

المائدة
هل يمكن ان يكون حقيقة معظم ما يظنه الناس وهم ولكن لا يراها إلا انت؟
لعل بعض ما يلمع ذهبا ولكن الناس لا يرونه إلا نحاسا وأنت الوحيد الذي تراه ذهبا!، ما الحقيقة إذن؟ هل هي التي نلمسها بأيدينا ونسمعها باذاننا ونراها باعيننا؟ هل يمكن ان تكون للحقيقة ماهية اعمق من الحس وأدق من التجربة وأكبر من البرهان؟ يقول الاقدمون ان الانسان يجب ان لا يكتفي باليقين بل يجب ان يصل الى عين اليقين. انني حائر حقا، قد اعاني من مرض عضال هو عدم التفريق بين الحقيقة والخيال، بين الوهم والواقع، وقد تزداد معاناتي عما قريب ولا استطيع التفريق بين الحياة والموت، فيلتبس علي الأمر ! ربما كنت ميتا منذ زمن بعيد ولكني وعيي انتقل بواسطة قوة عظيمة الى بعد آخر اعيش فيه بجسد من تصميمها وكل ما في هذه الحياة الزائفة التي اعيشها من صنعها، ألا يمكن ان تكون الحياة التي نعيش فيها مجرد زيف؟ وهم؟ خديعة قوى جبارة تصارع قوى مثلها من اجل السيطرة على الكون والوجود ونحن مجرد كائنات انتهى امرنا منذ آلاف السنوات ونظن اننا لا نزال احياء، اقوياء، مسيطرين، فاعلين، قادرين، متمكنين، ولكن الحقيقة اننا موتى، ووعينا يدور في حلقة مفرغة في اطار حياة زائفة وواقع ليس له وجود.
حسنا فلنفترض جدلا اننا نعيش حياة ما قبل الموت، وثمة حياة ما بعدها، فهذا يعني بأنها حياه والحياة لا بد ان يكون فيها مشاعر وأحاسيس، امال وطموحات، انتصارات وهزائم، وألا فأنها ليست حياة بل عدم وفناء.
قد يخطر في بالي باني قد عشت حياة قبل حياتي هذه، لعل ذلك ما يفسر ميلي لتلك العصور الوسيطة، كل الاحتمالات وارده، انا الان قد اعيش حياة ما قبل الموت، او حياة ما بعد الموت، وقد يكون لي حياة سابقة على حياتي، وقد اكون ميتا فعلا ووعي يعيش حياة مصطنعة، ولكن لا دليل حاسم على أي من هذه ألاحتمالات، انني اعيش الحيرة والوحدة، انني تائه وسابقى كذلك حتى اتيقن الى أي من هذه العوالم انتمي.
هل شعوري بالأشياء التي المسها بيدي تعبر عن الحقيقة التي أعيشها ؟ هل احساسي بالزمن والوقت حقيقة مطلقة لا يمكن لأي كان انكارها والتشكيك فيها؟ لا اعلم يقينا ولكن الشمس التي نراها تغيب لا نشاهدها على حقيقتها، فنحن نراها قبل ثمان دقائق، فالضوء هو من ينقل صور الموجودات لأعيننا وكافة جوارحنا، ولكن الشمس نراها في الماضي، وتحديدا قبل ثمان دقائق، اذن نحن نشهد الماضي في الحاضر! ولكننا نراه كأنه حاضر وحقيقة كاملة رغم انه ماضي في اصله وحقيقته وواقعه ! انها مأساة الانسان منذ ان وجد على وجه هذه الأرض، يعيش الحقيقة والسراب في نفس الوقت، الماضي والحاضر والحياة والموت في آن واحد، يبحث عن السعادة ويصارع من اجل البقاء ويسعى لامتلاك كل شي في هذه الحياة إلا ان معظمها ان لم يكن جميعا مجرد اوهام، سراب، خداع، المال الذي نسعى للحصول عليه بكل ما اوتينا من قوة ليس سوى مجرد اوراق، انها مضمونة القيمة ليس إلا وألا فليس لها قيمة، ان رفع عنها ضمانها تحولت الى مجرد أوراق، هل هناك وهم نعيشه اكثر من هذا ؟. نمتلك المليارات من هذه الاوراق ونمتلك الاراضي والعقارات، ولكن ما ان تقع حرب حتى تصبح قيمة عقارك مساوية لسعر قطة في بلد مترف ! ما ان تقع حربا حتى يتحول سعر الارض التي تمتلكها الى سعر قميص نوم! ما ان تحدث مجاعة حتى يتحول سعر قارورة الماء الى الملايين من الاوراق التي سعيت لجمعها طوال سنوات وسنوات، وما ان تموت حتى تنقطع علاقتك بكل ما تملك ولا تعد تملك أي شي! فقد سقطت ملكيتك بموتك!، هل هناك وهما اكثر مما نعيش فيه؟ لا شك عندي بأننا نعيش حياة ليست حقيقة وان بدت حقيقة، فالحقيقة قد تكون وهما، سرابا، وان بدت جلية ملئ الابصار والإسماع.
