الأحد ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم مصطفى نصر

لحظات حرجة

بعد أن انتهت الليلة وبدأ المعزون فى الانصراف؛ وقفت هى بجانب الحائط. لم تعد قادرة على الوقوف، لكن لابد أن تتماسك، راح الكثير ولم يتبق إلا القليل، سيذهب المقرئ بعد أن يأخذ حسابه، وسيذهب الحاج – والد زوجها – وابنه هلال وستنفرد بنفسها، لن تعطى اهتماما بأمها وإخوتها، ستذهب بعيدا عنهم لتبكى وحدها.

طوال الوقت والكل حولها، يتابعها، يراقبها فى شفقة، يتحدثون عنها، "مات زوجها وتركها شابة صغيرة وجميلة،ولديها – منه – طفل صغير"وهى شاردة تحس بأن الدنيا قد تغيرت كلها، كل مباهجها ذهبت، ابتعدت عنها. ستبكى وتتذكر ذلك الولد الجميل الذى جاء إلى شقتهم يوما، جاء بالصدفة ( هكذا كان يذكر دائما ) كان يعمل مع أخيها فى شركة واحدة، يحصلان مبيعات الشركة من العملاء.الضرورة أتت به إليهم لكى يراها ويحبها ويطلب من أخيها أن يتزوجها. كان وجهه كوجه طفل صغير؛ الشارب خفيف، واللحية لم يكتمل نموها، والابتسامة حلوة. جاء بأسرته ليخطبها. والده الحاج ضمها لصدره فى حنان:
  بدر أغلى أولادى عندى؛ حبيه كما يحبك.
والأم بكت من الفرحة: الذى يحب بدر أحبه.

لم تدرك حينذاك سبب جزعهم عليه واهتمامهم به، فقد أخفوا عنها خبر مرض القلب عنده. وأن الطبيب حذرهم من الزواج، لكن المرأة ألحت على والده واستجابت لرغبة ولدها: الولد نفسه يفرح يا حاج.
حتى وافق الرجل.
وفرح الولد بها، لكن قلبه الضعيف لم يحتمل فتوقف.
جاءته أمه فى الصباحية؛ همست فى أذنه، وأخرجت من صدرها علبة الدواء: بدر، لا تنس علاجك.
تابعت هى هذا من حجرة أخرى، خافت – أول الأمر -، ظنته دواء من الأدوية التى تعين الرجل على المعاملة مع المرأة، والتى كانت الفتيات – فى المدرسة – يحكين عنها، وعندما عملت سمعت عنها أكثر من زميلاتها فى العمل. أدوية تجعل الرجل أكثر قوة، وتطيل لحظاته معها. سألته عن ذلك، فبدا قلقا ومرتبكا:
  إنه، إنه دواء للصداع، تعلم أمى أن الصاع يطاردنى دائما.
لم يحك لها عن حقيقة مرضه إلا بعد وقت طويل، بعد أن بات هذا واضحا من ضعفه وعدم قدرته على الذهاب إلى العمل.
كان المقرئ آخر من خرج. الموجودون – الآن – ليسوا أغرابا. الحاج – والد بدر – وأخوه الأصغر هلال. وأمها وإخوتها فى الداخل يرتاحون من عناء الليلة.
لم تستطع أم بدر الحضور فى المساء، ظلت فى شقتها غير قادرة على السير.
صافحها الحاج:
  يا ابنتى، طفلك ربط بينك وبين أسرتنا.
  نعم يا حاج.
ومد هلال يده لها قائلا فى ود:
  سأحضر إليك فى الغد.
أومأت برأسها. هى لا تريده، ولا تريد أحدا يزورها هذه الأيام. ارتاحت بعد أن خرج الرجل وابنه.انفردت بحجرتها التى كان بدر ينام فيها معها. تعمدت ألا تشعل المصباح. سمعت أمها تناديها من حجرتها البعيدة، لم ترد عليها، أغلقت الباب وبكت.
فى الصباح؛ أخبرتها أختها الصغيرة بأن هلال قد جاء، ذهبت إليه، وقف عندما رآها آتية:
  كيف حالك وحال الطفل ؟
  بخير.
لم تصافحه، جلست بجواره، تعرف ما يقال فى مثل هذه المناسبات، كلمات جوفاء لا تغير شيئا، قال:
  سأذهب إلى مقر عمل المرحوم لأنهى إجراءات المعاش والمستحقات الأخرى.
  شكرا، أخى سينهى كل شيء، فهو يعمل فى نفس الشركة كما تعلم.
  لا، سأذهب.
لم تكن ترتاح لهلال هذا، كان يأتى إلى شقتها لزيارة أخيه؛ فيتحدث كثيرا، يتدخل فى كل شيء، كانت ترى بدرا يعطيه بعض المال؛ مساعدة منه، فهلال راتبه قليل ومصاريفه كثيرة.
  من الآن اعتبرينى كل شيء فى حياتك وحياة الطفل – ابن أخى -.
نظرت إليه مندهشة. ماذا يريد أن يقول ؟!
ثم قال بصوت خافت:
  مادام هلال معك، فأخي بدر لم يمت ،سأهتم بالولد الصغير، لن أجعله يحس بفقد الأب.
  إننى لا أحتاج لشيء؛ فمعاش بدر يكفينى أنا والولد.
  لكن البيت لابد له من رجل.
وقفت فزعة:
  ماذا تقصد ؟
وقف هو الآخر وأراد أن يمد يده ليدها، لكنها صرخت فيه: أرجوك، أرجوك.
وبكت ، صرخت حتى أسرعت أمها وإخوتها من الحجرة البعيدة، صاحت الأم فزعة:
  ماذا حدث، ماذا حدث؟
وسألها شقيقها:
  هل قال هلال ما يغضبك؟
قالت وهى مازالت تبكى:
  لا.
نظر هو إليها وسار إلى الباب دون قول.
لم يتزوج هلال، ألحت عليه أمه كثيرا، لكنه لم يستجب، كان يردد دائما:
  من أين ؟!
لم تحك لأحد عما حدث بينها وبين هلال، وعندما ألحت أختها صرخت فيها وبكت؛ فاضطرت الأسرة أن تصمت وتتركها لأحزانها.

