حروبنا الخاسرة…
تنص أبجديات المناهج العلمية سواء كانت حقة أم إنسانية على ضرورة التجرد من الظاهرة لفهمها بشكل صحيح، والتجرد من ظاهرة ما يعني ببساطة أن تتموقع خارجها، غير أن هذا التموقع خارج ما ندرسه وإن كان سهلا على مستوى الفهم، فهو عصي على مستوى التطبيق خصوصا حين يتعلق الأمر بقراءة وتأمل أحوال عالمنا العربي المتورم من شرقه حتى غربه، فمن المعروف أن جوازات السفر العربية البليدة لا تملك صلاحية تجاوز الخطوط التي تفصلنا عن غيرنا من بلاد الله الواسعة إلا وفق شروط صارمة ودقيقة تثبت فيها بالدليل الصادق والملموس صدق وسلامة نية الشخص المهاجر تجاه من سيحط الرحال بينهم بعدما صنعت منه وسائل الإعلام الغربية وقليل من حماقات بني جلدته وحشا ضاريا يتحين الفرص لإحراق الأخضر واليابس تحت أقدام الجميع. والواقع أني أحسست بصدق هذه الرؤية منذ قدر لي أن أرى تضاريس وطني الذي لم أستطع أن أجوبه بأكمله رغم قضائي به ما يقارب الثلاثة عقود تنكمش أمام عيني لتستحيل رسما قريب الشبه من الخرائط المدرسية التي كان يطالبنا معلمونا برسمها أيام الدراسة. في مساءات كندا أجند أقلامي وأوراقي للكتابة عن عالمي الجديد، لكن أشجان وطني البعيد تنتصب باستمرار أمام عيني بكامل تفاصيلها، فأقضي الساعات الطوال ململما تفاصيلها وأنباءها من فضاءات العوالم الافتراضية في شبكة الأنترنيت، إني أرى وطني وقضايا وطني أكثر مما أرى كندا عالمي الجديد والمحنة هذه المرة مزدوجة، عالم تقاوم بقوة لاختراقه نفسيا ووجدانيا بعدما اخترقته ماديا وعالم دمرتك سياسات حكامه وحين هجرته أصبح يلح عليك بثقل أوزاره، وهذا ليس إلا جزءا يسيرا من محن المهاجر.
من صقيع الشمال أطل كل مساء على رسم اوطاني فلا أجد بها إلا معارك خاسرة في أزمنة التيه العربي، ولعلي إن كنت أستطيع في لحظات كثيرة أن أجد تفسيرا للأوضاع المتردية والمعارك الطاحنة في العراق ولبنان وفلسطين فإن حماري يغلب بتعبير الإخوة المصريين عن فهم معارك طاحنة تفرد لها مساحات فضاءاتنا الإعلامية العربية بسخاء حاتمي من قبيل ما استحق بامتياز تسمية حرب الحجاب بالعالم العربي، ولست غافلا عن شطط التسمية وأنا أنسب الحرب المذكورة للعالم العربي رغم أخذها لبوسا إسلاميا يتجاوز مساحة وطن بني يعرب، لكني أجدها أكثر التصاقا بالعرب بالنظر لاقتصار ساحات وغاها على عالمنا المنكوب دون غيره من امتدادات العالم الإسلامي الفسيح التي تفرغت بعض أركانه كدول شرق أسيا للتنمية الحقة فصنعت المعجزات. فقبل حوالي الشهر وصف مفتي استراليا الشيخ تاج الدين الهلالي وهو بالمناسبة مصري المولد والجنسية ويلقي خطبه ومواعظه في مسجد لاكيمبا التابع لرابطة المسلمين اللبنانيين لمن شككوا في نسبة هذه الحرب للعرب والعاربة، وصف النساء غير المحجبات بأنهن “لحم مكشوف” يجلبن على أنفسهن الهجمات الجنسي، الرجل وجد نفسه في دوامة كبرى من الانتقادات التي طالبت برأسه بحجة التمييز والتحريض على العنف والاغتصاب. ازمة وصلت إلى أعلى المستويات حين قال رئيس الوزراء الأسترالي جون هاورد أن تصريحات المفتي المذكور “مروعة وتستحق التوبيخ”، لكن الأمر العجيب كان أن خمدت رحى المعركة بمصدرها أستراليا باعتذار المفتي وانبعثت طويلا بجرائدنا وقنواتنا التي استفاضت في التحليل والتأصيل والتفنيد والجرح والتعديل في المفتي ومن صار على ركبه ومن عانده من عبد الرحمن ، ولم تضع المعركة أوزارها إلا بالإعلان عن انطلاقة معركة جديدة، بطلها كان ولا يزال طويل العمر وزير الثقافة المصري فاروق حسني الذي كانت السنة الجارية فأل شؤم عليه إذ تزلزل العرش الذي يجلس فوقه منذ ما يقارب عمري مرتين، وهي فترة قياسية بمقاييس السياسة العربية المحنطة، ولست أدري إن كان طويل العمر على وعي من أن الجلسة ليست على المصطبة) والتعبير من نحت الأستاذ عماد عبد الرازق (كما في قرى الريف المصري، وإنما بمنبر إعلامي سيطلع عليه الجميع وهو يتحدث عن شعر النساء الجميل الذي يشبه الورد والذي تعد تغطيته وحجبه عن الآخرين تخلفا ما فوقه تخلف، وأعجب لمقاييس التخلف في فكر السيد الوزير، وإن كان سعادته لا يرى في خلوده في منصبه بعضا من التخلف المذكور. انفتحت علبة البنادورا في وجه طويل العمر وكانت موقعة عبئت من خلالها فوهات البنادق والمدافع الكلامية والكتابية بين مؤيد ومعارض ووجدنا قنواتنا ومواقعنا وجرائدنا تغرق مرة أخرى في معركة طويل العمر الذي أغلق باب بيته عليه تاركا غيره من هتيفة المثقفين يحررون العرائض دفاعا عن حق سيادته في التعبير الحر عن الراي الذي يكلف عادة صاحبه هتك عرضه في حكومة يعد سعادته أحد أركانها، وفيما كان وضعنا يزداد سوءا ومراتبنا تتقهقر في سلالم التنمية البشرية وطبول الحروب الأهلية تدق وغربان الموت تحلق العواصم العربية الثلاث المنكوبة، غاص الجميع من جديد في التأصيل للحجاب والبحث عما يدعم فرضيته أو اختياريته، وتواصلت معركة الحجاب بين الكر والفر، فانبرى الممثل المصري حسين فهمي في جلسة أخرى على مصطبة التلفزيون المصري ، ولست أدري من وضع بين يديه المقاييس الذهنية وكلفه بتطبيقها على النساء حين صرح أن المحجبات معاقات ذهنيا قبل أن يعود للاعتذار بعدما أدرك أن المسألة قد تكون أكثر تعقيدا من جلسة دردشة فارغة، ووجدنا أنفسنا غارقين من خلال إعلامنا في تصريحات الممثل واعتذاراته والعدة والعدد التي رصدتها الأطراف الأخرى للمطالبة برأسه، وكان علينا أن نسمع مرة أخرى محاضرات طويلة عن الحجاب وما إذا كان موجها لنساء الرسول فقط أم لعامة المسلمات وعما إذا كان يجب بستر كافة الجسد أم بعضه، وإذا ما كان طقسا دينيا أم تقليدا اجتماعيا، ونشطت جحافل الممثلات المعتزلات ومن بينهن من انتقلن حديثا من قنوات الوليد بن طلال المهتمة بهز البطون إلى قنواته المهتمة بالوعظ والصلاح ليحظين في ظله بنعيم الدنيا والآخرة، أما من لم يسعفهن حكم السن ليحظين بفرصة الخطابة والوعظ في منابر الوليد حفظه الله فلهن التلفزيونات العربية المغلقة في أوجه مفكري وفناني الأمة الحقيقيين بصفة محجبات يرمحن فيها بالطول والعرض ، وأستعيد هنا الليالي الظلماء التي كان السيد محمد بركات في قناة اقرأ وإمارة الشيخ كامل يستضيف فيها سيدات يشاركهن التكبير والتهليل بعد أن يقدمهن للمشاهد الكبير بصفة السيدة المحجبة شهيرة أو السيدة المحجبة سهير… وكأن الحجاب درجة علمية أو انتماء فكري أو سياسي أو اي شيء بعيد عن كونه أمرا خاصا يتعلق بطبيعة تصور وفهم كل واحد من الناس لعلاقته بجسده. واليوم أقرأ في بعض منابرنا العربية أن قائمة من ممثلات مصريات بدرجة “محجبات”، تتصدرهن سهير رمزي وسهير البابلي وصابرين وعبير صبري قد قمن بإصدار “قائمة سوداء” تتضمن اسماء مثلات “غير محجبات” “دأبن على مهاجمة وانتقاد” الممثلات “المحجبات” تتضمن بالخصوص يسرا ونادية الجندي وإلهام شاهين ونبيلة عبيد وليلى علوي، ومن المتوقع أن تثير هذه الخطوة بحسب رأي منابرنا المصونة عاصفة كبيرة من الجدل واللغط في الأوساط الفنية والإعلامية المصرية وهو ما يعني بالضرورة أن نهيئ أنفسنا من الآن للغرق إعلاميا من جديد في حرب الحجاب المقدسة التي لم تكد تضع أوزارها في موقعة المفتي والوزير والممثل، وفي بلداننا التي ينخر الفقر والمرض والتخلف والتسلط والاستبداد أوصالها ستعلن الحروب الطاحنة من جديد ليس على مآسينا هذه، بل من أجل الحجاب مرة أخرى وإذا ما كان فرضا أم سنة أو كان موجها فقط لنساء الرسول أم لكافة المسلمات وما إذا كان يجب بستر كافة الجسد أم جزء منه… لكن حجم وأهمية أطراف المعركة هذه المرة بين الممثلات حاملات درجة”محجبات”، ونظيراتهن في المعسكر المضاد يعد بفرجة مميزة قد تصل إلى جلسة من طراز “بلدي” تنظمها إحدى تلفزيوناتنا المجيدة للردح الشعبي المؤصل بين أطراف الحرب المقدسة قد تتخللها بعض مستملحات لشيوخ الفتاوى الطازجة من جهة، ودعاة حداثة الهيشك بيشك من جهة أخرى. ولعلي أحس ببعض القهر والأسى من مجريات الأمور بوطني، وأنا لسوء حظي لازلت أعتقد أن كل بلاد العرب أوطاني، حين ارى عمامة السيخ الكبرى تسير جنبا إلى جنب مع الطاقية الأفغانية والحجاب مع كل أصناف موضة اللباس الغربي الحديث في شوارع مونتريال التي قد تشكل فضاء حتى لمن قرر التظاهر عاريا دون أن يشكل الأمر مثارا للنقاش بين الناس في جلساتهم أو في برامجهم التلفزيونية والإذاعية لأن دولة المؤسسات تحمي الجميع وتحمي حق الجميع في تنظيم علاقته بجسده وفق قناعاته ومعتقداته دون أن يشكل ذلك مثار استنكار أو استغراب من قبل الأطراف الأخرى، لأن حق الأفراد في العيش بحرية لا يتحقق إلا بشكل متبادل في مناخ تحكمه المؤسسات والقوانين وليس الكراسي التي تجلس فوق الكراسي، أما الالتفات نحو بناء المستقبل والخروج بأوطاننا من عنق الزجاجة فأمر لا يتم إلا بخوض المعارك الحقيقية في أماكنها الطبيعية، وإذا ما اخترنا ان نستمر في ممارسة التجييش والتهليل لمعارك دونكيشوتية خاسرة سلفا استهلكت من عمرنا قرونا وقرونا، واختارت فضائياتنا الإعلامية ان تظل مسرحا لهراء ممجوج يغطي على قضايا الشعوب الحقيقية ومنتظراتها، وتنشط فيه صنائع إعلامية هي أقرب إلى صورة الدجال والمهرج منها إلى صورة المفكر والفنان فهو أمر ينبئ باننا قد أضعنا فعلا الطريق وأن التيه العربي قد يستمر لسنوات وربما لقرون أخرى..