نوْم وحلْم
هو والأرق صديقان لا يفترقان ، منذ أن خرجَ يوسفُ من رحمِ أمّه إلى رحمِ الحياةِ وهو لا يعرف النومَ ولا يمشي إلى الفراشِ إلا مكرهاً ، عاشَ زمانَه متفرّداً بمشاعره ، يحدّق والشمس في الضحى في ظلامِ الحياة ، الكآبة تغرسُ مخلبَها في جبهتِه ، تتبعثر الأفكارُ في ذهنه وتصدحُ طيورُ الحزنِ فوق أهدابِه ، يشعرُ بعداوةِ و قسوةِ النوم عليه ، فيكره أن ينامَ أو يلوذَ إلى فراشه .
لم ينمْ يوسف كالمعتاد وكما يفعل غيره ، ففي أشدِّ لحظات نعاسه يرقد في سريرِه ما لا يزيد على الثلاثِ ساعات متململاً وكأنه يدفع ديناً مترتباً عليه في حين جيبه فارغة ، وفي الصباح مع أنه لا يعرف معنى الصباح بل ينظر إليه وكأنه وقتٌ للعمل ، يخرج إلى عملِه وعيناه الذابلتان تنغمسان تحت جفونه ولا يبدو منهما إلا بريقٌ ضئيلٌ ، ويمر الناس عبره فيستشيطون غضباً داعين إياه للانتباه حين يرتطم جسدُه بأجسادهم المارة مخدوعاً ببريق بصره فكأنما يسقط في حفرةٍ مليئةٍ بالماء يغطيها القش وأغصانُ الشجرِ ، كما أن السيارات في شوارع مدينته يضج ضوءُها وهي تحذره للابتعاد عن مساراتها ولكن ذلك لم يكن يغير من خط سيره ، ذهنه شريدٌ بعيد يسافر عبر خلجات الظلام ويتجول كحصانٍ بين أعالي الطموح وقيعان الواقع .
كان يوسف يشعر دائماً بسخرية القدر إذا ما نظر إلى حركات البشر في تغريدهم وتبريحهم فتراه يضحكُ في لحظات الجدّ ويجد في لحظات المزاح ، وعندما يركب التاكسي متوجهاً إلى بيته أو بالأحرى مكان سكناه ذلك لأن البيتَ الذي يقيم فيه استأجره مقابل مبلغٍ من المال فينسى تذكيرَ السائق بالتوقفِ لدى الاقتراب من منزِله ، بل يتيقظ بعد مسافات ترهقه عندما يقطعها .
تفوته ساعاتٌ عديدة وهو جوعان فقط يأكل عندما تجبره أحشاؤُه ويصدح طلابها وتتأجج شرايينه جوعاً غير أنه لا يعرف الأذواقَ ، فالمرّ والحلو من الطعام سيان ، ، يحفظ عبراتِه ولا يفضل إظهارها لأحد ، فمقْلتاه تحتضنُ الدموعَ كالبحر بين مدٍّ وجزرٍ وأهابه شواطئها ، ولا طغيانَ لبحرِ دموعه على الأرضِ التي ترصف وجهَه الكئيب.
وفي يومٍ من الأيام أشتد الداء بيوسف وكان داؤه النوم ، فأخذ النوم يمسك بيده أثناء عودتِه من عملِه أي قبيل الغروبِ ،مثل امرأة الأب التي تمسك يدي ابنه الصغير وتضربه بلا هوادةٍ تدعوه للنومِ المبكر غير أنه لا يريد ، ولكن يوسفَ ظلَّ يقاوم ما يرومه السريرُ ولم يرضَ النزولَ عن جموحه وأصرّ على عدم النوم ، تلك المرّة كانت مختلفةً تماماً عن سابقاتها ، ذلك لأن يوسفَ اعتاد الانتصار على النوم وكان يحقق رغبته في البقاء متيقظاً في تفكيره ، فالوقت على أية حال ليس بوقت النوم ، لا سيما وأن صحوته لها وقتٌ معين لا يزيد أو ينقص والنوم مبكراً سيطيل من غفوته ، لكن كان ذلك رغم المقاومة الشديدة التي أبداها للبقاءِ سابحاً في ديجوره ، فتمايل جسدُه وسقط رأسه المثقل بالهمومِ محتضناً الوسادة كالأسير الذي يحتضن ويعانق أمَّه بعد الإفراج .