ماذا يريد هلال منها ؟ ، إنها تحس بزوال الأشياء حولها. سيكبر الطفل فلن يجد أبا أمامه، ستحتفظ لبدر بصورة حتى يعرفه الولد عندما يكبر
هلال ينظر إليها نظرات غير عادية، لمحته من بعيد يتابعها فى كل حركة تتحركها لدرجة أنه أسرع وراءها عندما دخلت حجرتها لقضاء حاجة، ظنته يريد أن يخبرها بشيء، لكنه ظل محملقا فيها ولم يتحدث.
بدر كان يعمل فى وظيفة محترمة، وبراتب كبير، لكن أخاه هلالا... ما دخل هلال فيما تفكر فيه الآن ؟! مالها ومال راتبه إن كان كبيرا أو صغيرا ؟ هى لا تفكر فى الزواج، ولن تفكر فيه أبدا، ستتفرغ لتربية الولد المسكين.
تعامل بدر معها كرجل فى ليلته الأولى معها، لكنه فى الصباح أحست بارتعاشة جسده وبعرق بارد فوق الجبهة، وتمدد فوق الفراش كأنه قطعة قماش مهترئة. إحساسه بعجزه جعله يبالغ فى تدليلها وتقديم الهدايا لها. هى لم تحس بأنها زوجة سوى ساعات قليلة، بعدها لم تجده أمامها، كان ينتقل من مستشفى إلى أخرى. وفى البيت كانت ترعاه وتقدم له الدواء.هى ليست لديها مشكلة مالية. لقد ترك بدر لها مبلغا لا بأس به.كما أنها تعمل.والطفل الصغير سيكون له معاش من أبيه. لكن... ما الذى يجعلها تفكر فى أمور كهذه، الوقت غير مناسبا.

فى صباح اليوم التالى ارتدت ملابسها، وقفت أمام المرآة بعد أن أغلقت الباب. تابعت الوجه المكدود، تمنت لو وضعت قليلا من المساحيق لتخفى ذلك الشحوب الذى صاحبها منذ زواجها. ومشطت شعرها، قالت أمها:
  إلى أين ؟
  سآخذ الطفل لزيارة جده الحاج، وجدته التى لا تستطيع الحضور لتراه.
ظلت لوقت ليس بالقصير تتابع زينتها فى المرآة، وتشد الغطاء فوق جسد الطفل النائم، تتأكد إن كان الغطاء مشدودا حول جسده أم لا.
دهشت الأم ودهشت الأخوات، أردن أن يقلن شيئا، لكن لم تقدر إحداهن على هذا، لم يردن إحراجها، يكفى ما هى فيه.
دقت الباب، فدق قلبها دقات أعلى، فتح هلال الباب لها، كان يرتدى بيجامة قديمة، دهش عندما رآها أمامه، قالت:
  صباح الخير يا هلال.
فوجئ بطريقتها الودودة:
 صباح........
لم يكمل وأسرع إلى حجرته. خرجت أخت زوجها. أسرعت فرحة عندما رأتها، حملت ابن شقيقها، ضمته لصدرها وأخذت تقبله وهى تنادى معلنة لأهل البيت حضور زوجة أخيها.
قال الحاج:
  إننى سعيد لأنك أتيت يا ابنتى.اعتبرينى مثل والدك، وتعالى لزيارتنا فى أى وقت تشائين.
قالت فى أسى:
  كيف، وهلال يتجاهلنى هكذا ؟!
  ماذا فعل هلال؟
  لا شيء.
تركت الطفل الصغير فى رعاية الأسرة، ودخلت حجرة هلال لتحدثه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى