الطفولة الفلسطينية والفن : مقاومة للجلاد وترجمة للأحلام المسروقة
ما أن تتفاعل العدسة الطبيعية للمرء ولوحة "عبور" لذلك الفتى الذي يجلس على قارعة استراحة للشهداء، وكأنه ينتظر لحظة احتلاله لقبر ما وإن صَغُر، في الاستراحة التي تصلح للمخيم وسواه عشرات الشواهد التي تأمر الجودَ بقراءة سورة الفاتحة، وتُعرّف بضبابية على حال ساكني القبور، وتشكل مداً لأفق منغلق.
الفتى الذي يرتدي ملابس متواضعة ذات ألوان داكنة، ولا يعثر على حذاء مناسب بل يكره على ارتداء "بابوج" فقير ينتظر ويبكي الرفاق أو يجدد الأحزان على والده أو يمارس وجعاً اعتيادي
ا.
لم تغفل صانعة المشهد الفنانة نجوى الزريقي من حجز نسخة من قبر وضعت عليه إمضاءً واضحاً لاسمها، وربما هذا يدفع كل من يشاهد اللوحة للسؤال: لماذا؟
رأت نجوى النور قبل نكسة العام 1967وبدأت تمارس الرسم التشكيلي على مقاعد المدرسة، وكانت أول لوحة رسمها لزهرة "الليليوم"، وقدمت مدرسة الفن الأستاذة أمل عبدو تشجيعاً لنجوى التي أصيب وهي تحاول رفع العلم على سارية يوم استشهدت منتهى حوراني في جنين بالأراضي الفلسطينية العام 1976.تروي: استوطنتني الأحزان للمرة الأولى يوم مجزرة، وعبرت عن ذلك بالرسم أيضاً.
طرأ تحول كبير على ريشة نجوى العام 1992 عندما سقط شقيقها إبراهيم في السادس والعشرين من آب في اشتباك مع جيش الاحتلال قتل فيه ما يسمى بقائد المنطقة و جرح آخرون.
للأطفال نصيب…
تنافست مجموعة كبيرة من الأوراق والملفات على احتلال مكتب الفنانة نجوى، تشير الطائفة الأولى لصور تتحدث عن سجل كبير من لوحات ذات ألوان ومضامين مختلفة و تستقطع أمهات وأطفال جزءا كبيراً من عالمها، وتوثق في أخرى لمراحل النضال الفلسطيني، بنكهات اللجوء والتشرد والضياع والمقاومة والقتل، فيما أعمال الخزف تنقل روائع أخرى.
خرجت نجوى إلى الحياة في السادس من شباط العام 1960، في بلدة عرابة قرب مدينة جنين بعد أن أكرهت عائلتها على الرحيل من بلدتهم زرعين التي كانت تستلقي إلى الشمال الشرقي من جنين قبل نكبة العام 1948 وحول أسمها إلى " يزراعيل".
حصلت على الدرجة الجامعية الأولى في الفنون التشكيلية، وتحمل عدة نسخ أخرى من شهادات
في صناعة الزهور وتنسيقها، والرسم على الزجاج والأشغال اليدوية، وفنون صناعة الملابس، و رسم قصص الأطفال، وأسس تدريب منشطي الأندية الصيفية.
تنتمي إلى دار الفن التشكيلي " أصيل" التي تتخذ من جنين مقرا لها، وانضمت لنادي أصدقاء الفنان ناجي العلي الذي يعتبر ظاهرة في رسم الكاريكاتور.
تحفل سيرة نجوى الذاتية بعديد المشاركات الفردية والجماعية، فهي التي أقام معرضا شخصياً في الفن التشكيلي بالمدرسة ذاتها" الإبراهيميين" التي تخلد اسم شقيقها الشهيد إبراهيم و زميلة إبراهيم الفرقع،
مثلما أقامت معارض جماعية أخرى امتدت إلى دول مجاورة، ففي العام1989 شاركت في معرض أقامته جمعية الإصلاح الكويتية، وبعد سنة كررت المعرض ذاته في الكويت أيضاً، واحتضنت جامعة اليرموك نسخاً أخرى من أعمالها، وكذا جامعات النجاح في نابلس و بيرزيت والقدس المفتوحة في وطنها المحاصر.