توسّل يوسف للنوم كي يمنحَه فرصةً لذرف دموع النهار ، تلك الدموع التي يلتقطها من هنا ومن هناك ، وكانت في ذلك يوم أكثر من دمعةٍ تتزاحم في عينيه ، من امرأة ترقد في الشارع تحمل بيديها صبياً عاجزاً ووثائق مرض زوجِها تتسوّل وتتوسّل للبشر كي يدفعوا لها القليل بل القليل جداً من المال ، ودمعةٌ أخرى من طفلٍ دخل إلى المقهى الذي كان يرتاده يوسف لكي يشتري عصيرَ الفواكه ، فخرج مكسورَ الابتسامةِ حينما علم من النادل أن ثمنَ ذلك أضعافُ ما يملك ، وخرج عابساً كالقائد الذي يعود من معركته مهزوماً ، ودمعةٌ من فتاة كانت تبكي أخاها الشهيد باب المشفى القريب من عمله فتسقط على الأرض والناس يمسكون يديها لإعادتها من غيبوبتها فتسقط من جديد كشريط فيديو يعيد نفسَ المقطعِ أطواراً عدة ، ودمعةٌ حينما مرّ برجلين يتشاجران مع شرطيٍّ ويشتمان القانونَ الذي هدد الشرطيُّ باستخدامه ، تلك بعضٌ من دموع يوسف التي كان يجنيها في النهار كي يذرفها في الليل ، والتي أراد للنوم أن يعطيَه لحظةً لذلك ، كما كان يفعل دائماً في خلوته ، ولكن النومَ أنقض عليه.
غرق يوسفُ في نومه المبكّرِ ولم يتقلبَ على جانبيه من شدّة العناءِ الذي كان ماكثاً في ثنايا جسده من أيام بل شهور بل سنين ، تسلل عبر القمر حلمٌ راح يدغدغ مشاعرَه ، فرأى أنه يقف في حديقةٍ جميلة من الأزهار وأشجار الحمضيات تلفّها من كل اتجاه ، مرتبة مصففة متناسقة دون أن تعبث بها أيدي البشر ، فراح يلهو ويلعب كصبيّ في العاشرة من عمره ، كما رأى جموعاً من الفلاحين تنشد أناشيدَ الصباحِ متوجهين إلى مزارعهم ، والمواشي تتبعهم ، ورأى بيتاً جميلاً يسكنه و يبيت فيه بأمان دون خوفٍ أو قلقٍ أو طغيان لأي بشرٍ كان ، كما رأى يوسفُ الحريّةَ في عينيه يعيشها كما هي عذراءُ كاللّوحِ من الزجاج الرقيق ، فالنوم بين أطرافِ الصخور أو في الحديقة الزاهية أو في البيت ذي " السدد " الجملية والعتبات الطينية سيان ،كما رأى الناسَ يحيون بعيش كريمٍ لا يخافون أحد ولا يخيفون أحد .
طال نومُ وحلم يوسف حتى أفاقَ في وقت متأخر وفاته عملُ ذلك يوم ، وعندما أخذت اليقظة تنازعه وتشده إليها كالزوجة التي تريد إرجاع زوجها بعد أن تزوج من غيرها ، صحا من نومه ونظر إلى سقف حجرته وصاح :
مستحيل .. مستحيل… كل ذلك كان حلماً ، كم أتمنى لو مت ولم أصحُ .
أخذ يبكي دموعه التي لم يتسنَّ لها بكاؤها قبيل النوم ، مضيفاً إليها حرقته على الحلمِ ، ومنذ ذلك اليوم أصبح يخلد إلى النوم مبكرا ….