يدخل الى المطعم الذي افتتح مؤخرا عله يجد فيه نكهة مختلفة عما الفه، طعام لم يتذوقه من قبل، يتساءل دائما بأن في المدينة مئات المطاعم ولكنها تقدم نفس الطعام، لا توجد وجبات جديدة، ورغم ذلك عددها في ازدياد، يتفحص القائمة فيجدها نسخة مطرزة من قوائم بقية المطاعم، فقط الاسعار مخفضة بمناسبة الافتتاح، ما يفسر كثرة اعداد الزبائن، يضع القائمة في مكانها ويتجه نحو بوابة الخروج، يمر بين الزبائن الذين احتلوا اغلب طاولات المطعم، إلا انه في تلك الطاولة المنزوية كان شخص ستيني ينظر له بتمعن ويلوح له بيده، يتعجب منه فماذا يا ترى يريد منه؟، يتوجه اليه، كان شخص ضمن اربعة اشخاص اعمارهم متقاربة، كانوا ينظرون له بابتسامه يقول له الشخص الذي لوح له بان المطعم يبدوا بأنه لم يعجبه فيجيبه بان ليس فيه ما يميزه عن غيره..
لا يمكنك ان تقول ذلك إلا بعد تجربته.
اظنكم جربتموه فما رأيكم؟
يضحكون من كلامه، يطلبون منه الجلوس...
الستيني الذي لوح له - الحقيقة تختلف من شخص لآخر، انا جربته وقد يكون مميزا بالنسبة لي، بينما يقول صاحبي هذا – يشير على الذي بجانبه – ان نكهة الطعام مألوفة فايها الحقيقة؟
– لا اعرف!
– هل الحقيقة هي رأيك او اراء بعض الناس او اغلبهم؟
– الحقيقة باني لا اعرف بماذا اجيبك؟
– عدت لتحتمي بالحقيقة لتخفي عدم قدرتك على الوصول اليها!! الحقيقة لا يمكن ان تكون نسبية ابدا.
يبتسم ولا يدري جوابا..
انا ساعزمك على تناول ما تشتهيه.
يحرج من دعوته ولكنه يطلب منه عدم تكلف الامر..
لا تترد واطلب الوجبة التي تحبها.
هذا كرم منك.
ينادي النادل ويطلب منه وجبة كباب مع مشروب غازي..
ثم ينظر اليه الستيني الاول باقتضاب ويسأله:
قل لي ما رأيك بالمحافظ الجديد للمدينة؟
تتغير ملامحه..
ستيني آخر - ما بالك؟ لم يسألك عن رئيس البلاد بل عن المحافظ!
يتلفت يمينا وشمالا ثم يتجه اليهم بالكلام:
الحقيقة ان من عين المحافظ هو الرئيس!
يضحكون منه..
الستيني الأول - وبالتالي فانك ان انتقدت المحافظ فقد انتقدت الرئيس اليس كذلك؟
– بالطبع!
– وهكذا تعيش في الاوهام!
– وكيف ذلك؟
– لانه لديك في اعماقك موقف منه ولكنه غير معلن وتتصرف وتعيش بناء على موقف معلن وهو الطاعة والتأييد.
الستيني الثاني - وبالتالي فأنت لا تعيش الحقيقة بل تعيش حياة واهمة، اذ انك تعيش بشخصية مختلفة ليست شخصيتك، تتقمص مشاعر غير مشاعرك، وذات اغلب ما فيها ليست ذاتك.
