الخميس ٣٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٣
بقلم رائد قاسم

العابرون

اضواء كثيفة في السماء.. البيوت والعمائر تتساقط كتساقط الاشجار في عاصفة هوجاء... الرعب القادم من يأجوج يملا الاصقاع.. مئات الجرحى يتدفقون على المستشفى مجددا.. يبذل ما في وسعه لمساعدتهم وتخفيف آلامهم... تغص اروقة المشفى بالمرضى واللاجئين الذي نزحوا من الشمال الذي يشهد اشد فصول المعركة الطاحنة ومعظمهم فقدوا منازلهم وممتلكاتهم ولم يعد لهم مكان يذهبون اليه...

لقد حقنته بدواء مسكن لتخفيف آلامه.

يبتسم الطبيب في وجهه كعادته ويتعامل مع الموقف بهدوء وتروي..

حسنا امسح الان على جسده بهذا المسحوق.

يبدأ بالمسح عليه فيحس بالراحة ويقول:

انني اشعر ان جراحي قد زالت.

ستزول عما قريب انه مسحوق مشبع بعلاج الالتهابات والجروح.

يقضي ساعات في معالجة المرضى ثم يذهب لغرفة صغيرة مخصصة للعاملين لأخذ قسط من الراحة الا ان هدير المدافع وازير الرصاص لا يدعان له أي فرصة للسكون... يضع قطن في اذنيه ليتمكن من انتزاع غفوة من الواقع المستعر، لا تمر عليه سوى دقائق معدودة حتى يفتح عينيه ليشعر بوقع اقدام مئات الناس وهم يتدفقون كالسيل في الممرات والأقسام التي اكتظت عن بكرة ابيها بالمصابين والجرحى... يزيل القطن عن اذنيه ويمضي مسرعا لباحة المشفى فيشاهد جموع غفيرة تحيط به من كل جانب.. يسأل بعضهم عما حدث فيخبرونه ان العدو ضرب بمدافعه احد الاحياء فسقط العشرات ما بين قتيل وجريح.. يسمع صراخ امرأة وهي تتوسل بأن ينقذ احدا ابنت جارتها التي قتلت وبقيت الطفلة تحت انقاض منزلها وهي تستغيث... لا يستطيع احتمال صراخها فيذهب بصحبة شبان اخرين الى الحي رغم تحذيرات الناس من حوله من خطورة الامر..

ما ان يتقدمون نحو الحي حتى يشاهدون دبابة تتقدم نحوهم فيختبون بسرعة بينما تمضي دبابة العدو دون ان تكترث لأمرهم... يبحثون بين انقاض البيوت المدمرة عن الطفلة فيسمعون صراخها وبكائها ومناداتها على أمها، يزيلون الأنقاض ليصلوا اليها ويحملوها بسرعة الى المستشفى تحت سماء توارى قمرها وغابت نجوم ليلها وأضحت تضيئها الصواريخ والقنابل الضوئية... يقص على الطبيب ما حدث:

لقد ماتت والدة الفتاة ولكننا تمكننا من انقاذها بسهولة.

(ببرود) حسنا فعلتم.

لقد شاهدنا دبابة وجها لوجه، كانت تتجه نحونا مباشرة ولكننا تمكننا من الفرار والاختباء بينما تابعت طريقها دون ان تطلق علينا النار.

(يخلع نظارته الصفراء) اظنهم عرفوكم مدنيين لذلك تركوكم وشانكم.

وهل يفرق هؤلاء بين المدنيين والمقاتلين، انهم مجرد قتلة.

يبتسم في وجهه قائلا:

 المهم انكم نجوتم.

الجحيم.. الدمار.. الحطام... كأن الارض قد خسفت... يفتح عينيه فيرى نفسه في منزله المدمر مرة اخرى..
اللعنة!! فعلتها للمرة الثالثة! امشي في نومي لأعود الى بيتي المحطم..

يسارع في الخروج من منزله ولكنه يسير رويدا وسط الحارات المدمرة خوفا من رصاصة مجهولة او قذيفة عابرة او صاروخ ضال.. يتلفت في كل اتجاه... يشعر بالأمان فينطلق بحذر باتجاه المستشفى فالخطر من ان يقوده حظه العاثر في وطأ لغم او قنبلة لم تنفجر او يراه جنود الاحتلال قائما الا انه ما ان يدخل احد الشوارع حتى يجد نفسه في مواجهة دبابة وحولها اربعة جنود..

ما ان يشاهدونه حتى يسرعون اليه ويوجهون نحوه بنادقهم ويأمرونه بالتوقف.. يقف وقد تملكته قوة وصلابة مشوبة بخوف يسري في نفسه بسرعة مهولة.. يحيطون به...

انت من تكون؟

(بأنفة) كما تروني ابن هذه الارض.

منذ ساعات طويلة لم نشاهد احد هنا.

لقد توجه اغلب الناس الى الجنوب بعد ان دمرتم منازلهم وإحيائهم وسويتموها بالأرض

انها الحرب ولكننا لا نريد بك اذى.

فماذا تريدون مني؟

سأعقد معك صفقة بموجبها ندعك تذهب دون ان نؤديك فنحن في حرب كما تعلم.
وماذا تريدون مني.

لقد فقدنا التواصل مع قيادتنا، كل ما نريده منك ان تدلنا على الطريق الى اسرائيل.

هل انت جاد فيما تقوله يا ابن اسحاق؟

يضحكون من رده..
بالطبع يا ابن اسماعيل!

ثم يتبادلون الضحكات فيما بينهم الا انه يجيبهم بحزم:
اذهب باتجاه الشمال وسوف تجد نفسك في دولتك.

احد الجنود:

كنت متأكد من ان هذا سيكون جوابه.
ثم يلتفت الى زملائه:
لقد ذهبنا باتجاه الشمال ولكننا لم نصل الى هناك كأننا في متاهة.
ولكن ماذا نفعل؟ هل لديكم حل آخر؟.
ثم يلتفت اليه قائلا له:
اتفاقنا نافذ، سنذهب للشمال ولكن ان تقابلنا مرة اخرى فبيننا هذه.
ثم يشير الى بندقيته...
يؤم له بالموافقة ويمضي مسرع الخطى الى المستشفى..
الا انه يسمع طلقة رصاصة فيختبا من فوره في احدى العمائر المحطمة..
يسمع شخصين وهما يتحدثان بصوت مرتفع..
لقد اختبا هنا.
يا هذا اخرج فلن تستطيع الاختباء طويلا.
ينظر لهما بحذر فيجدهما من المقاومة فيظهر لهما دونما تردد..
ظننتكما من الاعداء
ونحن ظنناك كذلك ايضا.
ماذا تفعلان هنا؟
هذا ليس من شانك.
ولكني التقيت قبل قليل بفرقة دبابة اسرائيلية.
ينظران الى بعضها البعض ثم يضحكان
يتعجب منهما..

 لماذا تضحكان؟
 انهم هنا منذ عدة ايام؟
 ولماذا اذن لم تجهزوا عليهم؟
 ولماذا لم يقتلوك عندما شاهدوك؟
 (بصدمة) فعلا امرهم غريب ولكن امركم اغرب.
 لقد امرنا قائدنا بعدم التعرض لهم.
 لماذا؟
 لا نعلم.
 كيف يكونوا قريبين منكم ولا تجهزوا عليهم وهم بعد منقطعين عن جيشهم ولا معين لهم؟
 انها الاوامر وليس لنا ان نكسرها.
 ولماذا انتم أيضا هنا ولا تغادرون هذا المكان؟
 لان القائد امرنا بذلك.
بت لا افهم شي لا منكم ولا من جنود تلك الدبابة اللعينة.
يتركما ويذهب مسرعا الى المشفى التي كانت مليئة عن آخرها بنازحين من سكان القطاع المنكوبين... يلتقي بالطبيب.
 جئت اخيرا، لماذا لم تذكرني بجرعة دوائك حتى لا تمشي اثناء نومك؟.
 اعدك باني لن انساه مرة أخرى فمنزلنا مدمر بالكامل وقد ينهار السقف في اية لحظة.
فجأة يسمعون ضجيج وهياج...
احدهم يدخل الى البهو وهو يصرخ قائلا:
الاعداء انهم قادمون الى هنا.
يدخل الجميع الى داخل مبنى المستشفى التي غص به الاف الناس.. تتقدم ارتال من الدبابات وتحاصره..
يطلب الطبيب من الناس الهدوء...
 ماذا سنفعل الان؟.
 لا تقلق سينسحبون.
 هؤلاء شداد افاق لا يخرجوا من ارض يطئوها إلا بالقوة.
يخرج مجموعة من الجنود من الدبابات ويتقدمون نحو بوابة مبنى المشفى..
قائد الجنود - انتم افتحوا الباب.
يأمر الطبيب بفتحه.. يدخلون المبنى وبنادقهم موجهة نحو صدور الفلسطينيين العزل..
الطبيب- انزلوا اسلحتكم فانتم لستم بحاجة اليها.
ينظر له قائدهم وقد تمكن منه الغضب المشوب بحقد وكره شديدين ثم ينزل سلاحه الرشاش فيفعل جنوده مثله الا انه يوجه اصبعه نحو الطبيب قائلا بغضب مستطير:
انتم من بدأت الحرب.

بل انتم المعتدون لا نحن، الحرب بدأت منذ احتلالكم لأرضنا وما هذه الحرب الا معركة من معاركها.
هذا ارضنا.

(بهدوء) اظنك تعلم من اين جئت قبل مجيئك الى هنا ولكنني وكل هؤلاء لا نعرف لنا وطنا غير هذه الأرض.
الأرض لمن غنمها وقد غنمناها بعد ان صححنا التاريخ الذي لن يعود الى الوراء ابدا.

بل الأرض لشعبها الذي ضحى وسيضحى من اجلها حتى يستجيب له القدر بالنصر والمجد.
ما انتم الا كالهنود الحمر.

بل من ورائنا امة تنصرنا واليها نعود اما انتم فالى من تنتمون؟

يسكت ولا يعطي جوابا الا انه سرعان ما يستشيط غضبا ليقول:

لن تستطيعون قتل تاريخ امتي ولكنكم قتلتم احلامي واحلام كل هؤلاء الذين معي.
ادرك معنى ما تقول واعلم انه كلام رجل لم يعد يملك شي.
(بحزن والم) كنت على وشك الزواج والعمل في شركة كبرى ستؤمن لي دخلا مرتفعا وحياة رغيدة، ولكنكم حطمتم كل آمالي، لقد فقدت بسببكم كل شي.
وهؤلاء انظر اليهم، لقد فقدوا كل شي ايضا إلا ايمانهم بعدالة قضيتهم.
يمسك ببندقيته قائلا..
الارض لمن ملكها ونحن لن نتنازل عنها ابدا.
ونحن دفعنا ثمن تمسكنا بأرضنا وسيدفعه من سيأتي بعدنا حتى النصر.
ينظر للجميع بازدراء ويغادر المبنى، يصعدون دباباتهم وينطلقون بعيدا..
يتنفس الجميع الصعداء الا انه يلتفت الى الطبيب ويسأله وقد تملكته الحيرة..
كيف لم يفرغوا رصاصتهم في صدورنا؟ انهم قتلة لا يتورعون عن قتل احد.
(بابتسامة) لعلهم لم يكونوا يستطيعون فعل ذلك.
لم يفهم مغزى ما يقوله الطبيب الا انه اطمئن الى مرور الموقف دون اراقة الدماء...
ساعات قليلة وتأتي دفعة جديدة من الجرحى الى المستشفى، يعلن الطبيب الاستنفار... بعض المرضى والجرحى كانوا مستلقين على الارض، تبلغه احدى الممرضات ان احدهم مريض جدا... يأمره بان يأتي معه للكشف عليه..
انني اتالم يا دكتور لقد تعرضت لقذيفة حارقة.
لا تقلق ستكون بخير فورا.
يحضر الطبيب المسحوق الاخضر ثم يمسح به على رجلي المريض...
بماذا تشعر الآن؟
تنفرج اساريره وتغمره الراحة...
 بماذا مسحت قدماي يا دكتور؟ انني اشعر براحة غامرة، لقد شفيت
تماما، لا شك في ذلك.
يمرغ يديه بالسائل مرة أخرى ويمسح به على بطنه وصدره ويديه..
لقد عدت شابا لا شك في ذلك.
ثم يمسح على رقبته وراسه...
يشعر بشفاء تام ويحاول النهوض إلا ان الطبيب يمنعه..
عليك بالاسترخاء عدة ساعات ثم يمكنك مغادرة المكان لإتاحة علاج مصابين اخرين.
ينظر الى الطبيب في تعجب شديد، يسأله عن سر هذا السائل الا انه يبتسم في وجهه ويأمره برعاية المرضى..
يتوقف القصف المتوحش ويسود الهدوء، يستغله في المشي قليلا بعيد عن المشفى الذي كان قبل فترة وجيزة حي لا يهدئ من زحام المارة وابواق السيارات ولكنه اضحى خرابا... يستلقي في الشارع المدمر.. يتمكن منه النعاس فينام إلا انه سرعان ما يستيقظ ليرى الضباب وقد عم المكان.. ضباب كثيف لم يعهده ابدا... يتمنى ان يبقى أيام بل أسابيع بلا انقطاع لكي يعمي العدو الا انه سرعان ما ينقشع فيسارع الخطى الى المستشفى، ما ان يصله حتى يشاهد الاف الناس وهم خارجون منه ويمشون بخشوع متوجهين نحو شمال القطاع... ينظر الى الافق فيلمح شفقا مشعا... يحاول التحدث مع بعضهم لمعرفة الى اين هم ذاهبين الا انهم لا يردون عليه. يتطلع في الاوجه عله يرى احد يعرفه فيشاهد الطبيب وهو يمشي بهدوء وطمأنينة.. يذهب اليه بسرعة..
ما الذي حدث؟ لماذا تغادرون المستشفى؟ قد يأتي مرضى وجرحى في أي وقت؟ وهؤلاء الناس كيف تدعهم يذهبون الى الشمال؟ ان العدو ينتظرهم هناك.
ينظر له ببرود..
انما نحن ذاهبين الى ذلك الشفق هناك الا تراه؟.
انني اراه ولكن لماذا؟
بعده غزة التي نريد وفلسطين التي نتمناها، اننا ذاهبون اليها وانت ايضا عليك ان تأتي معنا، لقد حان موعد رحيلك.
يشعر بصدمة.. يتملكه اضطراب... يغمره الخوف.. يتطلع في آلاف الناس السائرين بطمأنينة نحو الشفق.. لا يعرف ماذا عليه ان يفعل..
يعود للطبيب الذي يسير في سلام..
دكتورعليك العودة الى المستشفى، ان شعبك بحاجة اليك.
لا تقلق سيكون غيري هناك اما انا وانت فقد انتهت مهمتنا وعلينا الذهاب الى الشفق فبعده حياتنا الجديدة.
ماذا تقصد؟
تعال معنا وستدرك كل شي عما قريب
يوقف الطبيب ويمنعه من مواصلة طريقه.. القلق العاتي نال منه.. الخوف الرهيب تمكن منه...
دكتور انا...
يؤم له بصحة ما يظنه..
الا انه يساله بغضب مستتر:
انا حي اليس كذلك؟
هل تشعر بذلك حقا؟
نعم انا حي لم امت.
يضع يده على كتفه...
جد في السير نحو الشفق، هناك ستنتظرك حياة مليئة بالنور.
كلا (بغضب) انا حي، حي، انا لم امت، انا اعيش في وطني ولن اغادره، سوف ادفن في ثراه، انه ناري وجنتي، ومن ارضه سأخرج من قبري لأشكو الى الله كل ما اصابني واصاب شعبي.
يمسك به بكلتا يديه بقوة وغضب قائلا:
انا حي، وسأظل حيا حتى احرر وطني من الاعداء.
يبتسم في وجهه ويمضي نحو الشفق..
يصعد الى جدار محطم وينادي في الجموع السائرة نحوه...
انا حي، لم امت، سابقى هنا احارب الأعداء حتى النصر.
لا احد يسمعه..
انتم احياء، ابقوا هنا، تجلدوا، قاوموا العدو ببقائكم في ارضكم.
لا يسمعه احد..
سابقى هنا بمفردي، لن اذهب الى اي مكان وان كان الجنة، اتفهمون.
الا ان نور يأتي من الشفق ليغمر الجميع ويأخذهم معه الى غزة الجديدة حيث الامل والحرية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى