الانتقام الرقمي
غريب أمر هذا الزمن الرقمي، يعيد تشكيل علاقتنا بالعالم وبذواتنا.. في عالم اللامكان هذا يبنى العالم من جديد وتندثر التفاصيل المادية الصغيرة والكبيرة على حافة الوديان الرقمية، عالم نطل عليه من نوافذه المشرعة فلا ندخله إلا افتراضا.. حتى عشاقه تخلوا عن تبادل الورود والهدايا والقبل الساخنة لينقلبوا كائنات افتراضية تتشكل كما أراد لها أصحابها أن تكون، وليس بالضرورة كما هي في الطبيعة، لذلك لا شيء يمنع من أن تتغذى أحلام متلقيها على ما تجود به دوامة الحلم.. أما مبدعوه وهذا بيت القصيد فليسوا بأكثر من أسماء ملونة تنتقل بخفة ورشاقة غير معهودة في من تعودوا لعنة الانتظار على باب عوالم الورق، لذلك تجدهم حيثما حللت وارتحلت، ولا عجب فقد تخلصوا من لعنة المكان إلى الأبد، فكان أن غاصت نصوصهم في الوديان التي يقفون على حافتها أسماء وعناوين بريدية وربما صورا تحمل نظرات ساهمة أو ضاحكة أو حتى مطرقة تتصنع التأمل..
في هذا العالم أجد نفسي مضطرا لإعادة النظر في عدد لا يستهان به من طقوسي ومسلماتي.. الجريدة التي تحوي اسمي وصورتي مرفقة ببعض شظايا روحي وذاكرتي التي أفلحت في تحويلها إلى كلمات سوداء على ورق أبيض حملت جواز مرورها من درب المطبعة، لم يعد بإمكاني الآن حملها تحت إبطي والتصنع بقراءتها استفزازا لهاجس المعرفة لدى من يشاركني قهوتي من الأصدقاء، فلا يلبثون أن يطالبوا بإلقاء نظرة عليها تتوج بلحظة الانتصار الكبرى المقترنة بنظرات الإعجاب التي يحاولون إخفاءها فتفضحهم عيونهم.. ولن يكون بالإمكان أيضا الاكتفاء بعرض الصورة دون الاهتمام بالنص على أمي لأقنعها أن صبرها على نزوات طفلها وفوضويته قد بدأ يثمر خيرا وهاهي صورته شاهدة على زمن مجده القادم.. مقالاتي اليوم كلمات منثورة على شاشة حاسوب لن يكون بالإمكان حمله تحت إبطي لإبهار الأصدقاء ولا إقناع أمي بالجلوس أمامه بحثا عن مجد ابنها الذي هجر عالم الأوراق التي طالما شغفته وشغفها حبا.. وحتى صورتي التي قلما تفارق ما ينشر لي هنا أو هناك، إن جازت استعارة عبارات المكان للدلالة على اللامكان، حتى هي لا تفلح في إيجاد موطئ لنصوصي بين ضفتي الوجود والعدم، لكن لائحة بريدية تجمع كل عناوينهم قد تفي بالغرض.. ولان أمواج الوديان الرقمية خارج سلطة المكان فليس ثمة ما يحكم القبضة عليها لتقديمها طائعة أمامهم أكثر من رابط يعبر عن استعداده للقيام بالمطلوب حالما تجاوره لمسة الفأرة، ثم تأتي الردود التي كانت كلمات منعشة في الماضي فأصبحت تعاليق محكومة بسلطة العالم الجديد أما أمي فتلك حكاية أخرى..
انتهى زمن طوابع البريد الغبية والرسائل الصفراء التي كانت تحمل أخبار البعيد والقريب، كما كانت تحمل نصوصا تتلاشى مضامينها تحت وطأة التقادم قبل أن يحين موعد نشرها المشهود، وما هي إلا أسماء ورموز وبضعة نقرات ما بين القص واللصق لتجد نصك على رأس الصفحة الأولى التي كان أهل الحل والعقد في الزمن البائد يحتفظون بهوامشها لما تخطه أقلامهم عن منجزات أولياء النعم.. وها نحن نتحرر من سلطة الأشياء.. أما رصيد الفلاسفة في قراءة شظايا وجود الإنسان منذ سقراط حتى كيير كيغارد وسارتر فلم تعد يشفي الغليل، فثنائيات العرض والجوهر والجسد والروح والوجود بالقوة والوجود بالفعل والكائن والعدم تقف حائرة أمام توصيف إشكالية وجود الإنسان في زمن الإبداع الرقمي.. أشكال التواصل الإنساني السالب والموجب تتأسس من جديد راسمة لتجلياتها آفاقا جديدة تتمرد على عالم الأشياء لتتوجه نحو الافتراض.. قبل بضعة أشهر تعرض أحد أصدقائي الصحافيين، ممن لا زالوا يؤمنون بريادة الورق بالرغم من تهديدات خبراء البيئة بأن غابات العالم قد دخلت مرحلة خطر الانقراض.. تعرض لهجوم من قبل مجموعة من الشداد الغلاظ الذين تربصوا به بالقرب من بيته ليلا وأشبعوه ركلا ورفسا ولكما بما ألزمه المستشفى لبضعة أسابيع، ورغم أن أصحابنا الشداد كانوا يقرنون لكماتهم ورفساتهم بما ينبئ بأن ما يتلقاه الصحافي المسكين كان جزاء على ما اقترفه بحق أسياده في الجريدة التي يشتغل بها، فهو لم يستطع أن يميز أي الأسياد ذاك صاحب الوليمة الساخنة لأنه كتب أكثر من مقال وهاجم أكثر من واحد من أسياد هذا الزمن البذيء الذين أصبحت تنتجهم أوطاننا أكثر مما تنتج الخبز للفقراء.. يومها حمدت الله في سري وفي علني لأني بدأت أجني مزايا الكتابة الرقمية التي أتلاشى في وديانها فلا يطال من أسلط عليهم سلطة أصابعي غير اسم وعنوان بريدي وصورة أتصنع فيها التفكير والتأمل.. لقد أدركت أني خارج دائرة العقاب والانتقام ما دمت لا أوجد لمن يقرأني إلا افتراضا.. أما لكمات الشداد الغلاظ ورفساتهم وركلاتهم فلن تقو على ملاحقتي في كل شاشات العالم.. ولا أخفيكم سرا أن اقتناعي بإمكانية النجاة من الانتقام قد أضافت لي نفسا جديدا فأصبحت لا أخشى في الحق لومة لائم.. لهذا وجدتني أتجاسر على كل من أتت أسماؤهم وأفعالهم في طريقي.. غير أن ما حدث لي كان أمرا عجبا جعلني أزداد ثقة في أن العالم الرقمي يضع تفاصيل جديدة لحدود التفاعل الإنساني أضحى يفهمها كل من يعنيه الأمر.. فعلى هامش قمة المعلوميات الثالثة التي عقدت بتونس نشرت مقالا عنونته بالكيل بمكيالين في قمة المفارقات بتونس قلت من خلاله في النظام التونسي وفي من أسند تنظيم القمة التي تبحث إمكانات جديدة لتحرير الإنسان في بلد تنتفي فيه حرية الإنسان كتونس، ما لم يقله مالك في الخمر وزاد الطين بلة حين اتصلت بي صحفية صديقة من إحدى الجرائد الإلكترونية بغاية إجراء حوار أعلق من خلاله على القمة وظروفها ونتائجها في ضوء مقالي المشهود، فاطلقت العنان لأصابعي السليطة التي