وفتشت صحف من طراز الرأي العام الكويتية وكل العرب النصراوية والإتحاد والصنارة الحيفاويتين والقدس الفلسطينية عن أسرار المشهد الذي تصنعه الزريقي، كما فعلت مجلات كبلقيس المحلية وسيدتي السعودية.
تقول للطفولة والفن في بلدنا خصوصية كبيرة، فالكثير من الفنانين أدخلوا الأيدي الصغيرة لأعمالهم وترجموا الانتهاكات التي تعرضوا لها، وكذا الأحلام.
عبرت نجوى في غير عمل عن هؤلاء الضعاف، وصارت تنحاز للطائفة التي لا تستطيع في أحسن الأحوال مقاومة العبث الذي يقطع طريقها
إلى المدرسة.
أسئلة وجودية ووعي أيضاً..
"زمن للأخبار" عنوان فيلم سينمائي للمخرجة الفلسطينية عزة الحسن خرج إلى الشاشة الصغيرة العام 2001، وبه حضور كبير للأطفال، وكأنها فتحت الباب على مصراعيه كي يحصل الأطفال على مساحة حرة للبوح، فلديهم ما يمكن قوله.
من يشاهد الفيلم يتوقف ملياً عند "جيش" الصغار الذي ظهر محباً للتعليم، و منفتحاً على الحياة، محباً للتعاون والقيم والعلاقات الاجتماعية، غير منغلقاً على نفسه، وأن تأثر من بيئة غير صديقة له.
احبَ الأطفال في " زمن " عزة التطرق لروايتهم الخاصة حول ملابسات حياتهم وواقع أسرهم في ظل الرصاص الوقح، وأظهرت عزة نضج الصغار ومعرفتهم بتفاصيل تاريخهم وبخاصة مرحلة النكبة وتبخر المشروع الوطني.
من يشاهد الفيلم يخرج بنتيجة مفادها أن المخرجة أرادت الوصول إلى أن الحياة بلا أطفال حياة مائية، لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.
زادت الحسن من منسوب الوعي في شخصية أطفال يعرفون خطورة ظواهر من طراز العمالة الخارجة على القانون، وترجمت الصدق العالي والبريء لأطفال توصلوا لسؤال وجودي صعب: هل سنظل أحياء؟
من يشاهد" زمن للأخبار" يقف عند فكرة مفتوحة للزمان والمكان، ويستكشف العلاقة الحميمة التي تربطها مع الأطفال، الذين أبدوا حيرة من أمرهم بعد خمس سنوات فأجابوا بأنهم لا يعرفون ماذا سيحل بهم، و الموت مسيطر على رؤيتهم للمستقبل، بعد أن عاشوا نكبات رحيل أصدقاهم عن مقاعد الدراسة مبكراً وفجأة وظلماً في آنٍ معاً.
محاورة مع الموت
تقول عزة في حوار مع الناقد وليد الشرفا: في حالة الحرب يضيع الإحساس بالواقع ، لأن الوضع الاستثنائي يفقد الأشياء معناها الطبيعي، فالرسالة تبدو أكثر وضوحاً، وزمن للأخبار محاولة حوارية مع الموت وخلق جدل معه.
في فيلمي المخرجة د. علياء أرصغلي شهادة ميلاد و ولادات على الحواجز، بان الأطفال الذين لم يخرجوا بعد من أحشاء أمهاتهم، كالذين رأوا النور على مقربة من نقاط الإذلال والحواجز الوقحة، وكأن الأخيرة أرادت إسكات صوتهم وقمعهم، فها هي أول لحظاتهم تطارد من قبل جلاد لا يبتسم لملاك.
