد إسعاف النشاشيبي كان من أوائل الذين أحسوا بالخطر المحدق بفلسطين وتنبؤوا به، واعتبرت بعض الدراسات قصيدته (فلسطين والاستعمار الأجنبي) القصيدة الأولى التي تطرح حسًا وطنيًا فلسطينيًا عام 1910
أمّا عن وصف المعاناة في السجن فيشير عبد الرحمن ياغي الى ما كتبه خليل السكاكيني في إعتقاله عام 1917 في الشام، ليكتبَ يوميته ويضمنها أبياتًا شعرية تُعبر عن حزنه، ليظهر هنا اتصال بحياة الشاعر الخاصة، الأمر الذي لم يتطرق اليه شعراء المرحلة السابقة.
المرحلة الثالثة: 1920 – 1939 : تبدأ من انعقاد مجلس الحلفاء في سان ريمون، وقرار تمزيق البلاد العربية وجعل كلٍ منها تحت سيطرةِ لونٍ من ألوان الاستعمار. لتبدأ فلسطين مواجهة الاستعمار والصهيونية، وتستمر هذه المرحلة حتى نهاية الثورة الفلسطينية الأولى.
هنا في هذه المرحلة (مرحلة الانتداب البريطاني) ورغم الاضطرابات المستمرة فيما بين الحربين انتقلت فلسطين الى عهد معاير تمامًا للعهد العثماني، اذ دخلت لحياة الناس الكهرباء والمسارح ودور السينما والمدارس الحديثة والاذاعة والصحافة. ونقلا عن كتاب (تاريخ الصحافة العربية لفيليب دي طرازي يذكر ياغي قائمة بأسماء 22 مجلة و57 جريدة) صدرت جميعُها في القدس وحيفا ويافا وعكا وبيت لحم وطولكرم وبئر السبع في فترة 1908 – 1929. فكان هنا لا بدّ من أن يزداد الوعي الثقافي والفكري.
كما نشأت في هذه الفترة الأحزاب وحركات النضال. ثم قامت (اللجنة العربية العليا) ممثلة لجميع الأحزاب لتنظم الحركة النضالية، حتى قيام الثورة الفلسطينية. لتدخل الثورة في حياة الناس وفي شعرهم ورسائلهم لذويهِم.
وراح الشّعرُ يعالجُ القضايا العامة، ونشأت في حياة الشّعر في هذه المرحلة معارضات أيديولوجية همها المضمون الشعري أكثر من المعارضات الشكلية في اللغة والبلاغة.
ومن القصائد الشاهدة على هذا قصيدة (إن) لخليل السكاكيني التي عارض فيها الشاعر الانجليزي (كبلنج) التي كانت بعنوان (IF) . ومطلعُها:
إنْ يخفض الناس الرؤوسفإننا نعليهاأو يرخص الناسُ النفوسَفإننا نغليهاإن تتزلزل القدمفإننا جبالأو تتضاءل الهممُفإننا أبطال
كما ظهر في هذه المرحلة تجديد عند اسعاف النشاشيبي في مرثيته لأحمد شوقي التي تحرر فيها من قيد القافية وقيد وحدة البيت.
خصبت هذه المرحلة بالشعراء (عدَّد ياغي أربعون شاعرًا). ليبرز ابراهيم طوقان، عبد الكريم الكرمي، يوسف النبهاني، اسكندر البيتجالي، وديع البستاني، مطلق عبد الخالق وغيرهم.
واستدعت الظروف التاريخية أن يفرد الشعراء بابًا خاصًا في دواوينهم للأناشيد الوطنية.
المرحلة الرابعة: 1939 -1948 : شهدت هذه الفترة الزخم السياسي الذي وصل بالشعب الفلسطيني وفلسطين الى النكبة وهنا تأججت روح الكفاح والكتابة الوطنية، لتظهر الأنفاس الملحمية عند وديع البستاني. كما وقام اسكندر الخوري البيتجالي بمحاولة ملحمية بدأ بها مع بدء الحرب العالمية حتى آخر مراحلها، وتقيد في ها ببحر واحد وقافية واحدة. وكُتبت المسرحية الشعرية، كمسرحية (وطن الشهيد) لبرهان الدين العبوشي.
مرحلة 1948 -1967 : في هذه المرحلة من المسيرة الشعرية الفلسطينية جاءت الفترة ما بين النكبة والنكسة 1948 – 1967 . وعن هذه المرحلة جاء كتابا الأديب الكبير غسان كنفاني أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، والأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 -1967 .
ليتحدث غسان عن النضال الثقافي الذي يخوضُه الفلسطينيون في الداخل، وعن سجن الشعراء، وتعرضِهم للذل ومواجهة المحتل كل يوم بشكل مباشر.
أدى واقع المواجهة السياسية حسب قوله الى بلورة أدب المقاومة، الذي كان بدوره صمودًا من الداخل لتسهيلِ عمليةِ الضربِ الى الخارج. وهنا في هذه المرحلة راح الشاعرُ يلجأ شيئًا فشيئا الى الكتابة الرمزية ليتجنب قدر الإمكان اضطهاد المحتل له.
ربط أدب المقاومة ربطًا محكمًا ما بين المسألةِ الاجتماعية والسياسية. ويشير كنفاني الى أنّ سياسة القمع لم تؤد الى نتيجة سلبية على الشاعر، بل إنّ تعرض سميح القاسم ومحمود درويش للسجن قد طور من أدائهما بصورة مذهلة.
وهنا ظهر العديد من الشعراء في الأرض المحتلة بعد النكبة محمود درويش، سميح القاسم، راشد حسين، حنا أبو حنا، سالم جبران، حبيب قهوجي، فوزي الاسمر، عيسى اللوباني، عبد الرحيم عمر.
ليقول غسان أنّ الغضب ما لبث أن تبلور في صبغة موقف وأنّ مما لا شك فيه أنّ محمود درويش وسميح القاسم هما طليعة لافتة للنظر في هذا الشأن.
ليلخص غسان رأيَه بأدب المقاومة ص 86 من كتابه المذكور سابقًا:
(لقد رأينا باختصار، أولا كيف يرتبط أدب المقاومة في فلسطين المحتلة الى بعد اجتماعي ويطرح ولاءه للطبقة الكادحة التي على أكتافِها تُعلقُ المقاومة بنادقها ومصيرها.
ورأينا ثانيًا، كيف يحافظ ادبُ المقاومة على هذا الارتباط الاجتماعي التقدمي في ممارسته لبعد آخر من أبعاده وهو بُعد الالتزام بالثورات التحررية في العالم.
ورأينا، ثالثا، كيف يرتبط أدب المقاومة ببعده العربي ارتباطا وثيقًا راسخًا، دون أن يفقد وضوح نظرته الاجتماعية في هذا الارتباط، ومع ادراك عميق لمعناهِ وضرورتِه وأصالته.
ورأينا أنّ هذه الارتباطات تحدث ضمن إطار من الالتزام بقدسية الكلمة والايمان الذي لا يتزعزع بدورها وقيمتها والتمسك بمسؤوليتها كسلاح أساسي في حركة المقاومة التي تشمل معنى أوسع بكثير من مجرد المقاومة المسلحة.
لكننا قلنا أيضا أن هذه الارتباطات الثلاثة تظل تدور حول محور أساسي هو التصدي الشجاع للمعركة المباشرة، اليومية والقاسية والباهظة الثمن، مع العدو المحتل الذي يجثم بثقل مباشر على صدر الوجود العربي، في فلسطين المحتلة.)
هذا وقد برز شعراء مشردون خارج الأرض المحتلة بعد النكبة هم:
هارون هاشم رشيد، علي هاشم رشيد، يوسف الخطيب، معين بسيسو، محيي الدين الحاج عيسى، كامل الدجاني، خالد أبو خالد، خالد نصرة، محمد القيسي، سلمى الخضراء الجيوسي، دعد الكيالي.
سؤال الدواة للنقاش: العلاقة بين الشعر الفلسطيني والقضية الفلسطينية، هل أثقل الوطن كاهل الشاعر؟ أم أثقل الشاعر كاهل الوطن؟
اجابة الدواة: في كتابه الحركة الشعرية في بلادنا فلسطين يقول د.نبيه القاسم (إنّ واقع القضية الفلسطينية فرض على الأديب الفلسطيني والذي هو جزء من بيئته أن يتابع شؤون وطنَه ويكتبَ عنه، بهذا تحولَ الشاعر ليكونَ صدى لصوتِ الجماهير والمحرض السياسي والداعية الى الثورة، لتصبحَ القصيدة أداة نضالية. هذه المهمة التي أخذها الشاعر على نفسه حجّمت تطوره الفني ومنعته من مجاراة التيارات الشعرية التي تتفاعل وتتطور.)
من جهة أخرى يقول الناقد د. عمر رمضان في مقابلة معه (مع أنّ أدباء فلسطين واكبوا الحدث السياسي بشتى اتجاهاتهم ومنطلقاتهم الحزبية والفكرية، إلا إنهم حافظوا - إلى حد كبير- على القيمة الفنية للإنتاج الأدبي).
وهنا نقول لا بدّ أنّ التوجه الوطني حدد أحيانًا التطور الفني في القصيدة، خاصة عندما يحتاج الشاعر الى المباشرة لإلهاب مشاعر الجماهير. كما أنّ وجود القضية الفلسطينية حتم واجب التوجه الوطني فكان لا بدّ لكل شاعر (حسب عبد الرحمن ياغي) أن يترك جزءا من ديوانه للقصائد الوطنية.