تابعت القمة ومنظميها ومن أسند تنظيمها لهم بمختلف صنوف التقريع والسخرية والاستهزاء.. متمنيا رؤية من يعنيهم الأمر وهم يعدمون الحيلة للظفر برأسي الذي استحال هلاما في أودية العالم الرقمي.. غير أنه كان في الأمر ما نكد على فرحي الساذج.. فليليتها تلقيت مئات الرسائل المحملة بالفيروسات على بريدي الإلكتروني ولولا رحمة الله التي اقتضت أن أنجو بفعلتي بعد أن هدتني إلى تحيين مضاد الفيروسات في حاسوبي الخاص قبل أيام قليلة من الهجوم، لكان رصيدي الرقمي ومعه مختلف ملفاتي ومعطياتي وأرشيفي ومتعلقات بريدي الإلكتروني في خبر كان.. يومها استوعبت الدرس جيدا وأدركت أن أساليب المنع والترهيب تتطور بتطور أساليب الكشف والإبداع، فمن يعنيهم الأمر ليسوا ببعيدين عن فهم خصوصية العوالم الرقمية التي اعتبرته عصية على فهمهم، فغيروا مسار انتقامهم من عالمي المادي الذي كان محور وجودي في زمن الورق، إلى عالمي الرمزي الذي بنيته نقرة نقرة في الزمن الرقمي، ولي أن أفخر من الآن فصاعدا بانتباهي لظاهرة الانتقام الرقمي التي عوضت الصفع والركل واللكم في العهد البائد.. لكني مع ذلك أصبحت أكثر اطمئنانا والأمر يعود هذا المرة لانتشار ظاهرة القرصنة التي تتيح للفقراء من أمثالي الاستفادة من آخر صيحات الموضة الرقمية مقابل أجر زهيد لا يتعدى ما يقابل دولارا واحدا، لذلك توجهت صباح اليوم الذي عاودني الحنين فيه إلى إفراغ جام غضبي على أحدهم ممن وضعهم حظهم البائس ليلة ذاك اليوم على طريقي، إلى جوطية درب غلف لأتزود بآخر ما تمت قرصنته من مضادات الفيروسات استعدادا للانتقام الرقمي الذي لن يتأخر طويلا، وقبل أن أجلس أمام حاسوبي لتدوين كلمات مقالي: لماذا تورث مصر؟لماذا لا تورث مصر؟ الذي استهجنت فيه تحويل بلد حضارة الفراعنة وسحرة الشرق وحملة نوبل إلى مزرعة تورث من الأب إلى الإبن كما استهجنت الإعلام الرسمي الذي انخرط في اللعبة السمجة إياها.. يومها كان حاسوبي أكثر تحصينا من سفن الحلفاء أيام حرب الغواصات، وحين نشر مقالي في عدد من المواقع كانت نظرات الشماتة مني تنهال على مئات الرسائل وأنا أحذفها كلما حذرني المضاد طيب الذكر من فتحها لأنها تحوي فيروسات..
اليوم لم أعد أخاف من ترصد البلطجية في الأزقة الليلية، لأني أعلم كما يعلم غيري أن عالمي المادي أضحى خارج اللعبة.. لكني أصبحت أكثر قلقا على عالمي الرمزي الذي أضحى وجوده من وجودي، لذلك أضحيت دائم التزود بما يحميه ويحميني في صيغتي الرمزية من الانتقام الرقمي.. لكن ما أثلج صدري هذا الصباح أن حصلت على نسخة جديدة من مضاد جديد يتزامن طرحه في الدار البيضاء بطرحه في اليابان وأمريكا مقابل نصف دولار فقط.. ولست أدري ما الذي يجعل تفاصيل هذا الاستعداد للعقاب تنعش في ذاكرتي ذكريات أيام التعليم الابتدائي التي كنا نقوم فيها بدهن أيدينا البضة بعصير نبتة تتكاثر بالأحراش القريبة من المدرسة إيمانا منا بأنها تخفف من الألم الذي تحدثه عصا معلمينا على أيدينا الصغيرة فنواجه مصيرنا بشجاعة وشماتة نادرتين..