

اللّغة العربية أداة تفكير أم أداة تنميط
قال المتنبّي يومًا: تخالف النّاس حتّى لا اتّفاق لهم/ إلًا على شجبٍ والخلف في الشجب
ومثل هذا القول يمكن أن ينطبق على واقع العرب، إذ تخالفوا على معظم المشتركات في ما بينهم إلّا على اللّغة، فقد اتّفقوا عليها، وأقرّوا بأهميّتها واقترابها من اللّغة الإعجازيّة أحيانًا، وزادها قيمة أنّ القرآن نزل بها تحت مسمّى اللّسان العربيّ، حتّى وصل الأمر إلى القول: إنّ اللغة العربيّة هي لغة القرآن، علمًا أنّها ليست لغة القرآن بل إنّه هو من أبرز تجلّياتها الجماليّة. وهذه العلاقة بين اللّغة والكتاب المقدّس، على الرّغم من ظاهرها التكامليّ، إلّا أنّها علاقة فيها من الضبابيّة الكثير، وهنا يمكن اعتماد الشطر الثاني من بيت المتنبّي، حيث الخلف في اللغة الأكثر اتّفاقًا عليها وعلى قدسيّتها.
تشكّل اللغة العربيّة أبرز مركّبات الفكر العربيّ والعقليّة العربيّة، إذ تعدّ الوسيلة الأساس في بلورة الثقافة الممتدّة على مدى قرون، ما صيّر العلاقة بينها وبين الفكر علاقة تبادليّة، فبقدر ما تغذّى الفكر والعقلية العربيّان ممّا وفّرته اللغة من حقول خصبة كأداة تفكير، فإنّ اللغة أيضًا أُتخمت بغذاء الفكر والعقلية العربيين، ما جعل ثقل الحركة يطول الطرفين معًا، ويسهم في مستنقعية التفكير وتوقّف جريان نهره كما ينبغي أن يكون.
تشكّل اللغة العربيّة المدماك الرئيس من مداميك التباهي العديدة لدى العرب، فهي اللغة الغنيّة والخلّاقة كما يعتقد الكثيرون، أو كما اقتنعوا وأسقطوا على أنفسهم عبر اللاوعي الجمعي، وبهذه الصفة الخلّاقة، اتّسم التفكير العربي بالخلّاق أيضًا. ولكنّ سؤالًا قد يكون أقرب إلى مبضع يحرّك أدرانًا خامدة وقد يولّد وجعًا سببه جرح نرجسيّ شبيه بالجرح النرجسي الكوني الذي تسببت به اكتشافات علميّة تختلف عمّا كان سائدًا خاصّة في أوروبا، وكانت ردود الفعل حول ما أصيبت به العزّة البشرية مختلفة بين شعب وشعب، ومكان وآخر، حين وضعت الأسئلة الجديدة الإجاباتِ الجاهزة في خانة العجز، وأدرك الإنسان أنّه التابع وليس من أنصاف الآلهة، وهذا السؤال هو: ما المجال الذي ظهرت فيه اللغة العربيّة توليدية وخلّاقة ما يجعلها مواكبة الحياة كما يرى معظمنا؟ فالجواب واضح ولا لبس فيه، وهو أنّها ولّادة ألفاظ دلاليّة تدخلها في إطار الوظيفة الجمالية الشعريّة أكثر مما يجعلها ذات وظيفة مرجعيّة. لقد اقتحمت اللغة بملايين الألفاظ التي يتغنّى بها أصحابها، الفكرَ العربيّ، فجعلته قاصرًا بطيء الحركة، عاجزًا، ولأنّ العلاقة بين التفكير واللغة تبادليّة، فقد شلّ الفكر اللغة بسبب قصوره وعدم قدرته على الاكتشافات والاختراعات التي تحتّم البحث عن مصطلحات ومفاهيم جديدة تتكفّل اللغة بإيجادها ومحاولة بلورتها. لكنّ اللغة العربية، وما تشكّله من أبرز أدوات الفكر العربي ومركّباته، استحالت لغة قبول وتعبير عمّا هو موجود، ولم يسعف الخيال أصحاب اللغة لخلق ما هو ممكن بقدر ما عبّروا ويعبّرون عمّا هو كائن، خالقين مئات الصفات والأسماء للشيء الواحد، ففاضت اللغة ألفاظًا ودلالاتٍ، وبقيت المعاني والمفاهيم المطروحة في الطرقات حسب تعبير الجاحظ، تجترّ نفسها تحت مسمّيات مختلفة، وهذا ما أدخل اللغة في إطار السلطة الشكليّة النهائية المنسجمة مع صورة شكل حكم السّلطة النهائي المستمد قدراته من السماء وأي مساس به، أو طرح لتعديله يجعل من صاحبه مشاغبًا ومتّهمًا. وما زاد تحنيط اللغة وتنميط التفكير المتماهي معها، ما ارتكبه المتعصبون لها حين جعلوها جزءًا من نسيج القرآن القدسي، ما صعّب التفكير في تطويرها ومحاولة إخراجها من قوالبها الجاهزة العصية على الاختراق وتوجيه السؤال الذي يمكن أن يهدد ثوابت من الإجابات المنجزة للعصور السابقة والآنية والقادمة.
ولم يخل التاريخ العربيّ من محاولات لتحريك بركة اللغة الراكدة كما هي الثقافة العربيّة عمومًا، وكانت محاولات لم تخرج من تحت مظلّة الشعر والأدب أيضًا، ما جعلها محاولات حول استخدام اللغة عبر القول والخطاب، ومحاولة اللعب في ملعب المعنى الخاص تمرّدًا على المعنى العام الذي كرّسته نظريات نقدية رسّخت فكرة التقديس اللغوي وجعلت معايير الفن أخلاقيّة واجتماعية أكثر مما هي فنيّة، فلم يقم المجددون إلا بثورة داخل المفاهيم والمعاني المتداولة عبر تراكيب وإيقاعات جديدة، ومع ذلك اتّهم هؤلاء بالخارجين على القوانين والمألوف وأبرز التّهم الّتي وجّهت إليهم أنهم لم يروا من الأوائل من يشبه طروحهم، ما يؤكّد أنّ القديم بكل ما فيه، ومنه اللغة، يستحيل منتِجًا لما بعده، بدلًا من أن يكون منتَجًا نتيجة معطيات وعوامل خلقته وينبغي تغييره بتغيير أسباب ولادته.
هذا المقال..منشور سابقا في منصة بيروت 2030