حتى اصطبغ الشعراء وخاصة شعراء المقاومة بالصبغة الوطنية، وطالبهم الجمهور دائمًا بسماع قصائدهم الوطنية التي تثير حماسهم، حتى وصل بهم الأمرُ الى محاولةِ فرض قصائدهم الأخرى على الجمهور لتعريفهم بجديدهم فيقول عن هذا الشاعر سميح القاسم في مقابلةٍ أجرتها معه مجلة الكرمل:
(كنت مرّة في أبو ظبي في أمسية شعرية. جاء الحضور وطلبوا أن يسمعوا قصائد يريدونها، فرفضت وقلت سأقرأ لكم ما أريد أنا. قالوا:
نريد
(ليلى العدنية) و (أتحدى) و(سأقاوم) و(منتصب القامة أمشي).. قلت لهم انسوا كل هذا الموضوع. أنا أصدرتُ كتابًا جديدًا اسمه كولاج وسأقرأ منه. اذا اعجبكم أهلا بكم، واذا لم يعجبكم يمكنكم ان تذهبوا، قرأت لهم، وفي اليوم التالي كتب أحدهم: هذا ليس شعر سميح القاسم! )
ويستطرد : (كنا أنا ومحمود، رحمه الله، نقيم أمسيات شعرية كثيرة مشتركة. ونجلس محتارين قبل الأمسية ماذا سنقرأ. فيقول محمود: تعسًا! لا بدّ أن يطلبوا منك (سأقاوم) ولا بدّ أن يطلبوا مني (سجّل أنا عربي)).
من خلال كلام القاسم، نلاحظ أنّ الجمهور احبه وعرفه بتوجه معين وصعُب عليه على الأقل في البداية تقبل قصائده الأخرى التي تتناول مواضيع أخرى غير الوطن، كأنما الشاعر الفلسطيني ليس انسانًا عاديًا يمكن له أن يحب ويكره ويفكر بأمورٍ حياتية عدا الوطن.
هنا في رأينا رغم كل هذا لكننا لاحظنا وحسب الدراسات عن الشعر الفلسطيني، أنّ هذا الشعر اكتسب تميزه ووجوده على خارطة الشعر العربي، كشعرٍ عربي له طابعٌ خاص منذ أن راحت قضيةُ فلسطين الوطنية تُطرح على الساحة العربية منذ عام 1908. ومع كل نقلة وطنية يلاحظ النقاد التطور في الشعر الفلسطيني..
بذا نجد العلاقة بين الشعر الفلسطيني والوطن علاقة تكافلية وإن كان أحدهما قد أثقل على الآخر أحيانًا.
ويقول د. محمد عبد عبدالله عطوات في كتابه (الاتجاهات الوطنية في الشعر الفلسطيني المعاصر) (اذا ما قورن الشعر الفلسطيني بأي شعرٍ ملتزم في أي بلد آخر فيُرى أنّ الشعراء الفلسطينيين يُعدّون في طليعة الملتزمين بقضايا شعوبهم في هذا العصر، ليس هذا فحسب بل إنّهم خير من يمثل الالتزام في تراثنا العربي المعاصر).
هنا لنا وقفة مع الشاعر بكر زواهرة والذي نهنؤه على صدور ديوانه الثاني عن دار الجندي للطباعة والنشر.
سؤال الدواة للنقاش: الشعر الفلسطيني والذي رأيناه على ارتباط وثيق بالقضية الفلسطينية وأحداثها الزخمة، هل يسير في تراجع وانحسارٍ في ظل توقيع الاتفاقات السياسية؟
اجابة الدواة: يذكر الكاتب نبيه القاسم في الحركة الشعرية الفلسطينية في بلادنا ص18 أنّ على أثر توقيع اتفاق اوسلو بين منظمة التحرير واسرائيل في 13\9\1993، افتتحت جريدة (اخبار الأدب) المصرية معركة على الأدب الفلسطيني بنشر تحقيق واسع بين عدد كبير من المثقفين المصريين حول " الأدب الفلسطيني في مفترق طرق" استهلته بأسئلة مثيرة مثل:
ـ ما الذي بقي لنعيش من أجله إذن؟
ـ هل ننسى شهداء المعارك في غمرة أحداث الزمن العربي الجديد؟
ـ الأدب الفلسطيني الذي ظلّ منذ حرب 48 وحتى الآن يتغنى بالقضية ومدافعًا ومناضلا من أجل تحرير الأرض من يد الآخر، ما الذي سوف يبقى منه؟"
هنا وعند سؤال شاعر المقاومة سميح القاسم هل انتهى شعر المقاومة؟
يقول في لقائه مع الكرمل: لن ينتهي أبدًا. طبعًا وأنا مستمر في هذا. بعد اوسلوا تساءلوا ما جدوى ومبرر شعر المقاومة؟.. أتساءل هل تحررت فلسطين في أوسلو؟ هل تحرر لواء الاسكندرون والأحواز وأوغادين؟ كلها ما زالت تحت الاحتلال. هل أنهى أوسلو جموح الانسان لكرامته وإنسانيته وحقوقه وحضارته؟ ما هذا الهبل؟ ما هو اوسلو؟ وأنا أقول دائما: حرروا جميع الأراضي المحتلة واشطبوا اسمي وشعري من الوجود بالكامل. في هذه الحالة يكون ما أريد قد تحقق."