سيدون من يشاهد الفيلم أن الثمن الباهظ للاحتلال سيجابه ولو بعد حين بصرخات الأطفال وضحكاتهم. نقلت أرصغلي إلى الآخر رسالة حرية يتطلبها شعب بأكمله مثلما الأطفال.
أظهر المخرج فتحي عبد الرحمن في صيغة فيلمه ذات الأسلوب الخطابي الإعلامي رسالة إنسانية للعالم، تظهر " المخزون" الاستراتيجي الهائل في صدور الصغار الذين يتوقون للحرية ويفتقدون نعمها، في الفيلم انشداد لمشاهد تفتيش الأطفال عن حاجياتهم من تحت أنقاض وخرائب صنعها الاحتلال.
يقول الفتى أحمد إبراهيم الذي تابع الفيلم: صديقي ساري أيضاً واحد من هؤلاء الذين فتشوا تحت الأنقاض على كراريسهم خلال مجزرة نيسان 2002.
وتتشابه الحالة عند المخرجة ليانا بدر التي خصصت حيزاً من الفيلم للأطفال كي يعبروا عما يصول ويجول في خاطرهم، فهم هنا كناطقين رسميين يعبرون بجرأة عن الهموم والأحلام والرعب الصناعي.
أظهرت بدر في طيورها، مشاهد لطفل يود أن يتواري عن الأنظار في خزانة للملابس مرتدياً ثياباً سوداء، وكذا الطفل الذي ترعبه الكوابيس ، في إشارة للإفرازات النفسية للحقد الذي يولده الاحتلال، وفي الفيلم أيضاً ربط بين الطيور البريئة من الأطفال وتلك المخلوقات التي تطير بحثاً عن حرية ورغبة في الفرار من صياد وقح.
حياة ورصاص
يتحدث سعيد أبو معلا المحرر بقسم الصحافة في جامعة النجاح الوطنية عن تجربة الأفلام الوثائقية التسعة التي أنتجها الطلبة ضمن مشروع الاتصال السكاني الذي يرعاه صندوق الأمم المتحدة السكاني، واستطاعت الأفلام أن "تسقط أكثر من عصفور عن الشجرة بحجر طلبة قسم الصحافة الذين استعاضوا عنه بكاميراتهم.
في "حياة واحدة" ورصاصتان، تسرق رابعة (15 ) عاماً من مخيم عسكر القريب من مدينة نابلس الأضواء، فهي ضحية أخرى لجرائم الاحتلال، يتساءل الفيلم فيما إذا كانت الرصاصة طلقة عشوائية أم رصاصة حية أم كانت هدفاً لقناص أصاب الرأس لتتحول الحياة إلى مأساة، يجيب الفيلم على أسئلة ما بعد الشلل النصفي، واستقرار الرصاصة العمياء في الرأس.
رابعة أصيبت بشلل، يتساءل الفيلم بفن عن معاناة أهلها وكيف أصبحت حياتها؟
وكان للأطفال حضور ثان في فيلم " تحت الاحتلال نظام فوق الإشباع" يبدأ المشهد بحركات الألم حيث الطفل الذي يكون في حاضنة ينقل عبر الحواجز ليستمر في الحياة، ليعالج الوضع الصحي للمواطنين في ظل معاناة المرضى الذين تحولت حياتهم لكابوس، ومكان تدفع فيه خسارة فادحة.
تتحدث عين الكاميرا عن ولادة النسوة على الحواجز وصعوبات الوصول، ونزيف الأم التي كادت تدفع حياتها ثمناً لتلحق بركب طفلها الذي مات على قارعة الطريق ، والسبب تأخر سيارة الإسعاف على حاجز إسرائيلي!
"3 سم أقل"
عكس الفيلم الثاني في مرحلة العدوان الراهن لعزة الحسن( 3 سم أقل) المأساة الإنسانية برؤية مختلفة، وترجم بالصورة الثمن الباهظ الذي ينتج عن الصراع المستمر مع الاحتلال، و دلالة العنوان تقترب من حقيقة أن الجيل الجديد من الأطفال الفلسطينيين سيكون أقصر بثلاثة سنتمترات، بفعل سوء التغذية الناجمة عن الاحتلال و العدوان وتراجع الاقتصاد الفلسطيني، والفيلم قصة مأساوية عن تدهور دورين إنسانيين للأب والأم، حين تضيق يد الأبوين عن تقديم الرعاية لأبنائهما، لكن بشكل مختلف.
والفنانة الحسن رأت النور في العاصمة الأردنية، وتحمل شهادة الماجيستير في إخراج الأفلام الوثائقية من جامعة لندن في المملكة المتحدة، ولها عدة أفلام منها: السندباد ، وكوشان موسى، والمكان والسندباد ، ونساء تتكلم.
أطفال نُقّاد
عقدت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين، نهاية آب الفارق المؤتمر الأول لمشروع فلسطين المستقبل، بمشاركة 80 طفلاً من خمس محافظات في الضفة الغربية، ويهدف المشروع إلى تشجيع الأطفال على المشاركة الفاعلة لبناء رؤية مستقبلية لفلسطين ، وتمكينهم من التعرف إلى حقوقهم التي ضمنتها لهم المواثيق الدولية، وفي البيان الختامي للصغار، طالبوا بتخصيص زاوية وصفحات رئيسية في الجرائد اليومية والتلفزيون المحلي لهم بشكل أكبر، وكأن هؤلاء يوجهون حسب سمير رجب انتقاداً لاذعاً لحضورهم" الموسمي" في الإعلام.
عندما ينحاز الأطفال لتراثهم…
" ما بين حيفا وجنين شدينا ظهور الخيل…" باللوحة التراثية هذه والتي تنبع من عمق التراث الفلسطيني، شارك ستة أطفال فلسطينيين في مؤتمر الأطفال العرب الذي أنعقد نهاية آب الفارق في العاصمة الأردنية على اسم" تراثي هويتي"، وبمشاركة 19 دولة عربية وأجنبية.
قدم الوفد الفني الفلسطيني الملائكي، لوحة تراثية في تظاهرة فنية بحثت موضوع العولمة وتأثيرها على الثقافة.
يقول رئيس قسم الموسيقى في وزارة الثقافة رائد الكوبري الذي رافق الأطفال: نالت اللوحة التراثية التي قدمها الأطفال بإتقان شديد إعجاب الحضور، حيث أدى الصغار لوحة درامية راقصة بطريقة تتحدث عن كيفية تسلل العولمة إلى ثقافتنا، ومحاولات طمسها…
إذ مزجت بين الموسيقى العربية والغربية، و أدى أحد الأطفال دور عازف "السيكسفون" الذي وقف على بوابة العولمة الغربية ليمنع كل من يلبس التراث من الدخول من البوابة و من المشاركة في الرقص مشترطاً ارتداء لباس غربياً فوق ملابسه الشعبية، وأن يرقص رقصاً أجنبياً مسحوراً بعزفه وألوانه الجذابة التي انبثقت في الأفق أمامهم، وما أن تسللت أصوات الموسيقى الفلسطينية العالية لإلى مسامع الأطفال إلا وتجردوا من اللباس الغربي ورتبوا ملابسهم الشعبية، واصطفوا بحركات رائعة وتشكيلات متميزة ، يتخلل الغناء والدبكات.
يقول بسام الكعبي والد نضال أحد المشاركين في تأدية اللوحة أنها ليست المرة الأولى التي يقدم فيه الصغار لوحات فنية، فقد شرعوا بعروض مماثلة على جنبات جدار الفصل العنصري، في رسالة كلها دلالات عميقة…
طفولة وغناء ومخيم
ترعرعت أثمار ناطور في مخيم جنين الذي دفعها للإسراف، منذ أن بدأت معالم إدراكها بالتشكل، في الاستماع إلى الأغاني الوطنية التي راحت تأسر قلبها الصغير، وأخذت تحاول تقليد ما تسمعه، وشجعها شغف والدها بالغناء والتأليف للمحاولة ثانية.
