التصادم
عندما أفاق أحس بآلام في ساقه، وطبيب شاب ينحني فوق رأسه. أراد أن يقوم. لكن الطبيب ابتسم قائلاً:
– لا تخف.
نظر حوله في دهشة، ما الذي أتى به إلى هنا؟!
كان الطبيب يعالج الجرح الصغير فوق حاجبه:
– احمد ربنا. لقد نجوت بأعجوبة.
– ماذا حدث لي؟
– حادثة بسيارتك، وجرح صغير فوق الحاجب، وساقك..
– كسرت؟
– سنعرف بعد "الأشعة"
لم يعد ما حدث خافياً عنه، فقد كان يسرع بالسيارة، وهو لاه عن كل شيء سوى ابتسام زوجته. أشعل السيجارة وهو ممسك "بمقبض السيارة". "أبعد كل هذا الوقت، تتنكر له: أيام الخطوبة في الإسكندرية، وأحلامها معاً، ثم الزواج والسفر إلى القاهرة، كل ذلك يضيع، مع أنه لم يقصر معها في شيء..
تعيش في القاهرة- معه- دون أمها وأخوتها، وهو مشغول بعمله معظم النهار. هي لا تجد ما يشغلها، ملت. المجلات التي اشتراها لها ملقاة في كل ركن من الشقة، وخيوط التريكو، البعض منها مشغول، والآخر كما هو فوق "الكومدينو" بلفته.
بكت وأصرت على أن تسافر إلى أمها. قال مبتسما:
– سافري، وسأحضر إليك بعد يومين أو ثلاثة، بعد أن أنهي أعمالي.
أنهى أعماله بسرعة. وسافر إليها. كانت أخواتها المتزوجات- والغير متزوجات- يتحدثن عن مسلسلات التلفيزيون، وعن آخر خطوط الموضة في الشعر والملابس، وهي وسطهن سعيدة، كأنها
لم تتزوج ولم تفارق البيت تتحرك في البنطلون في خفة، جسدها كما هو، لم يتغير فيه شيء، خاصة أنها لم تنجب.
حاول أن يجاملهن، اشترك في الحديث، لكن طريقتهن في الرد، كانت تعني الكثير، لم يكتشف هذا إلا بعد أن صارحته ابتسام، بأنها لن تعود، فقد ملت القاهرة وحرها، وعمله الذي لا ينتهي. أراد أن تتدخل أي أخت منهن لصالحه، خاصة المتزوجات لكنهن أكدن قولها. حتى أمها ابتسمت قائلة:
– دعها مع أخواتها، ولو أردتها تعال إليها. أو انقل عملك -هنا- في الإسكندرية. دفع باب السيارة في عنف، وأقسم بألا يقضي في الإسكندرية ليلة واحدة.
أشعل سجائر كثيرة وانطلق بسيارته إلى الطريق الزراعي. في أول الطريق رأى سيارة نصف نقل آتية نحوه، ونفيرها عال، بعدها لم يحس بشيء إلا والطبيب يعالج الجرح في وجهه.
– ما اسم المستشفى؟
– كرموز.
هو سكندري الأصل، ويعرف أحياءها جيداً، لقد جاءوا به إلى هنا، لأنها أقرب مستشفى إلى مكان الحادث.
قال للطبيب:
أريد أن أخرج. أستطيع الإقامة في مستشفى خاص.
قال الطبيب مبتسماً:
– الموضوع لا يستحق هذا. ستبقى معنا حتى الصباح. حتى نطمئن على حالة ساقك. وستخرج بعد ذلك بعد لحظات دخل "تومرجي" يدفع "توريللي" فوقه رجل مريض، وحوله عدد من الرجال والنسوة، وضعه التومرجي فوق السرير أمامه وخرج، بكت النسوة، إحداهن صغيرة، كانت تبكي في صمت والرجال يحدثونها، جاء طبيب مسن، صرخ قائلاً:
– اخرجوا جميعاً. حتى أستطيع العمل في هدوء.
قال رجل في حزن شديد.
– زوجته ستبقى معه لرعايته.
قال الطبيب:
– اخرجوا بسرعة ودعوها.
وضع الرجل لفافة فوق الكومدينو وقال لزوجة المريض:
– هذا الطعام له ولك.
أشاحت بيدها في أسى
شعر بالضيق، طبيب شاب كان يعلق زجاجة الجلوكوز في أعلى سرير المريض الآخر، وممرضة تبحث عن "عرق" ظاهر، لتدخل "سن الإبرة فيه، والطبيب المسن يفحص الأنابيب الدقيقة التي يسير فيها الجلوكوز.
أراد أن يخرج من الحجرة ليشعل سيجارة، لكنه لم يجد علبة السجائر معه.
جلست المرأة -زوجة المريض- فوق السرير المقابل. لم تنظر إليه وكأنها لم تره. كانت تتابع الأطباء وهم يبحثون في جسد زوجها في اهتمام وخوف. عضلات وجهها تتحرك مع كل حركة فوق الجسد.
كانت أكثر امتلاء من ابتسام زوجته. لكن وجهها أكثر جمالاً
ينظر الأطباء إلى المريض في ضيق. طال الوقت وهم يفحصونه. ويفحصون الأنابيب التي يتعطل عملها أحياناً، ويتحدثون.
أحس بحاجته إلى النوم، ربما من تأثير المخدر، أو من أثر التصادم. مد جسده فوق الفراش ونام.. أفاق بعد ساعات، كانت الحجرة مضاءة، والمرأة تجلس فوق البلاط العاري، أمام جسد زوجها الذي لا يتحرك. انسدل غطاء رأسها، فظهر شعرها المائل للاصفرار، وحبيبات العرق تحته، فوق جبهتها. وانحسر الثوب عن ساقها البيضاء. نظرت إليه. ثم أسرعت تشد الثوب على جسدها في فزع ابتسم لها. لكنها أبعدت وجهها عنه في ضيق. عادت ثانية لجسد زوجها الممدد.
وقف على الأرض العارية المتسخة. كان ما زال يلبس "الجورب" منذ أن حدث التصادم. تابعته من جلستها، ثم أرخت جفنيها. وتنهدت في أسى. اقترب منها:
– زوجك؟
(كان يعلم أنه زوجها. منذ أن قال الرجل للطبيب المسن ذلك. لكنه أراد أن يتحدث معها) أومأت برأسها. ثم أبعدت رقبتها عنه.
عاد إلى سريره. ماذا لو اتصل بابتسام. يخبرها بالحادثة. ربما يرق قلبها وتأتي إليه. لا. لا يستطيع فقد صدم بتصرفها: تتخلى عنه بعد كل ما قدمه لها، ومن أجل أشياء صغيرة ماذا لو اتصل بأخته؟ نظر في ساعته. كانت تقترب من الواحدة صباحاً. لا. سيقلقها الخبر، والموضوع لا يستحق هذا. فالجرح صغير للغاية. وساقه تتحرك. لا شيء سوى ألم خفيف. لو كانت مكسورة ما استطاع أن يحركها.
فجأة، قامت المرأة من مكانها في لهفة، وهي تنظر إلى جسد زوجها. نظرت إليه، لكنها لم تستطع أن تطلب منه المساعدة، أسرع إليها:
– ماذا حدث؟
كان الرجل يغمغم، ويخرج زبداً من فمه، قالت وهي تبكي بصوت مرتفع:
– أريد الطبيب بسرعة.
أسرع إلى الطرقة الطويلة. عاد بالطبيب والممرضة. فحصا الرجل ثم أمر الطبيب بإعطائه حقنة. وقال للزوجة:
– اطمئني:
بعد أن خرجت الممرضة والطبيب، قال:
– ليتك تنامي بعض الوقت، فأنت مجهدة.
لم تعد تقطب وجهها كما كانت تفعل. لم تبتسم. لكن حالة وجهها كانت أقل من الابتسام بقليل. جلست فوق البلاط العاري ثانية. وجلس -هو- فوق السرير المقابل:
– لماذا لا تجلسين فوق السرير؟
ابتسمت. لكنها لم تقم من مكانها،
– ماذا حدث له؟
– اشتد عليه المرض في الصباح
مدت ساقيها، شبكتهما معاً:
– يقول الطبيب إنه نزيف داخلي
– ارتاحي فوق أي سرير. هل أخرج من الحجرة، لتتصرفي بحرية؟
قالت في حماس:
– لا. لا أستطيع النوم، كيف أنام وزوجي هكذا؟!
– لعلك لم تتناولي الطعام منذ أن أتيت؟
– بل منذ أن ساءت حالته في الصباح.
كانت لفة الطعام كما هي فوق الكومدينو أشار إليها قائلاً:
– تناولي الطعام. ممكن أن تصابي بمرض.
زفرت فهي متعبة منذ أن تزوجته. كان مريضاً من قبل أن تتزوجه. لكنهم أخفوا عنها هذا. لم تحس به كزوج أبداً.
أمسكت اللفافة. فتحتها. قدمت سندوتشاً.
– أمسكي هذا مني.
مدت يدها في تردد:
– يقولون إن سيارة صدمت سيارتك.
ضحك:
– لا أعرف للآن ما الذي حدث لسيارتي
– لم تتناول طعاماً منذ أن أتيت خذ لك سندوتشاً.
كان جائعاً جداً. لكن دافعه للأكل كان ليشاركها ذلك.
وجهها يزداد جمالاً وهي مبتسمة أمسك اللفافة. وتابعها وهي تلوك.
كانت تنظر إليه وإلى جسد الرجل المريض من وقت لآخر.
وجهها لم يعد مجهداً كما كان. قال:
– احضر لك ماء.
ابتسمت. حمل دورق المياه الفارغ من فوق الكومدينو وذهب لدورة المياه. كانت حجرات المرضى مظلمة. وحجرة الطبيب مظلمة أيضاً. عاد بالماء. أعطاه لها.
مد يده وخلع غطاء رأسها. أبعدت رقبتها في عصبية، غمغمت.
وضع خمارها جانباً، ولمس الشعر الناعم، تحركت وهي جالسة. أرادت أن تبتعد، وهي ما زالت تنظر بحرص وخوف إلى جسد زوجها.
داعب رقبتها العارية ثم صدرها. المرأة في حيرة، تريد أن تصرخ، ولا تستطيع، ما الذي يمنعها من سبه. أو إيقاظ المرضى والممرضات والأطباء. لو لم يكن زوجها فاقداً وعيه لكان قام من مكانه، لسماع تغمغمها.
جلس بجانبها بين السريرين، التصق بجسدها. دفعته، اندفع جسده كله بسرير زوجها، اهتز السرير وزجاجات الجلوكوز والأنابيب الدقيقة.
زوجها، الابن الوحيد لأبيه، أنفق والده الكثير عليها وعلى أسرتها -أيام الخطوبة- حتى يغطي على حقيقة مرضه الدائم. لا تذكر زوجها إلا متأوهاً يشكو الألم.
شدت شعر رأسه، وساقه التي تؤلمه، وملابسه الملطخة بالدم.
عندما قام من بين السريرين، كانت -هي- مجهدة لدرجة أنها لم تستطع القيام، ظلت نائمة لوقت طويل تنظر إليه في دهشة، ثم اعتدلت، أرادت أن تسبه، أو تعاتبه، لكنها لم تفعل.
قامت ونظرت إلى وجه زوجها الذي كان أكثر اصفراراً، أرادت أن يجئ -هو- ليراه معها. ليرى إن كانت حالته قد ساءت أم لا. لكنها لا تعرف اسمه. وما حدث بينهما -لا شك- قد جعلها تشعر بالحياء منه.
هزت جسد زوجها في فزع. ثم صاحت:
– تعال، انظر إليه.
أسرع -هزه معها، ثم أسرع إلى حجرة الطبيب. دفعها، فانفتح الباب. كانت الممرضة نائمة فوق مكتبها. والطبيب نائم فوق فراشه في آخر الحجرة . صاح في عجلة:
– أرجوك، الرجل حالته سيئة.
أسرعا خلفه. كانت -هي- منحنية فوق جسد زوجها، تبكي في صمت.
دفعها الطبيب. فحص المريض وقال:
– لقد مات.
نظرت إليه، وهو مشدوه فوق سريره البعيد، ثم صرخت. أحست بأنها تريد أن تقول شيئاً. خرج الطبيب والممرضة خلفه.
أسرع -هو- إليها. كانت تتحرك في جنون. شد جسدها إليه. دفنت وجهها في صدره وبكت. عندما أحس بأن المرضى سيأتون من الحجرات الأخرى، أبعدها عنه. انكفأت فوق الفراش وبكت.
في الصباح، جاء والد المريض وبعض النسوة. كانت -هي- قد تعبت من البكاء والصراخ. فجلست على الأرض بين السريرين، واضعة رأسها فوق يدها. صرخت النسوة. وبكى والد المريض، وهي تتابعه من وقت لآخر فوق سريره.
حملوا الجثة فوق "التروللي، الذي دفعه التمرجي خارج الحجرة. بينما دخل الطبيب الشاب قائلاً له:
– أبشر. ساقك سليمة. يمكنك الخروج.
خرج والد المريض وخلفه النسوة وراء التروللي. وسارت -هي- في خطوات وئيدة، قبل أن تخرج من الحجرة نظرت إليه. لمحها وهو منهمك في جمع أشيائه.