الستيني الرابع - تتقمص دور شخص اخر، وتمارس حياة اغلب ما فيها مفروض عليك لا علاقة له بإرادتك وهويتك.
الستيني الاول - ذاتك وشخصيتك هناك مخفية في داخلك، فأي حقيقة تعيشها بدونهما؟
يصدم من كلامهم...
الستين الأول- المحافظ يفعل ما يشاء ليكون كل ما يفعله حقيقة نحن لا نريدها، هذه الحقيقة حقيقته هو لا حقيقتنا، أنها تعبير عن ارادته لا إرادتنا، فنحن اذن نعيش في حقيقته والحياة في حقيقة من صنع الاخرين ليس سوى زيف.
يأتيه النادل بوجبة الكباب، ينظرون له بابتسامات عفوية..
الستيني الأول - يبدوا بأنك لن تستمتع بأكل الكباب ونحن معك.
كلا بالطبع.
لا عليك، سننتظرك في الخارج ولن نغادر حتى تقول لنا رأيك بوجبة الكباب.
يغادرون تباعا ليبدأ بتناول وجبته.
هل ما اشعر به تجاه هذا الطعام حقيقي؟ لماذا اشعر باللذة في تناوله في الحلم إذن ؟ هل لان طعمه محفوظ في عقلي الباطن؟! هذا الكباب عندما اخرجه من فمي يتغير ويتحول الى مادة قبيحة مقززة وقد كان قبل لحظات دو منظر شهي مغري! فأي الصورتين حقيقته؟.
يبدوا لي بأن كل او معظم ما نشاهده ونسمعه ونشعر به ونلمسه لا ندرك منه إلا جانب من حقيقته وباقيه مجرد خدعة لكي نستمر في طوي مسيرة حياتنا التي لا يوجد فيها شي حقيقي سوى الوهم!.
يتناول طعامه على عجل لكي يلحق بأصحابه، يأتي اليه النادل..
تفضل سيدي هذه الفاتورة.
حسنا أذهب لمناداة الرجال الذين خرجوا قبل قليل ليجلسوا معي على الطاولة.
أي رجال يا سيدي؟
الرجال الذين كانوا معي، سنجلس قليلا ونشرب الشاي معا.
سيدي لم يكن معك احد ابدا!
ينظر له باستنكار وقد بدا عليه الغضب..
– سأدفع لكم ثمن وجبة الكباب، لست مفلسا، فقط نادي عليهم، انهم بالخارج.
– سيدي اقسم لك لم يكن معك احد ابدا!
– انك تهذي دون شك اين المدير؟
يذهب معه الى مدير المطعم الذي يستقبله بحرارة..
ثم ينظر المدير الى النادل ويطلب منه اخباره بالأشكال الذي بينهما..
– سيدي لقد طلب وجبة كباب ولكنه يقول انه كان معه اشخاص كان يتحدث معهم وأنا لم ارى معه احد ابدا.
– بل كان معي اربعة رجال.
– حسنا سنتحقق من الامر.
يفتح شاشة المراقبة ويركزها على الطاولة التي كان جالسا فيها..
يشاهد نفسه وهو يتحدث مع اشخاص لا وجود لهم!!
مستحيل، لا يمكن، لقد كانوا معي!
كما ترى، كنت تتحدث فعلا ولكن اما مع نفسك او مع اشخاص من صنع خيالك!
يقف مذهولا.
لقد كنت اتحدث مع اشخاص مثلكم، اناس من لحم ودم، كنت احادثهم ويحادثوني، هذه هي الحقيقة، ولكن الان عندما اشاهد نفسي ارى حقيقة مغايرة، فأيهما الحقيقة يا ترى، التي عايشتها او التي اراها الان مسجلة على هذه الشاشة اللعينة!
النادل كانت الحقيقة لديه انني كنت وحدي بينما الحقيقة التي كنت عليها ان رجال كانوا معي.
ينظر اليهما بوجه شاحب يائس، يضع يده في جيبه فيتراجعان خوفا منه..
يخرج محفظته ويضع المال على الطاولة ويغادر المطعم بهدوء.