صديقي
يجيء كل عام إلى الإسكندرية لقضاء عشرة أيام في المعمورة في عمارة تابعة للهيئة التي يعمل بها . يعجبه الحال – أحيانا – فيقضي عشرة أيام أخرى.إذا راق له الجو أكثر ؛ يكمل العشرة المتبقية من شهر سبتمبر. فهو يأتي دائما في ذلك الشهر، حيث تكون الإسكندرية أقل ازدحاما وأكثر هدوءا .
يتصل بي خلال هذه الأيام من تليفون الشقة في المعمورة ، نتفق على يوم أذهب فيه إليه . أنزل من سيارة الشركة – التي أعمل بها – في محطة " الإصلاح" فهي أقرب للشقة التي يسكنها . أسير ، أبحث عن العمارة التي فيها الشقة. في كل مرة أتوه عنها . لا أعرف مكانها إلا إذا سألت عن اسم الشارع ؛ فالشوارع هناك متشابهة ومتشابكة، والعمارات أيضا متشابهة. لا أستطيع أن أستدل علي الشقة إلا بالسؤال عن اسم حارسة العمارة : " أم أحمد " فالحراس – هناك – يعرف بعضهم البعض .
أجلس معه في الفراندة الكبيرة نتحدث . الحكايات كثيرة جدا ، حكاياته عن أدباء المحافظة التي يعمل بها والذين يزورونه في تلك الفيللا الكبيرة التي تسكنه فيها الهيئة التي يعمل بها ، ويتحدث عن الكتب التي قرأها خلال الفترة التي لم نتقابل فيها، وأحكي عما حدث لي خلال غيابه .هو عادة ما يحكى أكثر، لا يعطيني فرصة لكي أتكلم ، يقاطعني ، لا يريدني أن أشكو له عما يحزنني، أو يؤلمني.
تأتي أسرته– من البحر – بعد ذلك واحد وراء الآخر، وواحدة وراء الأخرى، فهو يدعو إلى تلك الشقة أخوته وزوجاتهم وأولادهم وأخواته وأهل زوجته ؛ خاصة البنتين اللتين تساعدان زوجته في إعداد الطعام .
أتناول الغداء متأخرا ، فهم يعودون من شاطئ البحر متأخرين . الطعام عادة ما يكون مكرونة وسجق ،أو لحم محمر ومخلل تصنعه زوجته بنفسها ؛ يقدمه إلىّ متباهيا بذلك . زوجته تجيد صناعة الطعام ، كما أنها مضيافة من الطراز الأول ، تلح على تقديم الحلويات والمشروبات والفاكهة .
أخرج أنا وهو في المساء ، نسير في شوارع المعمورة التي لا أحبها . أجيء إليها مضطرا . فتاة ممتلئة سمراء تشد كلبا أثقل منها، والكلب يشدها – هو الآخر – في عنف. تحاول أن تبعده عن المارة بصعوبة . عندما حدثها - صديقي – قالت:
– يدي اتملخت من شده لي .
علاقتي به طالت ، سنوات طوال منذ أن التقينا على باب قصر ثقافة الحرية في ليلة انقطع فيها التيار الكهربائي عن المنطقة كلها ؛ فوقفنا في الشارع إلى أن يعود التيار ثانية ، سألني وقتها عن نادى القصة ، ودار الحديث حول" فتحي غانم" وروايته " تلك الأيام " التي اتفقنا على الإعجاب بها ، وعن نجيب محفوظ ويوسف إدريس ، بعدها صرنا صديقين حميمين ، من يرانا معا يظن أننا تربينا معا منذ الصغر .
في ذلك العام قضى شهر سبتمبر كله في الإسكندرية ، تقابلنا على قهوة "الكريستال" كثيرا ، خاصة في المساء ؛ قال لي :
– ستذهب معي إلى " مدينتي " ، فمؤتمر الأدباء سيعقد فيها خلال أيام قلائل .
– لن أحضر هذا المؤتمر .
( وقد سألني أدباء كبار ، عندما اتصلت بهم تليفونيا ،" إن كنت سأحضر المؤتمر أم لا ؟ " ونفيت ذلك ، خاصة " عادل إسماعيل الذي طلب مني أن أسأله عن اسم أفخر الفنادق هناك ، لكي ينزل فيه أثناء انعقاد المؤتمر ، على أساس أن صديقي يعيش في المدينة ويعرف كل شيء فيها )
كنت مصمما على عدم حضور المؤتمر وأعددت نفسي على ذلك ، فمهما ألح لن أذهب معه ، لكنه قال قبل السفر بيومين :
– إنني في حاجة إليك ، فانعقاد المؤتمر في مدينتي التي أعيش فيها ، سيجعل الكثيرون يأتون إلىّ ، ولن أستطيع مقابلتهم وحدي .
عندما وجدته في حاجة إلىّ لم أستطع أن أتأخر ، رغم عدم رضاي عن السفر .
التقينا في الصباح بالأدباء الذين جاءوا من كل مكان في مصر ، وجاء " عادل إسماعيل " ليتسلم شهادة تقدير ، وأدعى بأنه مقيم بمدينة مجاورة للمدينة المقام بها المؤتمر لكي يتهرب من مقابلة الناس. قال هذا حتى لزميل يعمل معه في الجريدة التي يشرف علها . وحدي أنا وصديقي اللذين قد أسر إلينا بوجوده في الفندق الكبير ، واتفقنا على أن نأتي إليه فيه بعد الغداء لنقضي اليوم معا .
أخذني صديقي في المساء إلى حجرة قريبة جدا من حديقة الفيللا ؛ لها بابان، أحدهما يطل على الحديقة ، والآخر على الفيللا من الداخل .
وجدت عنده مجلد كبير يجمع أعدادا كثيرة جدا من مجلة فنية توقفت عن الصدور منذ أكثر من ثلاثين عاما ؛ أخذتها معي إلى السرير وأخذت أقلب فيها : أخبار الأفلام في ذلك الوقت ، وأسعار السلع وحكايات النجوم ، أشم في هذه المجلات رائحة الزمن القديم ؛ لذا قاومت النوم وظللت اقرأ " لوش الصبح " .
في الصباح ذهبت أنا وهو إلى الفندق الكبير ، تقابلنا مع " عادل إسماعيل " ، وبسيارة صديقي ذهبنا إلى فيلته ليشاهدها عادل إسماعيل وزوجته وابنه وابنته اللذان كبرا الآن ، فلقد رأيتهما آخر مرة منذ سنوات طويلة .
بهرت زوجة عادل بالحديقة الكبيرة جدا التي تحيط بالفيللا ، وفى الداخل قال عادل :
– إنها ليست فيللا ، هي قصر .
وأكمل في أسى :
– لكن هذه مشكلة ، فأنت بعد ذلك لن تستطيع أن تعيش في شقق .
فالفيللا سكنا إداريا ولابد أن يخليها عندما يترك العمل بالهيئة ، قالت زوجة عادل :
– لقد أفسدت حياتي، إنني أريد أن أعيش في فيللا مثل هذه .
عندما دخلنا الحجرة التي قضيت بها ليلتي ، كانت ملابسي معلقة على المشجب القريب من الباب ، وحقيبتي مازالت بجوار السرير ، قال صديقي :
– هذه حجرة " ............." ( وأشار إلى ّ)
نظروا إلى دون قول ، ودهشت من قوله ، فهي أول مرة أدخل فيها فيلته هذه . حقيقة زرته في فيلته الأخرى التي كانت أقل حجما ، لكنه انتقل إلى هذه الفيللا منذ وقت قريب ، بعد أن ترقى في " الهيئة " التي يعمل بها .
سرنا في دهاليز الفيللا ، سألتني زوجة عادل - فهى تعرفني وقرأت لي كثيرا - :
– هل عندك مكتبة ؟
باغتتني بسؤالها، أعتقد أن ما قاله صديقي عني أعطاها انطباعا بأنني أعيش معه في الفيللا طوال الوقت ، وقد خصص لي هذه الحجرة ، وأن ليست لي أسرة ولا أي شيء .
صعدنا إلى الدور العلوي ، ودار الحديث عن حجرات الفيللا الكثيرة ، ولا أدرى ما الذي ذكره بالحجرة التي قضيت فيها ليلتي ، فقد قال :
– إنها مخصصة لدادة الأطفال.
فقال عادل وهو ينظر إلى خجلا:
– لا مؤاخذة ، إنها مخصصة لحارس الفيللا .
أحسست بالأسى ، مالي أنا إن كانت مخصصة لدادة الأطفال أو لحارس الفيللا ، ولماذا يعتذرون لي وكأنني مسئولا عن اتخاذها مكانا للدادة أو للحارس . لكن ما قاله – صديقي – صور لعادل وزوجته ، وربما للولد والبنت أيضا بأنني أقيم بصفة مستديمة عنده ، وكل ليالي أقضيها في تلك الحجرة .
بعد أن انتهي اللقاء مع " عادل إسماعيل " وأسرته ، حملت حقيبتي وأصررت على العودة إلى الإسكندرية . قال صديقي :
– وباقي أيام المؤتمر ؟
– يكفى هذا .