الاثنين ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم مصطفى نصر

الأشياء أيضاً تموت

عندما يأتي لزيارة أهله، تضاء أنوار المنزل كلها؛ حتى الجيران يحتفلون بقدومه. أتذكر حينذاك فيلم "سي عمر" لنجيب الريحاني، عندما جاء شبيهه إلى القصر فأعاد البسمة إلى قلوب أهله. وعبر المخرج عن ذلك بمشهد رائع، فقد أضاء كل أنوار القصر التي كنت مظلمة قبل أن يأتي. هكذا كان هو، يأتي كل عدة أسابيع من المدينة التي يعمل بها ويقيم فيها؛ فتبتهج أمه، وتأتي أخته وأولادها من بيتها القريب، ويأتي أهل زوجته الذين يسكنون في نفس الشارع، ويأتي أخوته، كل واحد معه زوجته وأولاده. تجلس الأم في الردهة الواسعة أمام التليفزيون، تضحك – أورثت ابنها خفة الدم – هي تمزح طوال الوقت وتضحك في حياء أنثوي.

لكن لا شيء يظل كما هو، لقد تغير الحال، تزوجت آخر بنتين لدى الأم، وبقيت وحدها في الشقة. ابنها الذي كان يبهج الأسرة بحضوره؛ لم يعد يأتي كثيرا كما كان، أعباؤه زادت فيأتي الآن في المناسبات: خطوبة ابنة من بنات أخوته، أو زواج ابن أخته أو في الأعياد. والأم تجلس في مكانها وحدها. الأولاد بعيدون عنها، سكنوا أماكن بعيدة : سيدي بشر وباكوس والعجمي. وكذلك البنات ابتعدن عنها، لم يتبق لها سوى الابنة الكبرى، هي حقا تسكن قريبا منها، لكنها مشغولة بأولادها وبناتها، مشاكلهم كثيرة جداً، خاصة بعد موت الزوج، هي الآن الأم والأب معا.

والأم تجلس في مكانها، حتى التليفزيون ما عادت ترى فيه شيئا، تصلى فوق كنبتها المفضلة. حتى عندما جاء الابن الكبير لم تحس الأم بما كانت تحس به زمان. مر اليوم ولم يأت أحد من أخوته.
في اليوم التالي جاء أخوه الذي يليه في العمر والذي تربى معه ولعبا معا، فالفرق بين عمريهما عام واحد وشهور قليلة. لم تأت زوجته وأولاده. الدنيا تغيرت يا ناس.

جاء شقيق زوجة ابنها وهو ابن أخوها في نفس الوقت. أرسله ابنها لشراء بعض الأشياء. مر من أمامها. بعد أن جاء بما كلفه ابنها بشرائه؛ مر ثانية فلم تجد "بوكا" كانت تضعه بجوار التليفزيون. "البوك" فيه كل ما قبضته من معاش زوجها، لم تنفق منه سوى القليل. هي تعرف أن الولد يسرق. فشل في دراسته وعمل نقاشا. كلما ذهب إلى شقة ليدهنها؛ يسرقها ويطارده أصحابها، يأتون إلى أمه، يسبون ويتشاجرون. أمه طيبة وليس لها في المشاكل. تبكى المرأة وتطيب خاطرهم، لكن معظمهم يبلغون الشرطة التي تطارده وتطاردهم، يبحثون عنه في الحجرات وتحت غطاء السرير العالي ذي العمدان السوداء. ويقبضون عليه، لكنه يخرج بعد أيام، "فالحرامي وشيلته" وهو لم يضبطوه يسرق ولم يجدوا معه شيئاً مما سرق، ينفق كل ما معه أولاً بأول.

قالت المرأة لأبنها:

 حمدي سرق " البوك".
 لا أظنه يفعلها معك، ابحثي عن "بوكك" جيدا.
 بحثت ولم أجده، هو الذي فعلها.
يصادق الولد – في هذه الأيام – أولاداً خطرين، طوروا طريقته في السرقة، علموه كيف يصعد المواسير، جعلوه يسرق من أماكن بعيدة بعد أن أمتنع معارفه عن طلبه لدهان شققهم بالبوية، فهو سيسرقها بعد أن يدهنها.

بحثوا عن حمدي لم يجدوه، هذه طريقته، بعد أن يسرق يختفي، يذهب لإنفاق الأموال في ليلتها، ولو كان مبلغاً كبيراً فبعد عدة أيام.
قال ابنها الآخر: هذا الولد مصيره يقتلك، ليسرق ذهبك.
هي لديها ذهب كثير جداً، يمكن أن يزنوه بالكيلو، جمعته أيام كانت تعمل خياطة لتساعد زوجها على تربية الأولاد الكثيرين جدا. كسبت كثيرا من الخياطة، كان كل ما توفره تشترى به ذهب، تلبس بعضه الآن، والأكثر تخفيه، تجعله للزمن. كل الأسرة تعرف هذا، وحمدي ابن أخيها يعرف أيضاً، وقد يأتي لسرقتها.
هي الآن في أمان. فابنها الكبير معها. وأخوه معها، والجيران يأتون لمقابلة الابن العائد من السفر والجلوس معه، وكذلك أصدقائه، لكن بعد أن يذهب ابنها ؛ ستعود إلى وحدتها.

هي التي كانت تكثر من المزاح والسخرية من كل شيء؛ أصبحت مهمومة. تخاف أن يمشي ابنها فتقتلها الوحدة، أو يقتلها الولد حمدي من أجل الذهب الكثير الذي تمتلكه. فكرت في بيع الذهب، وأن تعلن أمام الجميع عن ذلك، فيعرف الولد فيبتعد عنها، لكنه سيأتي لسرقة ثمنه.
ظلت مهمومة طوال الوقت، في الغد سيعود ابنها إلى مدينته التي يعمل بها وسيطول غيابه كالعادة. سيأتي بعد عدة شهور، تكون هي قد قتلت إما بالوحدة أو بيد حمدي.
وبالفعل ذهب ابنها، رأى وجهها مكدوداً وبريق عينيها قد انطفأ. لم تضحك وتمزح وتسخر كعادتها. قال لها:
 مالك، إنك غير مبسوطة.

أرادت أن تبتسم، لا تدري إن كانت الابتسامة وضحت على وجهها أم لا. وعاد الابن الآخر إلى بيته، وظلت وحدها. قامت بعد أن أطمأنت إلى أن الأبواب مغلقة، ستتصل بابنها لكي يأتي بالنجار لعمل "عين سحرية" فوق الباب، فإذا دقه أحد نظرت من "العين السحرية" لتعرف من الطارق. لماذا لم تفكر في هذا من قبل، مع أن معظم الجيران وضعوها فوق أبوابهم.
اطمأنت على وجود الذهب في مكانه، وتحسست الموجود في ذراعيها وعلى صدرها. وأضاءت مصابيح الغرف كلها رغم أنها في عز النهار. لكنها أطفأتها ثانية، وأطفأت التليفزيون، يجب أن توحي للجميع بأن الشقة خالية وأنها لدى ابنتها، لكن قد يكون هذا مشجعاً لسرقتها.
دق الباب، أرتعد قلبها داخلها وارتعشت. أحست بأن شعر رأسها يقف، ارتبكت، لن تفتح الباب، ستقف في الشرفة وتصرخ لينقذوها من حمدي ابن أخيها، لكن قد يكون الطارق آخر غيره.
اقتربت من الباب، وضعت أذنها على خشبه وصاحت:

 من؟
 عثمان.
 عثمان من؟!
 ماما، ماذا بكِ؟ عثمان ابنك.

ترددت قليلا ثم فتحت الباب، كان ابنها الذي يسكن العجمي. علم بأن أخاه الكبير جاء؛ فأراد مقابلته والجلوس معه، لكن مشاغله عطلته عن الحضور بالأمس. وقد جاء الآن على أمل أن يلحقه قبل أن يسافر.
قالت: إنها في حاجة إلى "عين سحرية" لتعرف من الطارق. قال: سأتحدث مع النجار في هذا. طلبت منه أن يبقي معها قليلاً، لكنه أعتذر فزوجته المدرسة تنتظره في مدرستها، ليعودا معاً إلى العجمي قبل عودة ابنتهما من المدرسة.

بقيت في الشقة وحدها، فتحت باب الشرفة، وضعت مقعدا بها وجلست، تابعت المارة في الشارع، شاهدت الولد حمدي يقف وسط أقرانه. صاح ولوح لها: عمتي، تريدين شيئا؟
ارتعدت وخافت، هاهو قد رآها وعرف أنها وحدها في الشقة. سيأتي بعد قليل. عادةً ما يأتي ومعه زملائه اللصوص، أو قد يرسلهم ويبقى في انتظارهم حتى لا يتعرف عليه أحد.
أغلقت باب الشرفة، ارتدت ملابسها، ستذهب إلى ابنتها، هي لا ترتاح عندها فابنها يرفع صوت التسجيل، ويختلف مع أخته في ذلك ويتشاجران؛ لكن ما باليد حيلة سواها. تفضل أن يسرقوا ذهبها وتكون خارج الشقة حتى لا يقتلوها. أحست ابنتها بأن أمها مريضة. لون وجهها مخطوف وباهت، السمار الذي كان رائقا وجميلاً؛ صار أزرقاً الآن.
 ماما، هل أنتِ مريضة؟
 إنني خائفة، الولد حمدي قد يقتلني من أجل الذهب.
ضحك ابن ابنتها، وضحكت البنات ساخرات: "كيف يقتلك وأنت عمته؟"، قالت: نحن في زمن يقتل الابن أمه من أجل المال.

كان لابد أن تعرض على الطبيب، فقد شحب لونها وامتنعت عن تناول الطعام وارتفع ضغط الدم، وزادت دقات القلب. أدخلوها المستشفى. من الممكن أن يغتنم الولد حمدي الفرصة ويسرق الذهب، ليته يفعلها لترتاح. نظرت حولها وجدت ابنة من بناتها قريبة منها، أمسكت يدها وقالت:
 بيعوا الذهب لارتاح.
ضحكت البنت وضحك الموجودون من قولها، ظنوها تهذي من أثر المرض.
جاء حمدي لزيارتها، كان يرتدي ملابس جديدة غالية الثمن، ووضع بجوارها علبة شيكولاتة من النوع الراقي الثمين. أبتسم الجميع فهذا معناه أنه سرق سرقة كبيرة ومازال باقياً من ثمنها شيئاً. قالت لنفسها: "ربما سرق الذهب".

كانت حالتها تزداد سوءاً. أرسلوا إلى ابنها في المدينة التي يعمل بها، جاء بعد عدة أيام، قال لها:
 لم أكن أظنك في هذه الحالة. ماذا حدث لكِ، لقد كنت في حالة جيدة قبل أن أسافر.
همست الابنة الكبيرة إلى أخيها:
 إنها تخاف من أن يقتلها حمدي من أجل الذهب.

جاءت الأخبار بأن حمدي قد قبض عليه وهو يسرق شقة في دمنهور. لكن المرأة قد ماتت قبل أن تسمع الخبر!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى