هواجس عابرة
تُـرَاودُنِي هواجسُ عابرة أثناء نقاشي مع المدير على امتداد طاولة الاجتماع، لن أتناسى كيفَ نسبَ لنفسهِ إحدى اقتراحاتي؛ لينال رضا الإدارة العليا.
كم شعرتُ بالحنق؟ وكم شعر بالغضبِ حينما ترددت أصداء صوتي على مسامع ِأعضاء الإدارة؟
انتشل نفسي من طاولةِ الاجتماع لتطفوْ على سطح الذاكرة صورُ متفرقة... ابتسامة أمي تَقْرّع أبوابَ قلبي، أقرأ ما تُخفيه ابتسامتها من أماني: متى ستُرزق بطفل يا "ماجد" لكي تُشّعِل شموعُ الفرح أنوارَ دارنا؟
يبدو أنْ أصوات الأطفال وهم يلعبون قبل الغروب بِجوار الدار أيقظ شغفها برؤية طفلي، كأنها تود شَمّ رائحته النديّة، فتكتسب قوةً جبارةً تُقاوم بها الأخاديد التي حفرها الزمن على ملامح وجهها وهي تعْبُر الستين.
لا تزال ابتسامة أمي تُعانق أفكاري في لحظة زفير الموظفين خارج أسوار الشركة، أسرفتُ في التحليق حتى تسللتْ إلى ذهني فكْرةً أخرى عن تفاصيل مقابلة الطبيب، تفحْصتُ بعجالة شريطُ المقابلة وكأنني أقرأ كتاب.
لا أدري كيفَ أنّ ألماً عابراً في أسفل البطن وإحساس مُفاجئ بالاستغراب من تورم دائِم في الجهةِ اليسرى أَلِفَتُ النَظَر إليه، أوقدَ كُتلةَ شّكّ ملتهبة بداخلي فحفزني لالْتِقًاء الطبيب، كانت استشارتهُ سبباً في حَيْرَتي طوال اليومين الماضيين.
تدافعتْ الأسئلة إلى رأسيِ وأنا أتْبَعَ خارطة الطريق: هل يَرِثّ الحفيدُ عُقمَ جدّه؟ قبيح أنْ ينضبَ صُلب الرجل وهو لا يستطيع أنْ يفعلَ شيئاٌ لذلك الوجع المُنْهَمر عبر سنوات العمر...يَبْدو أنْه نهارَ مُتعِب بكلِ تفاصيلهِ؛ لأنني اعتَدتُ الارْتَحالَ بين المسافات بسهولة.
فجأة تصْطَحِبُـني كثافةَ الغبار إلى باب الدار، كالعادة يتسخْ هواءُ "غضفان" بروائح كريهة قادمة من شُعلة نيران احتلت فضاءَ المكان، ما أفتك سُموم "شُعلة الميناء" ! إنّها تتَسَلّقَ جذوعَ الأرواح كي تحرّق الشجرَ والبشرَ، أتساءل وأنا أغرق في لحظةِ خانقة: لماذا تتساقط الحياةُ هُنا كتساقط أوراق الخريف؟
خلف المسجد العتيق يطلّ بيت ضخم أشبه بالقصر، إنه بيتَ "حمد" شيخ المنطقة، يا للأسف أصبحَ خاوياً من صرخات الأطفال، لذا لم يطِـقّ ابنه " خالد " البقاء بعدما حطمتْ بكتيريا العقم أحلامهَ وأحلامَ والده فقرر أنْ يتوارى بعيداً عن همساتِ العيون.
نُعـومة الكرسي الخشبي الكائن وسط الغرفة تُذيب تعبي الشديد، أتلهف لملامسة جوانبهِ لكي أخلع جَسَدي الملتهب مِنْ نارِ المتاعب، رداء الصمت يلف المكانَ، لا أثر لأمي، ولن أقتفِ طيف " مها "، قد قرَرَت ذاكرتي أنْ تتجاهل كل الأشياء بينما اكتست حواسي أثوابَ العُـزلة لدقائق.
تتلاعبْ أصابعي بأزرار الريموت فتستقـر عيناي على مشاهد من فيلم تيتانك، ثَمَةَ صُورُ تتناثر مِنْ المرآة تُحرك مخَاوِف تليدة، أتذكّر أنّها زاحمتْ ذهني في حقول الماضي حينما قبلتُ الزواجَ من امرأة لم أرها قط، ولم أحدّثْها بكلمة، أوهمتُ نفسي بأن الزواج لعبة يانصيب، لذا أودعتُ ثقتي في أحضان أمي، وبذلك اخترتُ الزواجَ التقليدي الذي سخِر منه صديقي "قاسم" .
قاسمُ اسْتنشق عبيرَ الحب باكراً على طريقتهِ، أما أنا لم أقتنص الفرصة لاكتشاف الحب، أردت أن أكون بِكر القلب لذا أمضيتُ أحلى أيامي معتكفاً في معابد الدراسة، اجتزتُ محطاتَ الدراسة: الدبلوم، البكالوريس، الماجستير حتى أصبحتُ مهندسَ كمبيوتر يشار إليهِ بالبنان في "غضفان".
