الــمـنــدوس عـزف عـلـى أوتـار الـوجـع
كثافة المطر ورهبة الفاجعة تُبعد الناس عن حافة القبر، أحسست عند ذلك بتجمع سحب السواد بداخلي، شعرت بخيالات الموت تطوف بي وبجسد جدي الملفوف في قماش.
تنسكب الدموع بحرقة فتُبلل جسده الذي يتأهب للرحيل نحو عالم آخر، يقتطع المشهد جزءاً من جسدي التائه وسط زحمة الأشياء، لأشعر بروحي تحتضن بقاياه بشدة.
تقتحم أسوار قلبي إشارته الشهيرة في آخر اللحظات، وكأنه أراد أن يظل ذاك الوجع القصي محفورا في ذاكرتي للأبد...قائلا: «صخر المندوس المندوس».
آنذاك كنت أسبح في بركة من الدموع والعرق، كانت عيناه تصارع آخر الزفرات، تأمرني بوجعه المنسي بعدما اسكتت حراب «السرطان» نبرات صوته ومزقت تضاريس وجهه، أثارت كلماته شرايين قلبي، أردت قمع صوته الخفي بل الصراخ في وجه المبعثر:
«أصمت فقد القمتني ظُلما لا قبل لي به»
إشارات مشتتة أطاحت بأنفاسه الواهنة، لتُوقد مأتماً أبدياً في داخلي، فيما بعد تنصلت دمعة غالية من عيني، أغلقت عليها جفوني لئلا تراه، وكأن قطعة باذخة من روحي احترقت..شممت روائح الموت بعد ذلك تنبعث من صفائح وجهه .. أنصت جيدا لأنين النساء وهن يطرقن أبواب روحي بعدما ثلمت بمصيبة غيابه.
حاولت في ثانية خاطفة دس ذاكرتي في دفاتره القديمة، لأتساءل: من سيحاكي بعده حقد الذات الذي لم تشبعه رواياته عن مرارة ظلم بات يستوطن الأعماق، دون أن استرشد شخص من ظلمه، وهو من سقاني قطرات من دماء زكية، غَرست في داخلي حكاية قديمة منذ عشرين عاما.
****************
ينتصر الليل فجأة، فيسدل ضفافه على المكان، يوقظني من سكرة عميقة بعدما نشر ذاك المندوس فوضى الأفكار في خلايا ذاكرتي، انتبهت أني في زوايا القبر حيث لم يسمع شهقات بكائي عدا رجلين يلتصقان بجانبي، لم استطع في الظلمة المعتمة تحديد ملامحهما.
استفقت من حلم قصير، لأجد روحي تُذبح..تُقتل..تُنتهك فها هم يهيلون عليه التراب، عندئذ اعتراني شوق عجيب إليه، وسرت رجفة في كامل أوصال جسدي...أجبرتني على البحث عن تفاصيل جسده الغائب بين التراب، لكن وميض " المندوس" يلمع في مخيلتي لتحترق معه أصعب الدقائق وأدق الثواني، فتستعجل فراق الوجوه والأجساد.
يقذف بي الوجع نحو سيل من الأفكار، اصطدم بأنفاس مشتتة..نظرات زائغة ..وجوه شاحبة، عند ذلك تخترق جسدي حكايا وأسئلة وأحداث غائرة في صميم الذاكرة: طرزت ثياب السواد، حاكت مرارة اليتم، وصاغت قصص الشقاء.
استوقفتني حروفه الوجلة حينما كنت أداعبه يوما، وأنا اخطو نحو الثانية عشر من العمر: "يا بني صورة الظالم أكبر مما ترسمه حنايا قلبك البريء"، زادت تلك العبارة تعلقي بثرى قبره رغم أن روحي وأرواح الآخرين سافرت بعيداً عن طهر مقامه، إنما ثورة عارمة دفعت بي للخروج من عالم الموتى، لكي أفوز بالسر القابع في المندوس، فتغافلت أنني أودعت قطعة غالية من جسدي هناك بين التراب.
فانوس وجعي يشق الطرق الوعرة، يُقلب صفير الرياح عشرات الصور في داخلي، تتوحد في لون القتامة، فأرى صدى حزني العميق ماثلاً بين الأزقة والشوارع، يتراءى لي وجه جدي فجأة، هو أشبه بوجه الملائكة، تَبزغ فكرة عابرة عند ذلك: لن تُشعل شموع المآسي في بيتنا مثلما كانت تُوقد كل يوم: ألم يحن وقت القصاص؟ ألم اتهيأ لحمل بيارق الثأر؟
تسافر بي الهواجس بسرعة خاطفة إلى البيت، اتوارى بعيداً عن المعزين، صرخات الأطفال وأصوات النساء تضاعف جروحي، تتسمر خطواتي أمام غرفته القابعة في احدى زوايا البيت، أدلف إلى الغرفة فلا أجد غير الصمت المبعثر في ارجائها، تلامس حواسي روائح المرض وما بقي من آثاره على شقوق الجدران، تتكسر نوافذ قلبي أمام اختفاء محراب الصلاة وغياب الأيادي الممدودة إلى السماء التي لم تتعب يوماً من الشكوى.
اقترب من المندوس الذي تحمل ألوانه عبق الماضي، يلمع سيفاً عتيقاً بجانبه ، يكتسح السواد أركان الغرفة، بينما تهبط قناديل السماء وأنوار الحقيقة لتضيء ظلمة المكان.
أحتضن المندوس، أتصفح الأوارق بدقة، أدفن أفكاري عميقاً بين الحروف، تمر اللحظات القاسية، في تلك الغمرة يغتالني الصمت بعدما ينكشف السر وتصدمني المفاجأة.
تحتشد أحاسيس القهر وتتهشم رغبة الانتقام، تنطلق صرخة من أعماق الروح، فترتعش جفوني بالدموع ويقذف صوتي المتعب جملته البائسة: سامحني يا جدي لن أقوى على حمل رايات الظلم بعد اليوم.