احتجاجات المهاجرين، حركات اجتماعية بفرنسا؟
بعد أيام طويلة من العنف والتوتر عاد الهدوء أخيرا للضواحي لتظل كل الأسئلة معلقة وكل الأجوبة واردة، فقد أنهت هذه الاضطرابات التي رفعها البعض إلى درجة الحركات الاجتماعية أسطورة فرنسا الحرية والمساواة والإخاء كما أنهت أسطورة الاندماج والتعايش في بلد طبعت الهجرة تركيبته الإثنية والدينية والثقافية بكثير من البلقنة، ذلك أن أشكال التعبير القاسية التي ربطتنا بما تشهده البلدان المتخلفة عادة من احتجاج على أنظمتها الموسومة بالقمع والفساد قد رصدت واقعا هو في الواقع أكبر من مجرد احتجاج لأن ثقافة الاحتجاج مع ذلك تبقى شأنا ديمقراطيا وهي تحضر في مختلف تفاصيل علاقة الدول الديمقراطية بمواطنيها أما أن يترافق الاحتجاج بمظاهر عنيفة دفعت ببلد الأنوار إلى تبني إجراءات شاذة في تاريخها كحضر التجول والتفكير في الاستعانة بالجيش فهو أمر فيه نظر.
لا تبدو الأحداث الأخيرة المسجلة على مستوى ضواحي باريس وأكثر المدن الفرنسية معزولة عن سياق عام يتداخل فيه التاريخي بالسياسي والاجتماعي بالثقافي والإثني بالعقائدي، هذه العناصر الذي لم يفلح فكر الأنوار المحتضن لقيم المواطنة في استيعابها أو على الأقل التضييق من هوامشها فكان أن ظل المهاجر مهاجرا وإن كان قد ولد فوق التراب الفرنسي ويحمل أوراق ثبوتية فرنسية فهو تاريخيا ممتد لأصول غير فرنسية لا زالت ترتبط في لاشعور الفرنسيين بزمن الإمبراطورية الفرنسية يوم كان العالم مقسم إلى متحضرين وبرابرة، وهو سياسيا مجرد رقم انتخابي قد يساهم في ضمان فوز أو اندحار جهة ما على مستويين يتعلق الأول بتقرب المرشحين من الناخبين ذوي الأصول المهاجرة لضمان أصواتهم في الانتخابات أما الثاني فيتعلق بمهاجمتهم والتعهد بتضييق الخناق عليهم لضمان أصوات اليمين المتطرف، وهو اجتماعيا بنية من الأنماط الحياتية التي ترفض الذوبان التلقائي في النسق الاجتماعي الفرنسي بدافع المقاومة الذاتية حينا وبدافع عدم تقبل النسق الفرنسي لها أحيانا أخرى وهو إثنيا وعقائديا مزيج من الأعراق والأديان التي تشكل في كثير من الأحيان ملجأ للاحتماء من القهر الاقتصادي والاجتماعي بشكل قد يبدو غير مبرر للآخرين.
إن هذا الاحتماء بالهوية الجماعية لدى المهاجر الأجنبي بفرنسا هو ما يستحق القراءة بشكل معمق، فعلى المستوى الشكلي لا يبدو أن هناك ما يسمح بذلك إذ أن الدستور الفرنسي لا يعترف بالجماعات بقدر ما يعترف بالأفراد سيرا وراء تعزيز مفهوم الدولة والأمة التي تحتوي الجميع، لكن هذه الأمة أيضا لا تبدو معزولة عن سياقها الاجتماعي والثقافي والديني والاقتصادي والقيمي الشيء الذي يفتح المجال للحديث عما يسمى في فرنسا بقيم الجمهورية التي تحمل وراءها تاريخا طويلا من التراكم ذي الامتدادات المتعددة إن على المستوى الفردي أو الجماعي. هكذا إذن لا يكون نبذ الجماعات والاعتراف بالأفراد فقط إلا مرحلة أولى في اتجاه إعادة إدماج هؤلاء الأفراد في جماعة جديدة كبرى هي ما يعبر عنه بمفهوم الأمة والدولة، إلا أن مقاربة من هذا القبيل تحمل الكثير من التهافت فالتدقيق في قيم الأنوار التي من المفترض أن بلد كفرنسا يشكل قبلتها يحيل بالضرورة على كل معاني الحرية والديمقراطية المبنية أساسا على قيم التنوع والاعتراف بالآخر كطرف شريك بكل اختلافاته إنها باختصار فن القبول بالاختلاف والتعايش معه، أما أن يكون تخلي البعض عن قيمه وخلفيته الثقافية والدينية والحضارة شرطا لقبوله في مجتمع ما من خلال إعادة إدماجه فإن الأمر يتعلق بعنف رمزي عمودي تمارسه الأمة الفرنسية على مواطنيها ذوو الخلفيات الاجتماعية والثقافية والدينية المختلفة الشيء الذي من شانه أن يثير ردود أفعال عكسية أكبر مما يتوقعه الجميع فالدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية الحديثة قد أثبتت أن الهوية الإنسانية تبدو في لحظات الشدة قادرة على إنتاج ما يكفي من أدوات المقاومة الكفيلة بحماية وجودها ولعل ذلك ما يعبر عنه الأستاذ عبد الإله بلقزيز بالممانعة الثقافية.
إن استحضار هذه المفارقة في قراءة سياسة الإدماج التي تنهجها الدولة الفرنسية مع مواطنيها ذوو الأصول الأجنبية سواء تعلق الأمر بالمجنسين منهم أم بمن يحملون فقط تصاريح الإقامة هو ما يشكل إطارا لفهم مختلف النقاشات العميقة التي طرحت في السنوات الأخيرة تحت تأثير أشكال خفية من التوتر الثقافي وجدت تصريفها في بعض السلوكيات التي أضحت تتأطر تحت مظلة بعض أشكال النبذ كالإسلامفوبيا مثلا، فهذه الظاهرة وإن كانت لا تختزل إشكالية إدماج المهاجرين بفرنسا فهي تعبر عن جزء كبير منها من منطلق أن أغلب هؤلاء هم من المسلمين وهو ما يمكن تبيانه من خلال الدراسة الموثقة التي عملت على إعدادها منظمة التجمع ضد الإسلامفوبيا بفرنساCollectif contre l’islamophobie en France استنادا إلى إحصاء شمل 182 فعل إسلامفوبي يغطي سنة كاملة ممتدة من أكتوبر 2003 إلى غشت 2004 حيث 118 منها كانت موجهة ضد أفراد (شتائم عنصرية، تهديد بالقتل، اعتداءات مسلحة...) فيما 64 استهدفت مؤسسات (اعتداء على مساجد ومقابر إسلامية، إلغاء مجموعة من الندوات حول الإسلام لدواعي مختلفة، توقيف مجموعة من الأئمة...). هذه الأرقام وإن كانت لا تعكس بالضرورة حيثيات الوضع بالنظر إلى صعوبة رصد كل هده الأفعال خصوصا تلك الموجهة ضد الأفراد يصرح التقرير المذكور، فإن من شأنها أن تقدم رصدا موثقا لظاهرة الإسلامفوبيا التي أصبح يحذر منها مجموعة من الخبراء والحقوقيين بفرنسا في هدا السياق يستخلص التقرير الذي قدمه هدا التنظيم أمام وسائل الإعلام يوم 21 أكتوبر 2004 استنتاجين اثنين حول الظاهرة يرتبط الأول بكون 76 في المائة من حالات الاعتداء على الأشخاص المسجلة كانت ضد نساء محجبات بما يعطي الانطباع بأن الحجاب كرمز ديني إسلامي كان مستهدفا أكثر من الأشخاص بعينهم. فيما يسير التوجه الثاني نحو تحميل الدولة الفرنسية مسؤولية ما يقارب 60 في المائة من هده الأفعال وهو ما يضع هده الأخيرة ممثلة في العمد، المفوضين، مسؤولي المؤسسات التعليمية... على رأس قائمة مصادر الإسلامفوبيا بفرنسا. هذه التوترات الثقافية لم تكن أبدا حكرا على الأناس العاديين بل ارتبطت أيضا بأسماء مؤثرة في الحقل الإعلامي والثقافي وصلت إلى درجة التحريض كما هو الشأن بالنسبة لهذا الممر المقتطف من كتاب للكاتبة الصحفية أوريانا فالاسي تحت عنوان LA RAGE ET L’ORGUEIL ;CONTRE LE JIHAD ET L’INTOLERANCE: :"أقليات عادية من المتطرفين؟ لا يا عزيزي، لا إنهم ملايين وملايين. المتطرفون، استيقظوا لا تفهمون أم لا تريدون أن تفهموا، إن الأمر يتعلق بحرب دينية من قبل أبناء الله الذين عوض أن يساهموا في تطور الإنسانية يقضون أوقاتهم في الصلاة في العراء خمس مرات في اليوم. هذه حرب تستهدف عمق أرواحنا وإذا بقينا عاجزين إزاءها فستهدم ثقافتنا، فننا، علمنا، أخلاقنا، قيمنا ومتعنا".
إن هذه المظاهر من التوتر الثقافي في فرنسا والتي بلغت مداها في إجراءات رسمية من قبيل حظر ارتداء الرموز الدينية في المؤسسات التعليمية كانت تعكس فشل نموذج الإدماج الفرنسي المبني على إقصاء حق الآخر في التعبير عن امتداداته الثقافية والإثنية والدينية في مقابل إدماجه في الأمة الفرنسية التي لا تملك أن تكون إلا نموذجا ثقافيا يحمل بدوره جذوره وامتداداته الثقافية والإثنية والدينية.
على أن الإقصاء الثقافي عادة ما يستتبع بإقصاء اجتماعي واقتصادي ولعل في جمع المهاجرين في غيتوهات شبيهة بأجواء أوروبا ما قبل الحرب العالمية الثانية والتمييز الممارس في توزيع الخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية والتمييز في حق الشغل الذي من المفترض أن القانون الفرنسي يضمنه للجميع ما يعكس الوجه الآخر لإشكالية إدماج المهاجرين بفرنسا، فأسطورة الأفراد المنتمين للأمة الفرنسية لا تجد لنفسها مكانا في تصورات المشغلين الذين يفضلون تشغيل أشخاص يحملون اسم جاك وروبير أكثر من قبولهم بمحمد وتيجاني وتراوري ولا في تصورات مسؤولين من قبيل كزافيي داركوس الذي صرح يوما "من لا يرغب في الجمهورية الفرنسية فليغادرها" أو نيكولا ساركوزي الذي يحلم بتنظيف فرنسا من الحثالة بمستحضرات التنظيف. فكان أن خرج مهمشو فرنسا ليخبروا الجميع أنهم لا زالوا هناك جزءا صعب التجاوز من السكاني الفرنسي فأحرقوا ودمروا وكسروا وتحدوا الدولة الفرنسية التي لا يعرف جزء كبير منهم ممن يعرف بالجيل الثالث والرابع لنفسه دولة أخرى غيرها، كما خرجت الدولة عن صمتها الملغوم لتلعب على ثنائية العصا الجزرة ما بين التلويح بتهجير "المشاغبين" والوعود بتحسين وضعية معيشة الضواحي، وإذا تأملنا الخطوات الأولى التي دشنتها الدولة الفرنسية في التعاطي مع الإشكالية فقد نخرج ببعض الخلاصات. لقد تضمن تقرير نيكولا ساركوزي لإعادة فرض النظام العام مجموعة من الخطوات تبدو ذات طابع امني أكثر منها اجتماعي وثقافي إذ جاء في التقرير المعد من قبل مجموعة من المختصين ضرورة تشكيل "مجموعات تنسيق لمساعدة ومتابعة الطفل" من مرحلة الروضة وحتى المرحلة الثانوية، مطالبين بأن تتبع تلك المجموعات التنسيقية سلطة العمد في الوحدات المحلية التي تقع فيها المؤسسات التعليمية. وتشكل تلك المجموعات استنادا للتقرير مرجعا "للصغار الذين يمرون بمشاكل مدرسية بدءا من سن السادسة".
كما شدد التقرير على ضرورة إبلاغ مسؤولي المؤسسات الدراسية العمدة بحالات الغياب التي تتم بدون سبب، مشيرا إلى أهمية إعطاء الأولوية للأنشطة الإضافية في العملية التعليمية كالأنشطة الرياضية والثقافية بدءا من المرحلة الابتدائية.
إن هذه الخطوات لا تعكس استشعارا رسميا فرنسيا بفشل معالم سياسة الإدماج المنتهجة من قبلها بقدر ما تسير في اتجاه تكريس نفس التعامل المشوب بالريبة تجاه كل ملا تجري في عروقه دماء فرنسية أصيلة، ولعل الخطوة الأولى لن تكون بأقل من تجاوز مصطلح الإدماج ذو الحمولة القهرية بمفاهيم أكثر اعترافا بثقافة الآخر من قبيل التعايش والتساكن. حتى ذلك الحين يبدو أن الرابح الأكبر هم سوسيولوجيو فرنسا المهتمون بتتبع نشأة وتطور الحركات الاجتماعية الذين لم يعد عليهم أبدا الرحيل نحو امريكا اللاتينية بحثا عن مواضيع للدراسة فها قد أصبح لفرنسا حركاتها الاجتماعية.