الأحد ٩ حزيران (يونيو) ٢٠٢٤
بقلم ماجد عاطف

أنيسة

سمحت لها بالمبيت معي في البيت لأن الجو كان على وشك أن يصبح ماطرا. دلّلها أهل الحي فصارت أليفة جداً لأي شخص يقترب منها، صغيرا وكبيرا. وبسبب لونها الأسود الذي يشوبه بقع برتقاليات، على تساقط خفيف في وبر الرأس، فلم يستقبلها أحد عنده رغم أن أطفالهم جميعاً كانوا يركضون خلفها ويلعبون بها. فقدت غريزتها للاصطياد، ولو امسكت شيئاً فإنها لا تأكله.

كان يونس -ابني الصغير- يرعاها ويداعبها وربما جلب لها العلاج. وكان يشتري لها الطعام المخصوص، الذي استفزّني. طعام ودواء وبيطري وقفص وألعاب وصابون استحمام، كلها تكاليف من دون داع. لديها مناعة وغرائز الاصطياد والتنظيف. وإذا كان لا بد من اقتناء قطة، فلتعتمد على نفسها، وبعد ذلك لا بأس من اطعامها من طعام البيت الزائد.

مرّة وجدتها تأكل رقائق البطاطا المصنّعة فأطارت صوابي، ثم فهمت أن الدهن أو الزيت هو ما يجذبها.

كان يترك لها شبك النافذة مواربا لتدخل وتخرج متى شاءت بدل أن يدخل كومة من الرمل في صندوق، لتقضي فيه حاجتها. القط حريص على ألا يترك رائحته أو مخلفاته القابلة للتتبع ويقوم بدفنها بعد حفر حفرة.

كنت أتآنس بيونس، وكان هو يتآنس بالقطة. حين سافر بدأت أهتم بها وأسميتها أنيسة.
سمحت لأنيسة بالمبيت، وصرت أترك شبك النافذة مواربا لتخرج متى أرادت. لكن لم انتبه البتّة أنها كانت حبلى. في الليلة الثانية لسماحي لها بالمبيت (على الكنبة)، ربما قبيل الفجر، سمعت مواءً قادماً من الخزانة. لم التفت واكملت نومي.

صباحا كانت المفاجأة: لقد وجدت اربعة قطط صغيرة بألوان مختلفة دلّتني، فيما بعد، على الأب الذي فعل فعلته واختفى!
برتقالي اشقر، أسود، ابيض باهت، وأشقر صاف. مع أنني كاره للرعاية وجدت نفسي اطبطب على ظهر الأم المتعبة، أنيسة، التي تحتوي صغارها بقوس جسمها لتدفئهم وأقول لها: يعطيك العافية. لا نملك إلا التعاطف مع الأمهات، خاصة مع قطة يخبرك مواؤها -كما وجهها الانسيابي المحدّق فيك- أنها تحتاج عطفك.

كانت كلها مغمضة العينين، لكن البرتقالي هو الذي ظل يموء.

أحضرت جاروراً وبطّنته بقطعة صوف، ثم نقلت الصغار اليه. رفضت الأم وحاولت إعادتهم، فأخذت صغيرا من فمها وأعدته مع اخوته. ولأنها مستألفة، فقد فهمت تشديدي اللفظي عليها واستكانت حولهم داخل الجارور.

كان يستحيل اخراجها في الجو الماطر الذي شمت فيه المطر القادم والبرودة فولدت في الخزانة.

لم يكن لدي ما يصلح لاطعامها سوى اللبن الذي وضعته لها. بعد ساعات بدأت تلعق. لمدة، ليومين أو ثلاثة، ولا أظنها خرجت حتى لقضاء حاجتها، مكثت مع الصغار لم تفارقهم في أي وقت. وكان اللبن حاضراً إلى جوارها والماء. هي ذاتها قبل سنتين التي ولدت عند أهلي وأكلت صغيرا لها وجدت نصف جسمه.

كانوا من فوق الصوف يزحفون نحوها للدفء والرضاعة مع أنني لم أشاهد الأخيرة بوضوح. ظل البرتقالي يموء أكثر من غيره ففهمت أنه مريض موجوع أو لديه فرط نشاط. وكانت أما مخلصة تلعقهم بأمان واطمئنان. لو كان يونس موجودا لقام بتنظيف الصغار وامهم بالماء الدافيء والشامبو المخصوص، ولكن الطبيعة بالتأكيد أفضل.

لم امسّ الصغار. رعيتهم مع أمهم قدر ما استطيع طوال شهر ونصف، قد اقدم لها البروتين واكتفي أنا بالكربوهيدرات، وكنت اترك الشبك مفتوحا في حالة كنت غائبا. حاولت اعادتهم إلى الخزانة مرة أخرى، لكني كنت حازما. لمّا تحسّن الجو، وكبرت حركة الصغار، أخرجت الجارور بأكمله إلى خزانة في الخارج.

بعد أيام نقلتهم الأم إلى مكان آخر، ولمحتها تجلب اللحم النيء من الجيران لصغارها.

تجمّع اطفال الحيّ حولها وحاولوا الامساك باحداها، بل طلبوا مني مساعدتهم. تواطأت مع القطط كلّها، خاصة التي ليس لها لون جذّاب، فبعد فترة من اللهو بها سيهملونها، وسيكون عليها أن تعتاش على فضلات المنازل قد فقدت غريزة الاصطياد ولا تستطيع مناعتها مواجهة الأمراض إلا بالأدوية. أخبرتهم أن خدشا من قط مع فيروس أو بكتيريا قد يتسبب بقطع طرف أو الموت. وهو حادث قرأت عنه، لكنه نادر الوقوع. حرصت على رفع صوتي لاخافة أم طفل كانت تستمع.
لا أمس الصغار وتهرب مني قي الساحة ليلا عندما اشعل الضوء، إلا أنها تسمح لي، أحيانا، بالاقتراب منها درجة لمسها باليد لو اردت. لقد ألفتني.

يجب أن يظل كل كائن على طبيعته كالأب المرقط بمختلف الألوان، المنحوس الذي فعل فعلته ويأبى أن يكون منزليا أو راعيا لصغاره، ولا يثق بأحد على الاطلاق!!!

بعض البشر، في منظومة الاستهلاك والضعف والتبعية الكاملة، من انتاج الغذاء وصولا للترفيه، تحولوا إلى قطط عمياء لا يمكنها العيش، طالما والدتها فقدت غرائزها، إلا بالتدخل الخارجي والرعاية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى