التصور الأميركي للإصلاح في العالم العربي
إذا كانت لغة المصالح هي ما كان يؤطر طبيعة العلاقات القائمة بين الإدارة الأمريكية و الدول الدائرة في فلكها, فكيف أصبحت لغة الديمقراطية و حقوق الإنسان طرفا فاعلا في هذه العلاقات و هل وجودها يلغي لغة المصالح أم هو مجرد إعادة إنتاج لها بما يوافق المتغيرات المحلية و الدولية؟ هل نحن إذن إزاء فورة ديمقراطية يروم الشمال تحقيقها في الجنوب أم أن لعبة الديمقراطية هذه ما هي إلا إعادة إنتاج لرسالة الرجل الغربي الحضارية تجاه الجنوب المتوحش و التي شكلت و على امتداد قرون طويلة مطية لاستعمار هذه الشعوب و نهب خيراتها؟
أضحى مطلب الإصلاح السياسي البند الأساس الذي لا يكاد يخلو منه جدول لقاء أو قمة قد تجمع الأقوياء بالضعفاء, مما يعطي لطبيعة علاقة بلدان الشمال و الجنوب صفة الحرب الديمقراطية بامتياز ذلك بأن بلغ الأمر إلى درجة التلويح بفرض هذه الإصلاحات بالقوة بما سمح لبعض المتتبعين بالحديث عن عنف ديمقراطي بديل للعنف الثوري الذي طالما أطر تصور البلدان العظمى بالمعسكر الشرقي سابقا لشؤون غيرهم. هكذا إذن أضحت تقارير حقوق الإنسان الصادرة عن التنظيمات الحقوقية بالدول العظمى مدخلا مميزا لهذه الدول لابتزاز الدول الصغرى و الضغط عليها كما أصبح الإعلان عن تعديلات دستورية تقلل من احتكار السلطة بدول الجنوب رسالة من قادة هذه الدول للتعبير عن حسن النوايا تجاه الشمال أكثر مما هي تعبير عن تلبية لحاجة داخلية تهم مصالح شعوبها فهل يتعلق الأمر فعلا بفورة ديمقراطية يروم الشمال تحقيقها في الجنوب أم أن لعبة الديمقراطية هذه ما هي إلا إعادة إنتاج لرسالة الرجل الغربي الحضارية تجاه الجنوب المتوحش و التي شكلت و على امتداد قرون طويلة مطية لاستعمار هذه الشعوب و نهب خيراتها؟
تقارير حقوق الإنسان: الابتزاز السياسي:
الواقع أن استثمار دول الشمال لملفات الديمقراطية و حقوق الإنسان في تحقيق مكاسب على حساب الآخر ليس أمرا جديدا في مجال العلاقات الدولية فقد كان صفة ملازمة للحرب الباردة على امتداد أزيد من نصف قرن من الزمان كانت فيه قضايا الديمقراطية و حقوق الإنسان إيديولوجيا سياسية للضغط على دول المعسكر الشرقي و إحراج حكوماته لهذا ظل الغرب- و على امتداد سنوات التشنج الخفي مع الشرق- مجال الحريات العامة و الخاصة و حقوق الإنسان فيما الشرق مجال القمع و انتهاك الحقوق وقد كان لهذه الصورة التي اجتهدت وسائل الإعلام الغربية في تكريسها تداعياتها على مسار هذا الصراع . غير أن نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي و جدار برلين غير من منحى هذه الضغوطات "الديمقراطية" لتصبح وجهتها الجديدة دول الجنوب الفقيرة خصوصا تلك الواقعة في مناطق الحسابات السياسية المعقدة كالشرق الأوسط و الأدنى و شمال أفريقيا, و إذا كانت الأنظمة العتيقة الحاكمة في معظم هذه البلدان لا تعير كثير اكتراث إلى تقارير حقوق الإنسان التي طالما حملت - و إن بشكل انتقائي تتحكم فيه طبيعة المرحلة السياسة و القرب و البعد من الغرب – على أساليبها في الحكم و سياساتها المتعلقة خصوصا بمجالات الرأي و حقوق الإنسان لاعتبارات عدة تأتي في مقدمتها ضعف تأثير هذه التقارير على الواقع السياسي الفعلي لهذه البلدان و انحسار تداولها في أوساط نخبوية , فإن التوجهات الجديدة للعالم الغربي و في مقدمته الإدارة الأميركية الساعية إلى فرض الإصلاحات السياسية بالقوة على هذه البلدان من شأنها أن تثير قلق هذه الأنظمة التي أصبح استمرارها في احتكار السلطة أمرا مرفوضا من قبل الداخل و الخارج.
بالعودة إلى تاريخ العلاقات السياسية الأنظمة الحاكمة و مختلف الإدارات الأمريكية فإن لغة المصالح طالما كانت مفتاح فهم هذه العلاقات, فالأمريكان بحاجة لمن يحفظ مصالحهم الاقتصادية و السياسية في المناطق الأكثر حيوية من العالم و الأنظمة الحاكمة بأغلب بلدان الجنوب في حاجة لدعم خارجي يضمن استمراريتها في ظل تهاوي شرعيتها داخليا, أما قضايا حقوق الإنسان و الديمقراطية فأمر متروك للتناول الإعلامي و لتقارير التنظيمات الحقوقية و هو أمر يتأثر بدوره بدرجة حرارة العلاقات بين هذه الأنظمة و الإدارة الأمريكية فلا التركيز على أسماء دول بعينها في هذه التقارير كان يعني أن الوضع الحقوقي بها أكثر سوادا و لا غياب أسماء دول أخرى كان يعني أن وضعها أكثر بياضا هكذا و على امتداد سنين طويلة احتلت الدول المارقة من قبيل كوريا الشمالية و الصين و إيران و ليبيا... قائمة هذه التقارير أكثر من غيرها دون أن يعني ذلك أن الوضع الإنساني بها أسوأ من غيرها من الدول الأكثر قربا من توجهات الأمريكان. بل إن التاريخ يحفظ مساهمة الإدارات الأمريكية في الإطاحة بأنظمة ديمقراطية منتخبة من قبل شعوبها لفائدة أنظمة فاشية من قبيل إسقاط نظام أليندي بالشيلي لفائدة السفاح بينوتشي و حكومة مصدق بإيران لفائدة نظام الشاه. فإذا كانت لغة المصالح هي ما كان يؤطر طبيعة العلاقات القائمة بين الإدارة الأمريكية و الدول الدائرة في فلكها, فكيف أصبحت لغة الديمقراطية و حقوق الإنسان طرفا فاعلا في هذه العلاقات و هل وجودها يلغي لغة المصالح أم هو مجرد إعادة إنتاج لها بما يوافق المتغيرات المحلية و الدولية؟
الديمقراطية الأميركية: إعادة إنتاج للغة المصالح:
بسقوط المعسكر الشرقي شهد العالم بأركانه الأربعة تحولات جذرية أسفرت عن نظام دولي أهم ملامحه انهيار شعبية شعارات الاشتراكية التي طالما شكلت الخلفية الأيديولوجية للحالمين بالتغيير في عالم المعسكرين بما يعنيه هذا من انتصار لقيم الغرب الديمقراطي اللبرالي باعتبارها الملاذ الإنساني للتغيير و تحقيق الحرية و العدالة هكذا وجدت أكثر الأحزاب و التنظيمات راديكالية في دول الجنوب و من ضمنها العلم العربي نفسها مرغمة على الانفتاح على هذه القيم و تبنيها أفقا لفاعليتها السياسية بل و الدخول في توافقات سياسية مع الأنظمة التي كانت تناضل لأجل زوالها كما حدث عدد من التجارب السياسية في بعض هذه البلدان و من بينها تجربة التناوب التوافقي بالمغرب. كما أدى استهلاك النخب السياسية المحسوبة على اليسار بهذه البلدان من جراء مواجهاتها الماراطونية مع الأنظمة الحاكمة و انهيار أطروحاتها الإيديولوجية ببلدانها إلى تبلور نخب جديدة أكثر انفتاحا على الغرب اللبرالي فيما أصبح يعرف بظاهرة اللبراليين الجدد المتبنين لخيار التحالف المكشوف مع الغرب و في مقدمته أميركا من أجل الإطاحة بالأنظمة الحاكمة و إقامة أنظمة ديمقراطية على النموذج الغربي, غير أن توجه هؤلاء غير المشروط صوب أميركا لا يقابله نفس الحماس بالنظر لمحاولة الإدارة الأميركية فتح قنوات تواصل أخرى أكثر جدية مع تيارات أكثر تجذرا في المجتمعات المستهدفة و هو ما وجد تطبيقه الواقعي في لقاءات مفتوحة لم تعد تحرج أحدا بين بعض صانعي القرار الأميركي و بعض ما يعرف بالتيارات الإسلامية المعتدلة في العالم العربي و الإسلامي و التي تمتلك كل القوة الشعبية و القدرات التنظيمية الكافية لدخول مغامرة الحكم عكس تيار اللبراليين الجدد الذي لا يحظى أقطابه بكثير مصداقية في بلدانهم.
إن التوجه الأميركي نحو القوى الشعبية الأكثر انتشارا و اعتدالا في البلدان المستهدفة يعكس تحولا استراتيجيا في حسابات السياسة الأميركية تجاه المناطق الأكثر حساسية بالنسبة لمصالحها, فتغليب لغة المصالح على كل ما عداها من خلال دعمها اللامشروط للأنظمة التقليدية الحاكمة هو ما أسفر عن ميلاد تيارات أكثر راديكالية تكيل العداء و الكراهية لهذه الأنظمة و قبلها للإدارة الأميركية المتهمة بدعمها و حمايتها من قبيل التنظيمات الإسلامية السلفية التي جعلت غايتها ضرب المصالح الأميركية في الداخل و الخارج و هو ما بلغ مداه في أحداث 11 شتنبر, و هو ما يعني ضرورة إيجاد بدائل مقبولة من طرف الجميع مما يقوي الاعتقاد بأن طغيان لغة الديمقراطية و حقوق الإنسان على علاقة أميركا بمن يدور في فلكها بل و استعدادها للتضحية بالأنظمة التي طالما اعتبرت راعية أمينة لمصالحها لا يخرج عن كونه سير مختلف لحماية هذه المصالح وفق استراتيجية جديدة طويلة المدى تضمنها حكومات أكثر شعبية و قربا من المواطنين بما يقلل من موجة العداء تجاه أميركا و سياستها في العالم أجمع لكن مع تدخل أميركي شامل هذه المرة يطال البرامج التعليمية و المجال الإعلامي و كل ما يدخل في تشكيل الذهنية. هكذا شهدت السنة الجارية يالأساس تنامي التحرك السياسي و الأكاديمي الأميركي تجاه إيجاد صيغة لإدماج هذه التيارات الإسلامية التي لا تتبنى العنف في الحياة السياسية العربية للتحكم في حالة الاحتقان السياسي المهيمن على علاقة الأنظمة الحاكمة بمعارضيها من جهة و محاصرة نفوذ الإسلاميين الراديكاليين من جهة أخرى و هو الأمر الذي بدأت إرهاصاته فعلا في بعض الدول التي أضحت تقدم كنموذج على نجاح إدماج الإسلاميين المعتدلين في اللعبة السياسية كالمغرب و الأردن و إن كانت الإدارة الأميركية تتطلع إلى نجاح التجربة في أماكن اكثر تأثيرا على مصالحها و مع قوى أكثر انتشارا و تنظيما من قبيل حركة الإخوان المسلمين في مصر.
الواقع أن دعاوى نشر الديمقراطية و حقوق الإنسان دول العالم الثالث و في مقدمتها العالم العربي ليست سوى صورة جديدة من مسيرة أمركة العالم بما يضمن الهيمنة عليه و نهب خيراته لكن وفق تصور جديد يأخذ بعين الاعتبار توازنات و حسابات الداخل بربط قنوات مع القوى الأكثر تأثيرا بهذه المجتمعات بدل الرهان على أنظمة معزولة تحاصرها مطالب معارضيها بالتنحي في كل وقت, و هو ما يتطلب من دعاة الإصلاح و التغيير في العالم العربي استثمار أجواء التحول في المواقف و التصورات هذه دون التورط في الارتماء المباشر في أحضان الإدارة الأميركية لتفادي تكرار تجربة الأنظمة التقليدية التي راهنت على الخارج أكثر بكثير مما راهنت على الداخل في ضمان وجودها و استمرارها لتجد نفسها اليوم معزولة في الداخل و الخارج.