في مكان لا زالت تستوطنه آثار زلزال نيسان الدم الذي حمل للمخيم رائحة الموت و التدمير في العام 2002، تعيش اليوم الطفلة أثمار بربيع عمرها السابع، وبإرادتها العالية المستوى لتشدو بكلمات تضع إصبعها على الجرح.
استقبلتنا أصوات للمغنية الصغيرة التي كانت تُسمعها فرحة لخالها منير سلمان القادم لتوه من ألمانيا …..
بعفوية تتخللها البراءة، جلست أثمار على أريكة يقابلها جهاز التسجيل الذي منح حوارنا مؤثرات صوتية للمغنية الصغيرة، رفعت معنوياتها، وجعلتها تتألق كثيراً وترتقي بسلم موسيقي عفوي: " دو، ري، ما، فا، سو، لا، سي" تقول مقاطع من الأغنية التي تحمل أسم " أنا الطفل الفلسطيني": أنا الطفل الفلسطيني في يوم الدمعة في عيني بدي قلم أرسم علم وبيت صغير يأوني…ما عندي فرحة ولا عيد ولعب وصبي جديد، خيّ بعيد وبي شهيد وأمي دايماً حزينة….
تستهل أثمار حديثها:شجعني بابا و ماما ومعلمتي هيام صدقي ومديرة مدرستنا، وكنت أُغني وأردد كل ما أسمعه، وكنت أحب الغناء كثيراً.
استطاعت ذاكرة الصغيرة تخزين كل ما سمعته، وشجعها والدها على تطوير موهبتها، وكانت هي تلحن الأناشيد التي تحفظها في مدرستها، وتشارك في احتفالات البستان والمدرسة، وظلت نصائح والدها تعيش في أعماقها، فهو الذي كان يقول لها: ستصبحين كبيرة وستغنين وسيعرفك الناس.
تقول إنها تأثرت كثيراً بأغنية الطفلة السورية هالة الصباغ التي كانت أغنيتها بالعربية واليونانية، وهو اللغز الذي ساعدها و الدها في فهمه، وراحت تحفظ المزيد وتردد في نفسها الكثير من الأغاني..
غمر الفرح أثمار، التي لم تكمل بعد صفها الثالث،حينما أخبرها والدها بأنه سيسجل أغانيها على كاسيت وقرص مدمج، واعتقدت أنه يمازحها، انتقلت لأمها وطلبت فحص جدية والدها، وكم عادت إليها السعادة في اللحظة التي تيقنت فيها أن والدها جاد في ما يقول.
سبق الشريط الذي حمل أسم "أنا الطفل الفلسطيني "بست أغانٍ: ما بدي منكم عيديه، يا قُدس العرائس، لحركتنا الأسيرة، نموت وتحيا فلسطين، يا أمي وينو بيّ، مشاركات لأثمار في حفلات مدرسية وأخرى في رام الله والجامعة العربية الأمريكية وفي طولكرم أيضاً، وفي كل مرة كان شعورها بالسعادة يملأ قلبها الصغير .
يقول والدها عن سر اهتمامه بابنته: لمست ذكاء أثمار في المدرسة، واستمعت لإنشادها وتعرفت لحبها بالشعر، وعندما كانت تقترب مني وأنا أعزف على العود كانت ترقص وتغني وهي لم تتجاوز الرابعة، وشعرت أنها موهوبة وشجعني أخوتي والجيران وصاحب ستوديو تسجيل للاهتمام بها.
أثمار، الابنة الأولى لعائلة متوسطة الحال، ووالد يعمل في حقل بعيد جداً عن الفن إذ يعمل في القصارة، لها أختين نّوّار ( ست سنوات)، مها ( أربع سنوات)، ونبيل ( عام ونصف)، تأثرت كثيراً بأغنية ( يا أمي وينو بيّ)، لأنها تنقل حورا بين أم وأبنتها، تسأل الثانية والدتها عن الأب الغائب، فتجيبها بأن سيعود مع القدس.
بعدها تحلم الابنة بأن فارساً قدم إليها ومنحها قنديلاً وسيفاً، وأوصها بأخذ القنديل وإعطاء السيف لأخيها.
تعلمت أثمار أن القنديل يعني الأمل و إضاءة الدرب وإكمال الحلم وعدم الاستسلام أمام الخوف، ومنذ تلك اللحظة صارت الطفلة تعشق أغنية أمل تقول : زَهّر يا ودّيان بلادي…
تحلم أثمار بالوصول إلى نجومية ديانا كرزون، الأردنية التي اختطفت لقب "سوبر ستار العرب" بنسخته الأولى، فصوتها عذب وبه من الحنان ما يشجعني على الغناء" هكذا تقول المغنية الصغيرة التي تستذكر علاقتها باللحن في لحظات الخوف والموت، فعشية نيسان 2002،وبعد احتماء عائلتها في منزل عمها، راحت تطلق صرخات غناء هرباً من الخوف وأصوات القذائف، لكن الأخيرة كانت تطغى عليها، فاضطرت لتبديل عشقها بالغناء وإسعاد الخائفين بالنوم أحياناً.
تحتفظ أثمار بصداقة مع أنصار عكرمة، التي فقدت والدها قبل ثلاث سنوات في حادثة اغتيال، تقول: ذهبت لمواساتها وتسليتها وحاولنا اللعب بالكمبيوتر وفي الحي، وكنت أقول لها أن والدها لم يمت وإنما ذهب إلى الجنة.
نسقط على المطربة الصغيرة جداً سؤالاً صعباً، فنقول لها: ما الذي ستقولينه لأنصار إذا ما عاتبتك وقالت لك (ليش بتّغَني وأبوي ميت؟)، ترد : سأقول لها بأنك كبيرة وكبرُت على البكاء، وهناك المئات مثلك بلا آباء، فالغناء أصلا يخفف من الحزن …
تحلم أثمار بالتحول إلى طبيبة أطفال بشرط أن تبقى على علاقة مع الغناء، وتشكل شغفها بطب الأطفال من اللحظة التي كانت تزور فيها الطبيب الذي كان يخلصها من الألم، أما الغناء فأنها يقضي على الملل كما تقول.
تعشق اللغة العربية والشعر، مثلما تعبر عن أحلامها بالرسم، إذ عكفت على صناعة مشاهد لرجال يعزفون على أدوات موسيقية إلى جانب مشاهد من الاجتياح الكبير، وكأنها توصلت في سن مبكرة لعلاقة الفن بالإطاحة بالألم…
علق في ذهن صاحبة الوجه الملائكي، رسماً من كراس ( سوا سوا )، الذي يحكي قصة العدوان الإسرائيلي الثقيل للمدن الفلسطينية، عن تلك الطفلة التي اعتادت على استخدام هاتف عمومي قريب من بيتها في كل يوم، وذات مرة وقفت الدبابات بجانبه وصعدت عليه ودمرته، تعلق على ذلك المشهد: تعلمت إذا ما خسرت شيئاً أحبه، فسأزعل كثيراً..
يستعرض والدها مراحل إخراج الشريط إلى الحياة، فعمد بداية إلى تسجيل الأغاني في ستوديو محلي، ثم بعثها إلى الأردن، حيث تولت شركة خاصة تلحين الأغاني وإنتاجها بشكل نهائي، وساهم ملحن عراقي في وضع لمساته عليها.
استمر مشوار مصطفى ناطور ستة أشهر، وأستنفذ ميزانيته المتواضعة ( ألف وخمسمائة دولار)و المتراكمة من أعمال شاقة.
يسترسل: كانت الأوضاع العامة في المخيم، وظروف الأطفال المعذبين، ومواهب أثمار وجروح صديقتها التي فقدت والدها، دفعتني للتفكير ملياً في فعل شيء، ووضعت نفسي في موقع من رحلوا وتركوا أطفالهم بلا حنان وحب ورعاية .
تسلل الإحباط إليه، كونه لم يلق تشجيعاً من أحد، لكن أصر على إكمال مشواره بمفرده، وتتلاقى جهوده ومساعي منير سليمان خال أثمار الذي "شيدّ" موقعاً إلكترونياً على شبكة الإنترنت للمغنية الصغيرة، لخص أعمالها بالعربية والألمانية والإنجليزية، ويطلق مساحة لأحلام الأطفال، مثلما ينقل للعالم تحديهم للموت الأعمى الذي لا يوفّرهم أو يرحمهم..
حلم وفن وموت
بدا المواطن فايز أبو سيفين ابن العقد الرابع، مع القليل من الإضافات، تائقاً لتأسيس عمل ما يسهم في توفير حياة مقبولة لأطفال وطنه كما يقول.
وفايز الذي يسكن بلدة اليامون، 9 كم شمال غرب جنين، يحلم بتأسيس محطة تلفزة محلية تعنى بالأطفال وتقدم لهم كل شيء يساعدهم على أن لا يصيحوا رجالاً قبل أوانهم بكثير.
كان ابنه سيد ( 14 عاماً) يلهو مع مجموعة أطفال في حقول بلدتهم ذات يوم من آذار 2002، حينما أطلقت عليه آلة موت ثقيلة رصاصة من عيار 500 لتدونه في سجل الشهداء.
يقول: كان ولدي شغوفاً بكرة القدم، وأسس فريقاً أطلق عليه اسم ( منتخب الشباب) ، راحوا يجرون مباراتهم التدريبية والودية فوق مقبرة البلدة، بعد أن تقلصت الخيارات يوجههم.
يتابع: لا ملاعب لدينا، ولا ملاهي، ولا حتى أحلام، المدارس بعيدة، والشوارع محطمة، والألعاب مفقودة.
أضطر الأطفال على ما يبدو اللهو بدبابات الاحتلال، وراحوا يحاولون الصعود عليها، ولم يعتقدوا أن ذلك ريما سيفقدهم حياتهم.
نقل فايز هذه الوقائع وغيرها لصحافي أمريكي جاء يبحث في أسرار موت الفلسطينيين الصغار، تنقل وإياه في الملاعب المقابر، والشوارع الرماد والبيوت المدمرة وشاهدا الحواجز والقتل.
منذ رحيل ولده، وأسر نجله جبران لسنيتين راح يفكر في تأسيس برامج معينة تعنى باستثمار طاقات الشباب، وتدفعهم لممارسة حقهم المشروع في اللهو والفن والحياة العادية.
لا زالت ذاكرة الوالد المجروحة تختزن اللحظات الحلوة التي قضاها مع ولده، ولا ينسى كيف طور الصغير مقصف مدرسته وجعلها تدر أرباحاً اقتربت من العشرة آلاف دولار في زمن قياسي.
تألم فايز كثيرا لأن أطفالنا يكبرون عمرهم، ويكرهون على تجاوز طفولتهم البريئة.وأصبح يكره السياسة، ويحب أن يؤسس ما يسعد الأطفال ويدخل البهجة إلى قلوبهم رغم الدمع و الدم، ولا يتأتى ذلك الفعل إلا بالفن الهادف.
مشاركة منتدى
7 نيسان (أبريل) 2010, 02:18, بقلم ابنة الامعري
احيي القائمين على مثل هذة النشاطات والتي تبين الوجه الحضاري والراقي لشعبنا الفلسطيني وخاصة الاخ رائد الكوبري ولكن اتسائل اين دور اطفال المخيمات في مثل هذة النشاطات الرائعة مرة ثانية احيي القائمين والى الامام .............
23 حزيران (يونيو) 2010, 00:49, بقلم علفتن
حسبن الله وانت نعم الوكيل