أُسافرْ ببصري جهة عقارب الساعة، أكاد أذوب في خلوتي المباركة لولا صورةُ جميلة معـلقة على جدارِ الغرفة تجمعني بـِ"مها "، كان صوتها صباحاً يحمل بين طياتهِ عبارات النشوة... كلماتها شلال ماء روى أراض قاحلةِ في أعماقي.
لَمْ أفْجَـعها ببؤس صوتي، داعبتُ أحاسيسُها بسحرِ المفردات لئلاَ تفَطِنّ ما يجولُ بنفسي، لكنني على شرفة الانتظار أتلهف شوقاً لأنصت لخبرها الذي اختارت حجبه.
كم تقيأتُ أفكارَ الطبيب وأنا أسْترجِع بدقةِ فحوصات المركز الطبي، وكم صارعْتُ أعذارَ المدير وأنا أسْتذكِر إجابات غير مقنعة على طاولةِ الاجتماع.
"مها" قادرة على شفاء تلك الأوجاع، أين هي؟؟
بين رموشي تعـبر أجوبه كأنها أسئلة، أدلف للاستحمام: أتعجب: ما أبسَط مشاريع الدراسة!... ما أصعب تنفيذها على أرضِ الواقع!... ما أقسى هذا المدير! إنه كذئب يُطارد فريستهَ في مروج الخيال.
تتساقط قطْرَاتُ الماء الساخـن بشـدة على جسدي، أتَفَحّـص أفكَار "قاسم" الـذي عَـلّلَ ندمهَ لأنْهُ تزوج "هـدى"، فقد ترهّلَ الحبُ الأسطوري الذي كانَ يُفاخر بمداهَ الخُرافي، تنْفرِجُ ابتسامة فترسم على شَفتّي جُملة تَعْجبَ: " تعثرْ زواجهُما بعقباتِ الواقع".
اتحَسس أجزاء جسدي، "وسم" أحدِق في شكلهِ، كم أنا مُندهش! أتساءل: لماذا ارْتديت غـِشاوة النسيان كُلّما نظَرت إلى ذلك الجُزء المشوهَ من جسدي؟ لماذا قذفتني أمي إلى دروبِ الشك بعدما عبَثت بجسدي أيام الطفولة؟
لَمْ يتوقف بحرَ الهواجس العابرة، أنسلْ مِنْ الحمامِ، نقراتُ حمامة تُفيقني من شرودي، فيّ سماءِ الغرفة أحاسيسُ متناثرةُ تستعطف مشاعرَ غائبة، أتذكر شجارات مُحتملة قَدْ تحدثُ بين "أمي ومها"...انقشعَ غُبارها في ليلةِ الزفاف.
أُدرك أنّني أعَيشُ ربيعاً رائعاَ مع "مها"، أتأمل أشياء الغرفة، صدى صوت طـفـلي يترددَ بين الجدران، همهمات "خالد" ابن الشيخ تتصاعدّ: "لا طعمَ للحياةِ من دون شقاوة الأطفال"، تغـمُرني موجةَ تأمل أخرى، قلبي يرثي أطفالَ " غضفان" فـ"شُعـلة النيران" نشرت شراذمَ المرض فيّ أرواحهم الغضة.
تُسامِرُ عَينايّ طَيف " مها "، لَعَـلّ وجهها يزورني فيتوقفْ سفـرُ الأفكار، الغرفةُ تموج بصمتِ قيلولة عابرة ثُمَ أصحو فَجأةَ، تتسربَ إلى حواسي رائحةُ الطعام الذي تشاغلتْ عنه بعُـزلةِ باهته.
طلة مُبهرة لـ"مها" ...تَنزَاح همومي، تُبادرني بابتسامةِ ناصعة ثُم تقول: "هلا حبيبي.... الغداء جاهز"...تَتَلمس وجع يسكُنني منذ مدة، صوتها العذبُ يسري في داخلي كالنسيم العليل، تسبُر أغواري القصية، أتلعثم... لكنها تُصر على معرفةِ السبب، أنثرُ مخاوفي بينّ كفّيها...عندئذاً أتأملُ شفتين تكتنزانِ بأشرعةِ الصـمـت...ترْدف قائلة: هون عليك، لا داعِ لهذه الهـواجس.
أرحلُ في عينيها كي افتش عن سرِ عبارات النشوة، تفرش عباءةَ الفرح " ماجد أنا حُبلى بثمرةِ حُبِنا"، هذا ما أكدته طبيبةَ النساء لي، يتقاطرْ قلبي شهداً بعدما ابتلعْ الخبرُ بقية مخاوفي...نستمتع بوجبةِ الغداء تحت ظلالِ المفاجأة ثُم أطرح على "أمي ومها" فكرة الرحيل من "غضفان" حتى لا تتلوث أنفاسُ ابني بفيروساتِ الميناء.
على يمينِ السرير أسخرْ بعبارةِ صامتة من تَهويلات الطبيب...أشمُ رائحة احتراق هواجسي العابرة... لحظات ...وتطفقْ جفوني أولى المحاولات في رحلةِ نوم عميقة.
*غضفان: منطقة قريبة من ميناء صحار الصناعي
*وسم: آثار الكي بالنار