إشكاليّة العلاقة بين الفكرِ والواقع
ما طبيعة العلاقة بين الفكرِ والواقع وما شكلُها ؟ أيُّ من الفكرِ والواقعِ يتقدَّمُ على الآخَر، الفكر أم الواقع ؟
ثمّةَ علاقة تربط الفكرَ بالواقع، على نحوٍ جدليٍّ متَبادَلٍ يؤثِّرُ ويتأثر كلٌّ منهما فيها بالآخر. والعلاقة بين الفكر الّذي هو خلاصةُ صُوَر الواقعِ وتمظهراتِه المختلفةِ على نحوٍ عقلانيٍّ منطقيٍّ من جهة، والواقع الملموس الخاضع لسنّةِ التغيُّرِ والتطوّر من جهةٍ أخرى لا تخرجُ عن احتمالاتٍ أربعة:
الاحتمال الأوّل: تطابق الفكر مع الواقع، الأمر الّذي يجعلُ العلاقةَ بينهُما تتّسمُ بالثّباتِ والسّكونِ النّسبيين.. لا يتقدّمُ فيها واحد على الآخر....
الاحتمال الثّاني: تأخُّرُ الفكرِ عن الواقع، ما يضفي على الفكرِ طابعَاً تراجعيّاً ويسمهُ بسمة التخلّف والتأخّر... عن مواكبة الواقع في لحظته التّاريخيّة المتَعيِّنة.
الاحتمالُ الثّالثُ: تقدُّم الفكر على الواقع، ما يسَمُ الفكر بطابعٍ تقدميٍّ يتجاوز وضعيّة الواقع الرّاهن ذاتِه، باتّجاهٍ أكثرَ تقدّماً وازدهاراً يُسهمُ في تطوّر الواقع بشكلٍ مستمرٍ دون توَقُّفٍ وانقطاع.
الاحتمال الرّابع : علاقة الفكر بالواقع وفقَ الاحتمالات الثّلاثة آنفةِ الذّكر في آنٍ معاً.. ففي لحظة مّا قد يتطابقُ الفكرُ مع الواقعِ ويتساوق معهُ: وفي لحظةٍ أخرى قد يتأخّر الفكرُ عن الواقع... وفي لحظةٍ ثالثة قد يتقدّمُ الفكرُ على الواقع... في مدى زمنيٍّ تاريخيٍّ منظورٍ ومُحَدّد.
من هنا تتفاوت المجتمعاتُ الإنسانيّةُ وتتباينُ في درجةُ تطوّرِها وازدهارها الاجتماعي والحضاريِّ، في مجالات الحياة المُختلِفة. الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافيّة، والرّوحيّة والأخلاقيّة.
فتخلّف الفكر عن الواقع هو حالُ المجتمعات المتخلّفة، غير المتطوّرة. وتطابقُ الفكرِ مع الواقعِ، هو حالُ المجتمعات، الّتي تشغلُ موقعاً تاريخيّاً وسطاً بين المجتمعات المُتَخَلِّفَةِ والمجتمعات المُتَقَدّمَة، فتكون غير متخلّفة وغير متقدّمةٍ في واقِعِها المُعاش. أمّا تقَدُّمِ الفكرِ على الواقعِ فهو سِمةُ المجتمعات المتطوّرة المتقدّمة، المُنتجةِ للعلومِ والمعارِفِ والتّكنولوجيا الحديثة.
أما الاحتمالُ الرّابعُ لعلاقة الفكرِ بالواقعِ، - (التطابقِ والتأخُّرِ والتّقَدّمِ ) - فهو حالُ المجتمعات المضطربةِ غير المستقرّة تاريخيّاً.
من هنا تبرزُ أهميّةُ الحاجةِ لامتلاك وعيٍ تاريخيٍّ يتقدّمُ على الواقعِ، بغرضِ تنميتهِ والنّهوضِ بهِ، ودفعِ عجلَة التطوّرِ والتَقَدّمِ الاجتماعيِّ والحضاريِّ، نحو مساراتٍ تاريخيّة أفضَلَ، تُحقّقُ الازدهار والرّفاه لجميعِ أفراد المجتمع، عبرَ علاقةٍ تلازميّةٍ فاعلةٍ ومثمرةٍ، بين النّظريَّةِ والممارسة العمليّةِ، النظريّة الّتي تُشخِّصُ الواقِع وتؤثّرُ في عمليّة تحوّلِهِ التّاريخيِّ، والمُمارَسَة العمليّة المُبصِرَة الواعية بفعلِ ملازمةِ النّظريّة لها ، والّتي بدورها تفحصُ النظريّة وتصوّبُ المفاهيم الّتي تنطوي عليها، فالنظريّةُ من غيرِ الممارَسَةِ العمَليّةِ جوفاء، والممارَسَةُ العمليّة من غير النظريّة عمياء.
الأمر الّذي يستدعي ضرورة امتلاك وعيٍّ نقديٍّ متطوِّر، عبرَ حيازة المعارف والعلوم الإنسانيّة الأكثر تقدّماً في العالم، والشّروع العمليِّ في تأسيسِ وامتلاكِ هندسةٍ اجتماعيّة، تتولّى الإشرافِ والرّعايةِ التربويّةِ والمعرفيّةِ والأخلاقيّةِ للنّاشِئةِ في مجتمعاتنا الرّاهنة، على نحوٍ علميٍّ مُنَظَّم، تُسهمُ وتتكاملُ فيها الجهود المجتمعيّة والمؤسّسيّة كافّةً.