السبت ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٤
بقلم رامز محيي الدين علي

الثّقافةُ: هوايةٌ أم غذاء؟

في حوارٍ دار بيني وبينَ بعضِ الأصدقاءِ من زملاءِ مهنةِ التّدريس حولَ قضيّةِ الثّقافة التي تهمُّ كلَّ عقلٍ متفتّحٍ يرنُو إلى توسيعِ مداركِه؛ كي يعيَ ما يدورُ حولَه، في محيطِه المحدودِ وعالمِه الواسعِ الّذي يعجُّ كلَّ هنيهةٍ بالأنباءِ والمعارفِ الجديدةِ، سواءً كانت سياسيّةً أم اقتصاديّةً أم اجتماعيّةً أم علميَّةً أم أدبيّةً، ويُعدُّ الجهلُ بأوّلياتِ هذه المعارفِ المتنوّعةِ أمّيّةً لا تقل سوءاً عن أمّيّةِ القراءةِ والكتابة.

إنّ الإحاطةَ أو قُلِ الإلمامَ على الأقلِّ بأطرافِ هذه المعارفِ المختلفةِ تُملي على المرءِ القراءةَ والمطالعةَ والبحثَ في شتّى وسائلِ التَّثقيفِ المكتوبةِ والمرئيّةِ والمسموعةِ، إضافةً إلى أحدثِ وسيلةٍ في التّثقيفِ السّريعِ والشّاملِ في كلِّ ميادينِ الحياة عبرَ شبكةِ الإنترنت العالميّةِ الّتي تستطيعُ أن تضعَ كلَّ ثقافاتِ العالم وأحداثِه وأخبارِه بين يديكَ في لمحِ البصر، دون أن تتكبَّدَ عناءَ السّفر من بلدٍ إلى آخرَ أو من مكتبةٍ إلى أُخرى، فهذه الشّبكةُ العالميّةُ حوّلتِ العالمَ إلى بيتٍ صغيرٍ لا إلى قريةٍ صغيرةٍ فحَسْب.

وقضيّةُ المطالعةِ والتَّثقيفِ الذّاتيّ مُهمّةٌ وضرورةٌ أساسيّةٌ في المجتمعاتِ المدنيّةِ الرّاقيةِ والمتطوّرة، لكنّها ما زالتْ تحتلُّ حيّزاً ضئيلاً في أذهان النّاسِ في المجتمعاتِ النّامية، ومنها مجتمعُنا العربيُّ، بل إنّها لا تَلْقى كبيرَ اهتمامٍ حتّى عند الخاصّةِ منّا، ولا سيما عند أولئكَ الّذين يحملُون شهاداتٍ ذاتِ الطُّولِ والعَرض، ويُصنَّفُون في سلَّمِ العرفِ الاجتماعيّ في الطّبقةِ الواعيةِ المتعلّمةِ، ويُطلِقُ عليهم عامّةُ النّاس لقبَ (المثقّفون) في أبسطِ الأحوال.

لكنّ الحقيقةَ تُجرّدُ حسامَها؛ لتفرّقَ بين المثقَّفِ منهم وبينَ المتعلِّمِ، بين ذلكَ المثقَّفِ الّذي وضع لنفسِه برامجَ للتّثقيفِ، وراح يشحذُ الهمّةَ ولا يألُو جهداً في سبيل الوصولِ إلى مناهلِ المعرفةِ المختلفةِ، وبين ذلك المتعلّمِ الّذي قصَرَ بصيرتَه على وُريْقاتٍ فرضَتْها عليه مناهجُ الدّراسةِ المحدودة، ولم يحاولْ أن ينهلَ من ينابيعِ المعرفةِ الثّرة إلّا النُّذرَ اليسير، فبقيَ أفقُهُ محدوداً لا يُبصِرُ من الدُّنيا أكثرَ من مستوى أنفِه كما قيلَ.

والمشكلةُ أنَّ كثيراً من هؤلاءِ المتعلّمينَ يحاولُ أن يُبرّرَ تقصيرَه الثّقافيَّ بمبّرراتٍ واهيةٍ يربطُها بالظّروفِ المادّيّةِ تارةً، فيدّعي أنْ ليسَت لديهِ القدرةُ على شراء الكتبِ أو المجلّاتِ أو الصُّحف، وينسى في الوقتِ ذاتِه أنّ المراكزَ الثّقافيّةَ والمكتباتِ العامّةَ تنادي النّاسَ جميعاً: تعالَوا وأحيُوا رفوفَ كُتبي قبلَ أن تنهارَ، ومقاعدَ وطاولاتِ المطالعةِ قبل أن تتحطَّمَ، وكُتبي الّتي أكلَ عليها الدّهرُ وشربَ وعفَّى عليها قطارُ الزّمنِ، حتّى غدتْ أطلالاً دارسةً تومِئُ بالوقوفِ عليها للبُكاء.

ويحاولُ البعضُ الآخرُ تارةً أخرى أن ينسِبَ ضعفَه إلى الظّروفِ العائليّةِ، فيدّعي أنّ همومَ الأسرةِ والحياةِ ومتطلّباتِها تتثاقلُ عليه وتمنعُه من المطالعةِ، بل إنّ أولادَه يُعكّرون عليهِ صفوَ الحياةِ، ويسرقُون منه أوقاتَه، ويمزّقُون ما لديهِ من كُتيّباتٍ وينثرونَها وُريقاتٍ هنا وهناكَ مثلَ أوراقِ الخريف، ولكنْ هيهاتَ هيهاتَ! فمَن قال لهؤلاءِ أن يُنجِبُوا فريقَ كرةِ قدمٍ أو قبيلةً متراميةَ الأطراف؟! لعَمْري إنّ هؤلاءِ بحاجةٍ ماسّةٍ إلى تنظيمِ النّسلِ قبل تنظيمِ الوقت، ويَنسى هؤلاءِ أنَّ من أُولى مهامّ الطّبقةِ الواعيةِ تحديدَ النّسلِ وتوعيةَ العوامِّ بمخاطرِ غزارةِ الإنتاجِ البشريّ.

فعندَما يكونُ عددُ الأولادِ محدوداً، يستطيعُ هذا المتعلّمُ أن يسايرَ الحياةَ، ويوفّرَ لنفسِه الجهدَ والوقتَ والمالَ لسعادةِ ورفاهيّةِ العيالِ، دون التّفكيرِ الطّويلِ وانشغالِ البالِ، وحينَها يستطيعُ أن يوفّرَ لذاتِه بعضَ الوقتِ للمُطالعة، ويمكنُه أن يخفّفَ من أعباءِ الحياةِ القاسية الّتي نحيَاها في بلادِنا العربيّةِ الّتي غدَت شاةً طيّبةً يحلبُها الحكّامُ، ثمَّ تفترسُها ذئابُ العالم المتوحّشةُ.

وفي غمرةِ حديثِنا السّاخنِ حول كينونةِ الثّقافةِ وماهيّتِها، ذهب أحدُ الزّملاءِ إلى أنّ المطالعةَ هوايةٌ، بحجّةِ أنّها كالرّياضةِ أو الفنونِ المختلفةِ من رسمٍ أو نحتٍ أو تصوير.

فأجبتُه بأنّنا نستطيعُ أن نسلّمَ بأنّ المطالعةَ هوايةٌ كغيرِها من الهواياتِ، لكنّها لا تلبثُ أن تتمكّنَ من نفسِ الإنسانِ فتُصبحَ إدماناً، لكنّه إدمانٌ راقٍ يسمُو بالنّفسِ، ويرتقي بها إلى المجدِ والسّؤددِ، فتصيرُ آنذاكَ حاجةً أساسيّةً عند الإنسانِ، فكمَا أنّ الرّياضةَ تبدأُ هوايةً عند الإنسان، ثمّ تصيرُ احترافاً، ثمَّ لا تلبثُ أن تتحوّلَ إلى غذاءٍ لجسدِه وروحِه وفكرِه معاً. وكذلك الفنونُ المختلفةُ من شعرٍ ونثرٍ وروايةٍ وقصّةٍ ومسرحيّةٍ وموسيقى ورسمٍ وتصويرٍ تبدأُ هوايةً، ثمّ تصيرُ إلى غذاءٍ ينمّي الفكرَ ويسمُو بالرّوح، ومثلُها الثّقافةُ فإنّها تبدأُ هوايةً، ثمّ لا تلبثُ أن ترسَخَ جذورُها في النّفسِ فتتحوّلَ إلى حاجةٍ أساسيّةٍ كالماءِ والهواءِ والغذاء، لكنّها غذاءٌ من نوعٍ راقٍ؛ إنّها غذاءُ العقلِ والرّوح؛ لأنّ من الثّقافةِ ما يُخاطبُ عقلَ القارئ، ومنها ما يُخاطبُ وجدانَه وأحاسيسَه.

وقلْنا إنّ المطالعةَ غذاءٌ، وكلمةُ غذاءٍ تَعني أنّ الإنسانَ السّويَّ بحاجةٍ ماسّةٍ إليها، وإذا كانتِ الثّقافةُ حاجةً، فالسّعيُ وراءَها إذاً ليس هوايةً، بل هو واجبٌ ضروريٌّ كضرورةِ الطّعام والكِساءِ والنّوم. ومن هنا يمكنُنا القولُ: إنّ الثّقافةَ حاجةٌ أساسيّة، بل هي الحاجةُ العُليا للمجتمعاتِ تفرضُ نفسَها فرضاً على الإنسانِ السّليمِ العقلِ والرّوح، فكِلا هذينِ طاقةٌ أبدعَها اللهُ عزّ وجلَّ في الإنسانِ، وأبدعَ لهما الغذاءَ المناسبَ الّذي تتوافرُ فيه كلُّ الفيتاميناتِ الضّروريّةِ، وهذا الغذاءُ هو الثّقافةُ.
وفي رأْيي الشّخصيّ أنّ الظّروفَ مهما جارَت على الإنسانِ ودارَت رحَاها عليهِ لا تستطيعُ أن تحُولَ بين المرءِ و عقلِه أو قلبِه، بل إنّ منطقَ الحياةِ يعلّمُنا بأنّنا نستطيعُ أن نقهرَ الحياةَ وأن نتَصدّى لجَورِها بالوعيِ والثّقافة؛ لأنّ العلمَ نورٌ والجهلَ ظلامٌ كما قالُوا؛ فبِنورِ العلمِ يمكنُنا أن نُضيءَ كلَّ جوانبِ الحياةِ المظلمة، و بنورِ المعرفةِ نستطيعُ أن نُزيلَ كلَّ البراقعِ والسدولِ؛ لنصلَ إلى ضميرِ الحياة، وهذا النّورُ الوضّاءُ لا يمكنُ أن نمتلكَ منابعَ أشعّتِه إلّا بالجهدِ المتواصلِ والمطالعةِ الدّؤوبِ والبحثِ المنظّمِ في ميادينِ الثّقافةِ والمعرفةِ المتنوّعة.

إنّ الثّقافةَ إذنْ غذاءٌ للعقلِ ودواءٌ للرّوح، فكلُّ إنسانٍ -سمَتْ مداركُه أو دنَت- يحتاجُ إلى هذا الغذاءِ الّذي يُملي عليْنا أن نكتنزَ بعضَ ثمراتِه، لا أنْ نستَحوذَ على قسطٍ عظيمٍ منها؛ لنصبحَ علماءَ، فضرورةُ الحياةِ الواعيةِ الّتي تحقّقُ الذّاتَ الإنسانيّةَ تفرضُ علينا أن نعيَ ذاتَنا ونفهمَ جوانبَ حياتِنا.

فبمثلِ هذا الفهمِ، وبمثلِ هذا الوعيِ يستطيعُ الإنسانُ أن يعرفَ أين هوَ، ولماذا هوَ، وإلى أينَ هوَ؟

وحينما تُدرَكُ هذه الأيناتُ يتحقّقُ وجودُ الإنسان، ويشعرُ أنّه كائنٌ فعّالٌ في الحياة ومنفعلٌ معَها، ولن يتحقّقَ هذا التّفاعلُ البنّاءُ دون وجودِ الوعي الّذي تشكّلُ الثّقافةُ أهمَّ ركائزِه وأرسَى دعائمِه.

ولا تنسَ يا عزيزي أنّ الثّقافةَ تُقوّمُ سلوكَ الإنسانِ، فيستقيمُ بها إلى السّدادِ والصّواب، ولذلكَ قالُوا في اللّغةِ: ثقّفَ الشّيءَ إذا أقامَ المعوجَّ منهُ وسوّاهُ، وثقّفَ الإنسانَ: أدّبهُ وهذّبهُ وعلّمهُ. وقديماً عرّفُوا الأدبَ، فقالُوا: هو الأخذُ من كلِّ علمٍ بطرفٍ، أي الإلمامُ بجانبٍ من جوانبِه، وهذا ينطبقُ على معنى الثّقافةِ.

فإذا كانتِ الثّقافةُ لتأديبِ الإنسانِ وتهذيبِ سلوكِه وتنويرِ عقلِه بالمعرفةِ، فهل بقيَت الثّقافةُ هوايةً، أم صار تْ ضرورةً كالغذاءِ للفردِ والمجتمع؟!

ثمّ إنّ الثّقافةَ معيارٌ أساسيٌّ يأتي في مرتبةِ الصّدارةِ في سلّمِ المفاضلةِ والمقارنةِ بين الدّولِ والمجتمعاتِ؛ فنحكمُ على هذا المجتمعِ بالتّقدُّمِ بقدْرِ ما عندَه من تقدُّمٍ في العلومِ وتطبيقاتِها ونتائجِها ووعيٍ باستخداماتِها. ونقولُ عن مجتمعٍ آخرَ: إنّه متخلّفٌ بقدرِ ما عندَه من بعدٍ عن الثقّافةِ والعلومِ وثمارِها، لكنّنا لا نستطيعُ أن نقولَ عن هذهِ الدّولة: إنّها متقدّمةٌ ومتطوّرةٌ بما تملكُ من تفوّقٍ في الرّياضةِ أو الموسيقى أو الرّسم أو غيرِها، وعن دولةٍ أخرى: إنّها متخلّفةٌ؛ لأنّها لا تمتلكُ المهارةَ في تلك الفنونِ، في حينٍ نستطيعُ أن نحكمَ على دولةٍ بالغِنى بقدْرِ ما تمتلكُ من الثّرواتِ الزّراعيّةِ والصّناعيّةِ والتّجاريّةِ والماليّة، ونحكمَ على نقيضتِها بالفقرِ لافتقارِها إلى تلك الثّرواتِ، ونستطيعُ أن نقرَّ حينذاكَ بأنّ المالَ حاجةٌ أساسيّةٌ للدّولِ والمجتمعات، وليس هوايةً يتبارَى فيها الأفرادُ والنّاسُ، لكنّ الثّقافةَ تظلُّ الحاجةَ العُليا فوق كلِّ مالٍ وسلطان. وهنا يُفْضي بنا النّقاشُ إلى مثلَّثٍ أيديولوجيٍّ خطيرٍ في تاريخِ الدّولِ والشّعوبِ والحضارات، وهذا المثلّثُ يتألّفُ من زاويةٍ منفرجةٍ تمثّلُ الثَّقافةَ والعلمَ، وزاويتينِ حادّتينِ تمثّلُ إحداهُما المالَ، والأُخرى السّلطةَ والحكٍم.

وهنا تتجلّى أهمّيّةُ كلٍّ منهما ودورُه في الحياةِ، إذ إنّ المالَ وسيلةٌ يمكنُ أن تُسهمَ في تطويرِ العلمِ والحكمِ، لكنّ المالَ دون علمٍ لا ينفعُ، فسرعانَ ما يؤُولُ إلى زوالٍ، والحكمُ دون علمٍ كرأسِ النّعامةِ في الرّمال، أمّا العلمُ فيستطيعُ أن يُوجدَ المالَ النّافعَ والحكمَ العادلَ، كما نرى اليومَ في الغربِ: المالُ لخدمةِ جميعِ النّاس، لا حكرٌ لفلانٍ دون فلانٍ باسمِ السّلطةِ أو القانونِ، وما أدراكَ ما القانونُ؟ والحكمُ لجميعِ النّاسِ، لا لابنِ فلانٍ أو لقبيلةِ أو طائفةِ أو حزبِ عِلّانٍ.

فهناكَ يستطيعُ العاملُ والنّجّارُ والممثّلُ والمغنّي.. أن يصبحَ حاكماً على النّاسِ ما دام يمتلكُ العلمَ والخبرةَ والشّرعيّةَ الانتخابيّة، فليس الحكمُ لأحدٍ إلى الأبدِ، ولا يُورَّثُ وراثةَ الأنعامِ للأبناءِ والأحفادِ، وليس حكمُه مستمدّاً من الإلهِ، بل من إرادةِ العاملِ والفلّاحِ والفنّانِ والعالمِ والجاهلِ والشّريفِ والرّذيلِ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى