نقد آراء النُقّاد القدامی والمُحدثين حول النواسي
الملخّص:
تعرّفنا من قبل على شخصية أبي نواس التي أثارت جدلاً حادا ًبين النقّاد مِن القدامى والمعاصرین والتی ماتزال تثير حولها الكثير من الجدل. فإنّه يتحتّم علينا أن نعيد قراءة أغلب ما قيل حول هذه الشخصیة . للحصول علی هذا الأمرنحتاج إلى نوع خاص من الحذر في قبول ما قيل عنه وما نسب إلیه . كذلك نحتاج إلى تقويم جديد لنهج حياته وطريقة تفكيره الّتي لا تُفهم من خلال ظاهر أشعاره في الكثير من الأحایین .
المقال الذی بین أیدیکم یتناول آراء النقاد القدامی والجدد فیه ویقوم بنقدها لتبیین شخصییته المتمیزةوللتعرف علی حقیقة أمره وأغراض شعره الخمری.
الکلمات الدلیلیة: النواسی - النقاد - القدامی – المحدثین.
المقدمة:
لدراسة جدیدة علی حیاة أبی نواس و للتعرف علی حقیقة أمره ، إننّا بحاجة إلى نوع خاص من الألفة بحياة تلک الشخصیة المتمیزة وإ لی معرفة نمط تفکیرها وسلوكها واكتشاف العلاقات الشخصية والرّوحیة التي ترتبط بينها وبين البیئة التي نمت هذه الشخصيةفيها.وللحصول علی هذا الأمر يجب علينا أن نتعرفّ على الحوادث السياسية الّتي جرت في تلك الفترة، وعلی سلوک الدولة الإسلاميّة و مواضع الخلفاء العباسیین تجاه الناس و سلوكهم، و مواضع أبى نواس تجاه هؤلاء الخلفاء الذين کانوا يلبسون بردة النبى(ص) دليلاً على أنهم سالكون سبيله وكان يُسمّون بأمير المؤمنين.
ولکنّ الذين كتبوا عن أبي نواس فما كانوا يحافظون على هذه الجوانب من حياته، بل إنّهم اكتفوا
بالرّوايات المتناقضة والقصص المختلقة حوله وحول أمّه ،ومن هنا وصلوا إلى نتائج غير واقعيّة وخرافیة. ونحن الآن بصدد نقد آراء هؤلاء الفحول من القدامى والمعاصرين على حسب ما وصلنا إليه:
آراء النقاد القدامی :
وأمّا الّذي يرتبط بالقدامى فإنّهم اهتمّوا بجمع أخباره التي تدلّ على ذكائه وكثرة علمه وأدبه وثقته من
جانب، وتدل على مجونه وتهتّكه من جانب آخر دونَ أن يحلّلوا شخصيته وشعره، كما ورد في كتاب البيان
والتبيين للجاحظ [1] والكامل في الشعروالأدب للمبّرد [2] والشعر والشعراء لابن قتيبة [3]وطبقات الشعراء لابن المعتز [4]والأغاني لأبي الفرج الإصفهاني [5]، والفهرست لابن النديم [6] ورسالة الغفران لِأبي العلاء المعّرى [7] ، وتاريخ بغداد لِأبي بكر الخطيب البغدادي [8] والتاريخ الكبير المعروف بتهذيب تاريخ
دمشق لأبن عساكر الشافعي [9]، ووفيات الأعيان لأبن خلّكان [10]وفي كتب أخرى كثيرة.
وأمّا أوّل من عنى بجمع أخباره حتى زمانه هو ابن منظور [11]في كتابه باسم «أخبار أبي نواس» بعد
أن رأى قد فقد ترجمة أبي نواس من كتاب «الأغاني». وقد جمع ابن منظور كلمّا قيل عن حياة أبي نواس وعن شخصية، و حول أشعاره ذاكرا ًبعض الحوادث التي ترتبط ببعض أشعاره.
وأمّا المتتبّع في هذه الروايات فيرى عدم صحتّها بوضوح تامّ، وفى الكثير من هذه الحوادث يرى أبا
نواسَ عالما ًبالغيب و الأسرار التي تجري بين الخليفة ونساءه و نديماته في الخلوات، وهنا نحن نذكر بعض
هذه القصص - على سبيل المثال - ليتبيّن كذبُها:
«قيلَ أنّ أمير المؤمنين، هارون الرشيد أرقّ ذات ليلة، فقام يتمشّى في قصره بين المقاصير، فرأى
جارية من جواريه نائمة. فأعجبتْهُ فداسَ على رجلها، فانتبهت، فرأته، فاستحيتْ منه و قالتْ: ياأمين الله ما هذا الخبر؟ فأجابها يقول:
قلتُ ضيف طارق في أرضكُمهل تضيفوه إلى وقت السحرفأجابت: بسرور سيدّيأُخدم الضيفَ بسمعي والبصر
فبات عندها إلى الصباح. فلمّا كان الصباحُ سأل: من بالباب من الشعراء؟ قيلَ له: أبونواس. فأمرَ به فدخَل عليه فقال: هات ما عندك على وزن «يا أمين الله ما هذا الخبر».فأنشد يقول:
طال ليلي وتولاّني السهرفتفكّرتُ فأحسنت الفِكَرفإذا وجه جميل مشرقزانه الرحمنُ يزري بالقَمرَفلمستُ الرجَل منها مُوطئافدَنتْ منّي ومدّت بالبَصَروأشارت لي بقول مفصحيا أمين الله ما هذا الخبرقلتُ ضيف طارق في أرضكمهل تضيفوه إلى وقت السحرفأجابت بسرور سيّديأخدمُ الضيف بسمعي والبصر
فتعجّبَ أميرُ المؤمنين وأمر له بصلةٍ.» [12]و قيلَ: أنّ الرشيددخل يوما وقت الظهر إلى مقصورة جارية تسمّى «الخيزران» على غفلةٍ منها.وجدها تغتسل: فلّما رأته تحلّلت بشعرها حتى لم يَرمن جسدها شيئا، فأعجبه منها ذلك الفعل واستحسنه. ثم عاد إلى مجلسه و قال: من بالباب من الشعراء؟ قيل: بشّار وأبونواس. فأمر بهما،فحضرا وقال: لِيَقُلْ كلُّ منكُما أبياتا توافق ما في نفسي. فأنشأ بشّار يقول:
تحببّتكُم والقلبُ صار إليكُمبنفسي ذاك المنزل المتحبّبإلى أن يقول:وقالوا: تجنّبنا ولا قربَ بينناوكيف وأنتم حاجني أتجنّبُعلى أنّهم أحلى من الشهدِ عندناوأعذبُ من ماء الحياة وأطيبُفقال الخليفة: أحسنت، ولكن ما أصَبتَ ما في نفسي. فُقل أنت يا أبا نواس.فجعَل يقول:نضتْ عنها القميصَ لصبّ ماءٍفورّد خدّها فرط الحياءِوقابلت الهواء وقد تعّرتبمعتدلٍ أرقَّ من الهواءومدّت راحةً كالماء منهاإلى ماء معدٍّ في إناءفلمّا أن قضت و طرا وهمّتعلى عجلٍ لتأخذَ بالرّداءِرأت شخص الرقيب على اقترابفأسبلتْ الظلام على الضياءوغابَ الصبُح منها تحت ليلفظل الماء یجری فوق ماءفسبحان الإله وقد براهاكأحسن ما تكون في النساء
فقال الرشيد: سيفا ًونطعاً يا غلام! قال أبونواس: ولِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: أ معنا كنتَ؟ قال: لا واللّه، ولكن
شىءٌ خطر ببالي. فأمر له بأربعة آلاف درهم.» . [13] ولاحاجة إلی ردّ هذا المدّعى إلاّ أن أذكر بأنَّ أبانواس ما كان شاعر البلاط إلاّ في خلافة الأمين ،والثاني
أن بشّارا ً قُتِلَ فى زمان المهدي وما أدركَ عصر الهارون . أمثال هذه الروايات كثيرة، جداً وأكثرها كما يرىالقارئ مُقامة مؤلفة لا صحّة لها. ولكنها تدلُّ على تمكّن الشاعر في سياق الخبر التاريخي أو سياق الاختراع والتأليف.
نقتصر القول في آراء القدامى حول أبي نواس، معتقدين بأنّها لا تدلُّ على شىء مهمّ حول حياته وأشعاره. ولكنّ الشيء المهمّ هو عندما نبحث عن أحواله في هذه الكتب القديمة، يتبيّن لنا بأنّ أخبار السوء
في كتب الأوّلين أقلّ من أخبار السوء فى كتب المعاصرين. والأخبار الداّلة على كثرة علمه وأدبه وثقته وإيمانه أكثروأكثر من أخبار السوء. ومهما ننتقل إلى الكتب الحديثة نواجه أخبارا ًغير كريمة تتزايد حوله.
فلِلباحث أن يراجع الكتب القديمة والقريبة من حياته ليُصان عن الخطأ.
وأمّا أوّل من يفسّر بعض أشعاره فهو ابن جنّي [14] إنه يُفسّر أرجوزة أبي نواس في تقريظ الفضل بن الرّبيع- وزير الرشيد والأمين - يشرح هذه القصيدة شرحا ًوافيا،ً ويعتقد بأن «أبانواس في هذا النوع من شعرهالّذي توفَّرَ فيه على الجِدّ الصِرف، كان يتعمّد هذا المنحى الأعرابي الخالص تعمّدا ليلفتَ علماءُ اللغة إليه فيحفلوا به، أو يظهر لجماهير الأدباء اقتدارهُ البالغ على مجاراة شعراء االعرب الأوّلين ،وأنّه لا ينزل عن طبقتهم إن لم يكن فوقهم طبقةً، إلى جانب تجديده فى اللغة والأسلوب والأغراض والمعاني. [15] ويقول ابن جنّي عنه: «فكان ممّن سبق له - مع ظرفه وحسن شعره ما يؤثّر عنه من سرعة الذكاء واختراع المعاني -معرفة بعلم العرب. وخدمَ العلماءَ وأخَذَ عنهم اللغة وقرأ عليهم دواوين العرب» [16]
القارئ يشعربأنّ الناقد قد ألزم نفسه أن يصل إلى نتائج معينّة بحيث يتعجّب الباحث وقد يتساءل من
أين أتى الكاتب بهذه المعلومات ويزداد إعجابه حينما يدرك أنّ هذه المعلومات والنتائج كلّها مأخوذة من
عدة أبيات قالها «أبان اللاحقي» الذي قد سبق ذكره وعداوته لِأبي نواس حيث يقول :
أبونواس بن هانىءوأمّه جُلّبانِوالناس أفطن شيءإلى حروف المعانيإن زدتُ بيتا على ذيما عشتُ فاقطع لساني[17]أو يقول:هاني الجون أبوهزاده للهُ هواناسائل العبّاس واسمععنه من أمّكَ شانا [18]
ولايخفى على القارىء الحقد المخبوء تحت هذه الأبيات. فقد بنى الغزاّلى حديثَه على هذه الأبيات وما
شابهها من الأخبار دون ثقةٍ لها. وفي الحقيقة عرّج عن طريق الصواب للحصول على نتائج مفروضة والمعقّدة على نفسه. فلهذا يتابع القول ويقول:
«إنّ طفلاً في مثل سنّ أبي نواس تسلمه ظروفه وحيدا إلى التجربة، وتتركه أعزل للحوادث، لا يجد
في نفسه القدرة الكافية لِأن يجتنب الحوادث، ويعلو على التجربة، ويقاوم إغراءَ الحياة بما تقدمّه من
مشهيات مثيرة ،وأن يفطن إلى النتائج المجهولة، و هو يخطو على عتبة الدنيا... و مّما يزيد في خطورة الأمر
في هذه السنّ أنّ وسيلة الحياة إلى الإغراء هي ماركب في نفس الطفل مِن ميلٍ إلى اللعب ومن غريزة
جنسية، ومن حبّ لِلاستطلاع. فلا يمكن والحالة هذه مقاومتها، والتغلّب عليها... بل إنّه ليبحث عنها إن لم
يجدها وإنّه يسعى إليها إذا لم تسع إليه.» [19]
يتحدّث الغزالي عن أبي نواس بمثلما يتحدّث عن طفل يعيش فى هذا العصر فاقدا أباه وأمَّه، بلاهادٍ
يهديه ولاحافظٍ يحافط عليه وهو في معرض المفاسد الشائعة في هذا العصر وإنّه لايجد في نفسه قدرة
ليتجنّب الحوادث وعنده نقود كثيرة وسبل الاقتحام في المآثم يسيرة.
و لكنّنا - فيما سبق - تعرفنا على شخصيته وعَلمنا بأنّه كان ذا ذكاوة ونبوغ من أوان طفولته وكان
عنده القدرة الكافية على التعلّم بحيث قرأ القرآن وحذّق في القراءة وأصبح أقرأ أهل البصرة، ولمّا شبّ
رغب في العلم والأدب. إنه كان يحسُّ بالمسؤولية وأثبت هذه المسؤولية بقيامه بالعمل عند عطّار في النهار وبقيامه بالحضور في حلقات الدرس عند المساء. فليسَ صحيحا قولُ البعض حيث يقول: «ولعلَّ الفتى ارتاحَ
في دخيلة نفسه إلى ما صار إليه من مطلق الحرية» [20]
بل إنه كان يحسّ بأشد نوع من المسؤولية عند العمل والدرس. فنجح في هذين الصعيدين. والغزّالي يعترف بهذا لاهتمام والجدّ إذ يقول: « كان الحسن من الذكاء،و النّهم الشديد للعلم بحيث لا تفوته ليلة لم يركب ظلامها إلى المسجد، ولاحلقة لم يجلس إليها، ولاعالم أوراوية، أو محدث، أو فقيه إلّا استمع إليه، ونقلَ عنه.» [21]
و لكنّه مع الاعتراف بهذه الرغبة في العلم والأدب، يقصُّ لنا قصّة مختلقة من عنده ويقول: «وجَد
الحسنُ نفسه حّراً طليقا، لا تربطه با لبيت تلك الصلة العميقة التّي يحسُّ بها كلّ طفل فكان لايأوي إلى البيت
إلاّ لماما، ولايأتي إليه إلاّ لينام، فيستريحَ من تعب النهار في دكّان العطّار، ومذاكرة الليل في المسجد
الجامع، وكان الفتى الصغير أحسَّ بأنّه مخلوق لغير العمل الّذي أرادته له أمّه ليجعَلَ منه وسيلةً للعيش، وسبباً
للكسب.» [22]
لايخفى على الباحث - عند التوغّل في الموضوع - بأن كلّها تحليل نفساني لايرتبط بشخصيّة أبي
نواس. ولكنّ الناقد فرض على نفسه أن يصل إلى نتائج مقدرّة التى أدركها مِن خلال ظاهر خمريات أبي
نواس. وفي الحقيقة كتب الغزالي سيرة أبي نواس الذاتیة استدلالاً بما يفهم من شعره، وهو المجون والفسق
والفجور، فلابدّ للنّاقد أن يجد طريقا يدلّ على استعداده من أوان الطفولة لِلانحراف الشديد ويدلّ على يأسه
من تلك العيشة وبحثه عن اللّذة. ولِهذا، لإتمام القصة يربطه بجماعة سوء تسوقه إلى المآثم. فيتابع القول
ويقول: «و ضلَّ على هذا النحو ردحا من الزمن، كان خلاله يختلط بالأحداث، والمراهقين من ناشئة الأدب والمتعلّمين، و قد أعجبهم ظُرفه، وأسرهم جماله، وراعهم ما عليه من ذكاء وسرعة خاطر، وحببّه إليهم ما كان
فيه من ميل إلى الدّعابة، واقتدار على الفكاهة، وفطنة إلى بواعث الضحك، وجنوح إلى معابثة للشيّوخ و
المتزمتّين وذوى الوقار. وقد أخذ النّواسي في هذه الفترة يلتمس أسباب العطف ، وقد فقده في البيت. ويرتاد
مواقع الصداقة بروحٍ جائعة وقلب ظامىء وبدأ يتعاطى الخَمر مع أترابه.» [23]
ثم يشير إلى التقائه بوالبة بن الحباب الأسدي - الشاعر الماجن - وبعد ذلك يشير إلى إخفاقه فى حبّ
حبيبته «جنان» و يأسه من الظفر بها حتّى يصل إلى نتيجة مقدّرة فيقول: « على الرغم مِن أنّ أبانواس قد
انساق في المجون بدوافع كثيرة. فإنّ الدافع اللّاشعوري الّذي أنشاءهُ في نفسه، إخفاقه في الحّب وفي
الحصول على «جنان» كان أقواها جميعا وأشدها توشّجا بنفسه. فلم يكن هذا الصخب المستّمر إلاّ محاولة
لِإسكات هذا الصراخ العاطفي الحبيس في أعماقه، ولَم يدمن الخمَر هذا الإدمان إلاّ لأنّه كان يريدُ أن ينسَى وأن يقتل همومه التي تعتلج في صدره.» [24] إنه لإثبات رأيه هذا يستدلّ بظاهر بعض خمرياته الّتي تشير إلى لجوئه بالخمر. والواضح هو أنّه لهذه الأبيات معان أخرى. و إن نتخّذ هذا الأسلوب لتفسير أشعار الشعراء لا تُصانُ قطعة شعرٍ من التحريف وسوءالفهم.
يعتقد الغزّالى بأن لهذا الحب - حبّ جنان - دور هام في حياة أبي نواس، و في توجيه شعره حيث
يقول: «إذن فقد أجهزت هذه التجربة على كلّ صلة تربط أبانواس بالمرأة، فلم يعد يحسّ بهذا العطف الغريزي
الذي يكون بين الرّجل والمرأة. ولِما كان هذا العطف ضروريا لِلإنسان، ضرورة الماء، و الهواء، و الطّعام،
فقد تلمسهُ أبونواس ،ولكن في جنسه.» [25]
يعتقد الكاتب بأن إخفاق أبي نواس في حب جنان يساوى إخفاقه في حبّ المرأة .وسبّب ذلك
تفضيله الذكر على الأنثى. قد أوجد هذه العقدة النفسية التى تصرّفت مشاعره وتحدّدت علاقاته بالناس وقد جعلت له في المرأة والحياة فلسفة خاصّة و يستنتج: «من هنا يتّضح لقارئ غزله، سبب تفضيله الغلمان
على النّساء، ويتّضح له أيضا لماذا كان شعره فيهم اكثر من شعره فيهنّ ولماذا كان يخشى المرأة ،ويتجنّبها،
ويذمُّها ما استطاع إلى الذّمّ سبيلاً.» [26]
يقوله الغزالي في حالة يعتقد أكثر الباحثين أنَّ غزله في المؤنث ولاسيّما في «جنان» من أحرّ غزلياته
كما يعتقد عباس محمود العقّاد حيث يقول: «إنما جزم بعض النقّاد برحجان غزله في المذكّر على غزله في
المؤنث. لأنّهم ساقوا أنفسهم اضطرارا ًإلى هذا الترجيح،وفرضوا فرضَهم الأوَّل بغير فهمٍ لحقيقته. ثم ألزموا
أنفسهم نتائجه عن إعتساف لادليل عليه» [27] ثم ينتقل الغزالى إلى خمريات أبي نواس الّتي جعلته فريدا ًفي شعراء عصره والعصور الّتي جاءت بعده، ويقول: «أنها أقوى ما كتبه شاعر في الخمر» [28] ولكنّه يعتقد: « الخمر الّتي يشربها أبونواس، خمرحسّيٌ ما في ذلك ريب» [29]
إنه لايقف عند هذا الحدّ، لأنّ الاكتفاء بهذا القول لا يفسّر أكثر خمرياته، فيجتازبالحدود المعروفة ويقول:«ولكنّه من فرط شغفه بها وتقديسه لها قد انتقل بها من الحسيّة إلى المعنوية، فجعلها فكرة شائعة تحسّ بها الروح.» [30] ومن وراء كّل ذلك يصل إلى النتيجة المقدّرة المفروضة التى قد
وصل إليها من قبل و هى حصيلة فهمه عن خمريات أبي نواس. فيقول: « إذا كان أبونواس قد وصل في حبّه
للخمر إلى هذا الحدّ لا نسميّه عشقا ًفحسب، بل نسمّيه عبادة و تقديساً، فالّذي نعتقده أنّ وراء هذا الشعر روحاً قلقة معذّبة تبحث عن سعادتها في فرح الحياة، وتبتعد جهد طاقاتها عن الألم، وتستقبل الدنيا بالضحك والسّرور، بعد أن استقبلتها بالتجهّم والعبوس. وإنّ هذا الاستغراق في البحث عن الفرح و أسبابه، ليجعلنا
نلمس مقدار ما كان يحسُّ به من شقاء باطن و يأس عميق، و حزن دفين.» [31]
هذا هو أبونواس وخمرياته من منظر أحمد عبدالمجيد الغزّالى: إنه عالج حياته استدلالاً بظاهر أشعاره.
علی حسب رأیه شخصية أبي نواس حافلة بالعقد النفسيّة بسبب إخفاقه فى حبّ «جنان» وبالتالی فى حبّ االنساء.فالخمر وسيلة لتبديد الأحزان وحسب. إنه أراد أن يحلّل شخصيته و شعره بالتحليل النفساني، و لكنّه أخفق في تحليله هذاكلَّ الاخفاق.
ولقد كتب الكثيرون - دون الغزالي - عن التجربة الخمرية عند أبي نواس وعالجوها وطرحوا آراء
شتّى لإيضاح شخصيته وتفسير نفسيته من خلال الخمرة، منهم الدكتور محمّد النويهي. إنه يرى أنّ الخمرةعند أبي نواس كانت تعويضا ًعن حرمانه من عاطفة الأمومة إذ يقول: «ما نظنُّ أبانواس في ظروفه الخاصّة
قد استطاع أن يحلّ هذه العقدة، بل نعتقد أنّه بقي طوال حياته يحترق بهذه النار الآكلة، والسبب أنّ أمّه خانته
وهجرته، وهى ذكرى كلّما استثيرت في عقله الباطن، هاجت غيرته وأسعرت نارها. وهنا قدّمت له الخمرة،
هذا الإرضاء الّذي نعنيه، فهي أنثى ولكنّها أمّ أيضا، وهو يستطيع أن يواقعها، فيرضى بذلك نزوعه
الفاسق.» [32]
والمشهود من كلام النويهي أنّه قداعتمد على الأخبار الحافلة بالغموض والتناقض حول أمّه. وإن
تكن هذه الأخبار صحيحةً لا تدلّ أيضا على إثارة العقد النفسية بتلك الصورة الصاخبة في شخصية
أبي نواس، كما شاهدناها لم تؤثر في تعلّمه وبراعته في العلم والأدب.
ولايقف النويهي عند هذا الحدّ، بل يحلّل شخصيته وأبعاد تعلقّه بالخمر كاشفا ًشيئا ًجديدا ًيقول: «حين
نزداد تأمّلاً في عاطفة أبي نواس نحو الخمرة نستكشف ظاهرة غريبة لم أجد أحدا ًمن نقّادنا المحدثين من
اهتمّ بدراستها وأدرك مغزاها، وهى شعوره الجنسي نحو الخمر. و الذّي صرفهم عن أن يدركوا أهميّة ما
يقوله في هذا الموضوع أنّهم أخذوا كلامه على أنّه مجازُمن القول. مجرّد تشبيهات أو استعارات ووسيلة
صناعية من وسائل الظُرف...و لكنّهم جميعا ًلم ينتبهوا إلى أنّ أبانواس إنّما يصف حقيقة واقعة نجدها في
تكوينه الجنسي العجيب. فأبونواس قد أحسّ نحو الخمر بإحساس جنسي. نعني أن الخمرة هاجت فيه شهوة
المواقعة، لا مواقعة النساء أوالغلمان، بل مواقعة الخمرة وأنّ شربَها أرضاه إرضاءً جنسياً.» [33]
والواضح أنّ النويهي قد اعتمد في نظرته إلى شخصية أبي نواس، على علم النفس التحليلي
مستندا ًعلى نقطة هامّة فيه و هى الإرضاءات الثانوية و علاقتها بما يسميّه علماء النفس «الاستبدال
الجنسي».
ولكننّا نعلم بأن هذا الاستبدال الجنسي يحدث لمن لا يوجد عنده الاستطاعة الجنسية وهو محروم عن
مواقعة النساء. والحال ما كان أبونواس يتجنّب النساءَ، بل كان له حياة أسرية طيبة، و إن أنكر البعض أن يكون
له هذه الحياة، ولكننا أثبتناها عند البحث عن حياته الأسرية فی مقالنا السابق.
فلا محلَّ لِمثل هذه العبارات الّتي وردت فى كتاب النويهي: «فالخمرة متّصلة أوثق الاتّصال بتكوينه
العصبي وبنائه النّفساني، وهي مرتبطة أعمق ارتباط بعقده النفسية التي تكوّنت فيه منذ طفولته. وقد وجدَ في حلّ هذه العقد و تفريج أزماته العاطفية التي نشأت عنها، وجدَ فيها التعويض عن الحب الجنسي الطبيعي
الّذي يحقّقهُ الرجال العاديو التكوين مع النساء. ووجدَ فيها العزاء والسَلوى الّذى حرّمه من الحنان الأموي.» [34]
وذلك حينما نحن لا نشكُّ في صحة أبي نواس النفسية والعقليّة. ولم تصل إلينا حتى الآن من
روايات تدلّ على عدم صحّته النفسية. بل كثرة علمه وأدبه وذكائه وغزارته وسيادته في الشعر يدّل على
صحّته الجسمية والنفسية . وفضلاً عن ذلك نتساءل كيف يمكن أن تكون الخمرة بديلاً من الأم والزوجة؟ أنحن نتكلّم عن موجود خیالی أم نتحدث عن إنسان شاعر و شاعرٍ شهير؟
خلاصة القول أنّ النويهي يفترض فيه وضعا ًشاذّا يحيط بشخصية أبي نواس، وإنّه يعتمد في تحليله
على بعض الروايات المشكوكة و منها التي طعنت بأمّه ،وكانت ،حسب رأيه ،سببا ًمباشراً فى خلق عقده
النفسيّة التّي أحاطت به.
وليس لدينا شكُ في أنّ حملة التشهير بأمّ أبي نواس هى حلقة من حلقات هذه الحملة ضدّه. والسبّب
أنّ أبانواس كان يعتنق بأفكارٍ و آراءٍ تميل إلى الحرّية و إنّه كان شاعرالناس ولاشاعر البلاط. و قد أشرنا إلى
هذه الحملات و أسبابها من قبل.
هذا هو أبونواس كما يراه الدكتور محمّد النويهي. ولكنّ الأستاذ عبّاس محمود العقّاد قد عرف ضعف
هذه التحليلات بسعة معلوماته و كثرة غوره في هذه القضيّة قائلاً: «أيسر ما يقال في كلمة واحدة أنّه أباحّي.
ولكنّ الأباحي قد يخفى رذائله وموبقاته و قد يداري الناس ويتّسم بينهم بسمة الصلاح والتقوى، ولعّل
الأكثرييّن من الإباحيّين في عصر أبي نواس خاصّة، كانوا على هذه السنّة، لأنّه كان، باتّفاق واصفيه، عصر
شكوك و اختلاط و نفاق.» [35]
إنّه يطرح هذه المسألة ثم يرفضها قائلاً: «وأيسر ما يقال بعد ذلك أنّه أباحّي متهتكّ يظهر أمره و لا يتكلّف لإخفائه... و هذا يكفي للصّدق في وصفه على حقيقته ،ولكنّه لا يُغني شيئا ًإذا كان المقام مقام دراسة نفسية». [36]
فلابد له أن يبحث عن أسباب أخرى تفسّر آفات أبي نواس كلّها. الآفات التي أحاطت أبانواس - على
رأى العقّاد - بصورة شاذّة. فسعةُ معلوماته وكثرة ثقافته تقعه في خطاءٍ أعظم من خطاء الغزّالي و النويهي،
فيقول: «إنّما تفسّر آفات أبي نواس جميعا ً ظاهرة نفسية أخرى هى «النرجسيّة» - و فيها تفسيرٌ لآفته
الكبرى و تفسير لآفته الصُغرى التّي تتفرّع على جوانبها، هذه النرجسيّة شدوذٌ دقيقٌ إلى ضروب شتّى من
الشّذوذ في غرائز الجنس وبواعث الأخلاق. ويلتبس الأمر من أجل هذا بين النرجسية وتلك الضروب
المختلفة من الشذوذات الجنسية.» [37]
و العجيب أنّ الأستاذ عباس محمود العقّاد قد اعتمد أيضا في تحليله لِشخصية أبى نواس، علی الروايات الضعيفة التي تدلّ على نسبه ونشأته، ولاسيّما على الروايات الضعيفة التي تطعن بأخلاق أمّه وتنسبُ إليها الانحراف الخُلقي. ونحن لا نعتقد بصحّة هذا الأمر، لأن الخبر الوحيد الذي اعتمد العقّاد عليه في إطلاق الأحكام ضد أم
أبي نواس، هو تلك الأبيات المذكورة لِأبان بن عبدالحميد اللاحقي - شاعر البرامكة - ونحن بيّنا العداوة
بينه و بين أبي نواس وأسباب هذه العداوة. وليس الطعن بأخلاق امرأة قد فقدت زوجها أمرا ًعجيبا،ً كما هى الحال و قد يذيع الأعداء أخبارا ًغيركريمة حولها وحول أبنائها، إما بسب العداوة لها، أوبسبب العداوة لأولادها.
لنستمع إلى العقّاد كيف يفرض على نفسه أن يحكم فيما هو يسمّيه بعقدة النَسَب، بسبب ما قيل عن أمّه
ويقول: «إنّ هذه العقدة كانت من أقوى بواعث أبي نواس على معاقرة الخمر وألفة مجالسها واختيار
المجالس التي لا تسمع فيها المفاخرة بالأنساب... ولكنّها تُعابُ على ألسنة الُظرفاء والأحباب.» [38]
وفي الحال نحن نعلم بأن أصل النَسَب یکون من جانب الأب و لا من جانب الأم ولاسيّما عند العرب. و كان
أبونواس يمنيا ًعريق النسب و قد أشار إليه وافتخر به عدة مرات سبق ذكره آنفاً.
وأمّا النرجسية التي يعتقد العقّاد أنها تفسِّر آفات أبي نواس كلّها، فتنقسم إلى قسمين على حسب رأيه:
الأوّل هو «الاشتهاء الذّاتي» والثاني «التّوثين الذاتي». فالاشتهاءالذاتي يغلب على الحالات الجسدية، والمُصاب به يشتهي بدنه كأنّه بدن إنسان غريب، ولكنّه فيه شهوة يبالغ فيها المرض. والتوثين الذاتي يغلب على الحالات العاطفيةوالفكرية. فيتّخذ المُصاب به من نفسه وثنا ًيعزّه ويعبده.
إن العقّاد يعتقد بأنّ هاتين الحالتين لاتنطبقان على أبي نواس بصورة واحدة ويقول: «فالشّذوذ الّذي
يميل بصاحبه إلى عشق أبناء جنسه والعزوف عن الجنس الآخر، لاينطبق على أبي نواس، لأنّه يُغازل
الجواري كما يغازِل الغِلمان، وكلامه كثير في استحسان الفتاة لأنّها كالغلام، واستحسان الغُلام لأنّه
كالفتاة» [39]فلابّد للعقاد أن يصنع معجونا ًمن هاتين الصورتين للنّرجسيّة و يقول: « تلازم الاشتهاء الذاتي والتوثين الذاتي معا ًلوازم متفاوتة في درجة الالتصاق بالآفة و توابعها، فمِن أبرزها وأقواها التّلبيس أو التشخيص ومنها لازمة العرض، ولازمة الارتداد.
عندئذ یشرح العقّاد ميزات هذه الحالات و يصل إلى نتيجة مفروضة و يقول: «فتنطبق عليه لازمة العرض
كما تنطبق عليه لازمة التلبيس و التشخيص و لعلّ لازمة العرض أظهر فيه.» [40]
فی حالة إننا نعلم بأنّ لازمة العرض تشمل الإظهار بجميع درجاته، والمصاب به يكشف عورته ويعرض
أعضاءه ويتعرّى مِن ثيابه، أويلبس الثياب التي تشبه العُرى، ولا تستر ماوراءها. والحال لم یصل إلينا
شىء من الأخبار تدلّ على هذه الحالات عند أبي نواس. والعقّاد نفسه يقول: «و لكنّ الأكثر الأعمّ في لازمة
العرض أنها لا تمعِن هذا الإمعان إلاّ في حالة الجنون وما يقاربه.» [41]
و المشهورأنّ أبانواس كان ذاصحة نفسية و عقلية ولم یسمع عنه غير هذا. هذا هو بعض الآراء الّتي طرحها العّقاد حول شخصية أبي نواس وخمرياته. إنّنا في خلال تتّبعنا لما قاله العقّاد، نرى أنّه قد جعل من هذه الشخصيّة بؤرةً للعقد والآفات الجنسية، ونعتقد أنه في تحليله هذا -رغم سعيه إلى الإمساك بشخصية أبى نواس والتغلغل في أعماقها - لم يستطع حتّى يلمس أطراف هذه الشخصية. والسّببُ هو أنّه فرض على نفسه أن لا يوجد في خمريات أبي نواس إلاّ الخمر الحسّي والمجون وعرض الحالات الجنسية بسبب خيانة الأم وضعف النسب و نشوء العقد النفسية. وهذا الفرض هو السبب الرئيسي لوقوع الغزّالى والنويهي والعقّاد في الخطاء وسوء فهمهم عن أبي نواس وخمرياته.
في رأينا ظاهرة العرض الّذي يتكلّم عنه العقاد، يمكن أن يكون صحيحاً، ولكن لا بمعنى عرض
الحالات الجنسية، بل بمعنی عرض الحالات الاجتماعية والسياسية التي تموج في جوفه وتبحث عن طريق
للخروج ،وهى المقابلة والمناضلة لِما كان يجرى آنذاك. وكان السكر والتماجن والتجانن آلات وحيدة لِلإظهار
والعرض وإفشاء الأسرار ودعوة الناس إلى التنمية والرقّي في ظلّ تلک الحكومة الإسلامية و في ظلّ خليفة
يسمّى خليفة الله على الأرض و أمير المؤمنين.
هل یمکن أن نتصور فی حكومات کمثلها دوراً للناس والشعراء والأدباء والعلماء؟ وهل يمكن القیام بنقد أعمال خلیفة یسمی أميرالمؤمنين و نقد سياساته؟ و هل يمكن التكلّم عن حقوق الناس؟ و هل يمكن القول بأنّ الخلیفة لیس عادلاً؟ و هل يمكن القول أنّه أخفق في سياساته؟ و ألف سؤال آخر من هذا النوع. و كان أبونواس عالماً بعاقبة الوقوف فی وجههم، إذ إنّه كان عالما ً بما فعل السفّاح بعبد الحميد الكاتب و بما فَعَلَ المنصور بأبي مسلم وابنه و بمحمّدالنفس الزكية و بأخيه إبراهيم و بابن مقفع و بآلاف من المناضلين و المعارضين الذين كان لهم رأى آخر أو فکرة اخری أوخطر لا بالفعل بل بالقوة.إنه كانَ عالما ًبما فعل المهدي بصالح بن عبدالقدوس و بشّار بن بُرد و بالكثيرين من الناس. و كان أبونواس شاهدا ًحيا ًعلى خلافة هارون الرّشيد الذي كان ذا شخصية معقّدة و خطيرة جدّا.
فكان أبونواس عالما ًوعارفا بكّل هذه القضايا وما فيها من التقلّبات. ولا أكاد أشكّ إنه كان ذكيا ًإلى حّدٍ
ما أن يتّخذ أسلوبا ًمنفرداً و وسيلةً جدیدة لبيان آرائه وأفكاره في زمن أولئك الخفاء الذين ألجموا أفواه الناس و أنزلوا العقاب و العذاب على الشعراء والأدباء بتهمة الزندقة والخروج علی الدين والشريعة.
الحكومات الدينية التى تتمسّك بالدّين علی حسب الظاهر وتتبني هتا فاتها عليه هي من أشدّ الحكومات
ظلما ًوجورا ً،إنها تجعل الدين وسيلةً لسرقة أموال الناس و القضاء عليهم ،عندئذ لا تعتبرالمخالفة
للحكومة أمرا ًعاديا ًبلل تحسب محاربة الِلّه و رسوله وبالطبع جريمتها السجن و الموت.
فكان أبونواس ذكيا ًإلى حدّ ما أن يتخّذ - بسبب حفظه القرآن الكريم و غوره فيه، وتأثرّه بلفظه و معناه- من الخمرة، هذه الفاكهة المحرمة، رمزا ً لبيان ما يتمنّاه في قوالبه الشعرية.
فهذا أمر مستحسن عند المناضلین و عند الّذين يحسُّون بالمسؤولية أمام اللّه و الناس و يتمنّون إيصالهم
إلى مستوى نفوسهم كما يرى الدكتور على شلق حيث يقول: «فهو يثور لا ليمكن لحزب، أو يدعو لقومية، أو
يستهدف غرضاً من أغراض المنفعة المباشرة، بل كان يثور بدافع إنساني شامل، ليرفع الناسَ إلى مستوى
نفوسهم، كما يجب أن تكون لتتناغم مع العصر الذى يعيش فيه أولئك الناس» [42]
وأمّا هذا هو حنّا الفاخوري ، إنه يتابع قول العقّاد والغزّالي والنويهي ويفرط القول في أبي نواس ويقول:«و لم يحبّ أبونواس الخمرَ كما أحبّها الأعشى والأخطل، أى لم يعتبرها وسيلة إلى الفرح و النّشوة فحسب، بل زاد على ذلك أنّه أحياها ورأى فيها شخصا ًحيّاً، لا على سبيل المجاز، بل على سبيل الحقيقة، فإنّه رأى فيها
حياةً عند ما رآها تُغلي وتفور وتضطرم، وتتألّق ائتلاقاً وتسري في الجسم سرياناً وتبعث فيه الحرارة والنّشاط، كما تصبغ العينين والخدّين بحمرة الدم، فهى ذات روح يحاول أبونواس أن يستلّها من الدّن ليجعل
في جسمه روحين، و هي كائن أشبه بكائنات عالم الأفلاك، إذ هي مادّة روحانية.» [43]
إنه لا يقف عند هذا الحّد ويعتقد بأنّ أبانواس كان يرى في الخمرة حباً خاصا ً كحب العاشق للمعشوق و
يقول:
«كانت الخمرة لأبي نواس شقيقة روح، فأحبّها حبّ العاشق للمعشوق، حبّ الزّوج للزّوجة ،ووّجه إليها
جماحه الجنسيّ، ووصفها بجميع صفات الأنوثة، وراح إلى بائعها يخطبها، ويدفع المهر، ويخاطبها
فتخاطبه، ويقيم لها حفلات الزفاف بكلّ ما أوتي من اندفاع وفنّ ،وراح يسكب فیها نفسه ليجد راحة نفسه، فأصبحت روحه فوأصبحَ و الخمرة َشخصا ًواحداً، لايستطيع الانفصال عنها ،و صبّ فيها كلّ فكره و كلّ قلبه و أرادالحياة كأسا ًو سكرة.» [44]
والواضح أنّ الفاخوري يعتمد على ظاهر خمرياته، ولايرى فيها شيئا ًغير الخمرة الحسيّة، فلا يستطيع
تحليله وتحليل خمرياته. فإذن يأتي بآراء عجيبة وغريبة ويتكلّم عن أبي نواس كأنه لا يتكلّم عن إنسان،
وَكأنّه يتكلّم عن موجود خیالی ما عرفناه حتى الآن. يقول الفاخوري هذا الكلام دون أن يسأل نفسه ما هو معنى
إقامة حفلات الزفاف بالخمر وما هو معنى حبّ الخمرة كالزوجة؟
إنه لا يقف، مع الأسف، عند هذا الحدّ فيختلق آراء عجيبة و يقول: «إنّه رأى في الخمرة شيئا ًمن الألوهة،
ورآها فوق النار التي كان الفُرس يعبدونها، ورآها فوق معبودات الناس أجمعين، حتّى كادت تنسيه اللّه
تعالى، وصفها بصفات الذّات الإلهيّة، وجَعَلَ لها آلاءً وأسماء حُسنى.» [45]
إنّ الحقد الدفين واضح في كلام حنّا الفاخوري عندما يتكلّم عن الإيرانيين. فلهذا في أوّل كلامه عن
نشأة أبى نواس يقول: «ولد من أبوين فارسييّن» [46]و هذا خلاف لما هو المشهور و الّذي أثبتناه عند التكلّم عن حياته.يقوله الفاخوري ليبني عليه ما يتمنّاه عن طريق ازدراء الإيرانيين.
هذا هو أبونواس كما يراه بعض نقادّه معانياً من عقده النفسية، معوضّا ً عن اشتهائه الجنسي نحو
الخمرة، متخذا ً من مواقعة الخمرة بديلاً عن أمّه وبديلاً عن إله ذات قدر.
ونحن لاندري على أي أساس اعتمد النقّاد على هذه العُقد، حينَ أنَّ جميع المصادر والمراجع تؤكّد
صحّتَه النفسية والعقلية. وتلك الأوصاف والعقد لا تنطبق على أىّ إنسان فضلاً عن تنطبق على شاعر كبير كأبي نواس.
في الحال نرى الدكتور طه حسين إنه يرى شيئاً آخر في خمريات أبي نواس حيث يقول: «على أنّ
من الحق أن نعرف لأبي نواس شيئا ً غير هذا الفسق والإغراق في المجون ،و هوالتوفيق بين الشعر وبين الحياة
الحاضرة. بحيث يكون الشعر مرآة ًصافيةً تتمثّل فيها الحياة، ومعنى ذلك العدول عن طريقة القدماء لأن هذه
الطريقة كانت تلائم القدماء وما ألفوا من ضروب العيش، فإذا تغيرّت ضروب العيش هذه، وجب أن يتغيّر
الشعرالذي يتغنّى بها، فليس يليق بساكن بغداد المستمتع بالحضارة ولذاتها أن يصف الخيام والأطلال أو
يتغنّى الإبل والشاء، وإنّما يجب عليه أن يصف القصور والرّياضَ ،ويتغنى الخمرَ والقيان. فإن فعل غير ذلك
فهو كاذب متكلّف. أراد أبونواس أن يشرع للنّاس هذا المذهب فجدّ فيه و وفقّ التوفيق كلّه، واتّخذ وصف
الخمر وما إليها من اللذّات وسيلة إلى مدح طريقته الحديثة وذمّ طريقة القدماء.» [47]
و لا يقف عند هذا الحّد و يعتقد: «فهو ليسَ مذهبا ًشعرياًفحسب، وإنّما هو مذهب سياسي أيضا.» [48]ويؤكّد طه حسين: «أنّ شعر أبي نواس في الخمر لم يكن هزلاً كلّه، ولم يكن الغرض منه المجون وحده، أو الإسراف في وصف اللّذات ،وإنّما كان أبونواس يتخّذ الخمَر وسيلةً إلى شيء من الجدّ، له خطره في الأدب، ووسيلة إلى شىء آخر من الجد، له خطره في غير الأدب.» [49]
في تأييد هذا الرأى، وأكثر من ذلك نقول بأن الشعر الخمرى كلّها جدٌ. و نذكر ما صرّح به أبو نواس
نفسه حيث يقول: «إذا أردتُ أن أجدّ قلتُ مثل قصيدي «أيها المنتاب عن عفره» [50]
و إذا أردتُ العبثَ قلت مثل قصيدي «طابَ الهوى لعميده» [51]فأمّا الذي أفني فيه وجدي وكلّه جدٌّ فإذا وصفُ الخمر.» [52]
و هناك قرائن و دلائل أخرى تؤكد بأنَّ خمرياته حافلة بالرمّوز والأسرار الإنسانية. و من هذه
الدلائل أنه: حُبس عدة مرّات بتهمة الزندقة في عهد الرشيد ولم يزل إلى أن مات الرشيد و قام الأمين
مكانه. توسط له الفضل بن الربيع وأطلقه من السجن. فلمّا سئل عن سبب حبسه قال: «اتهموني أني أشرب
شراب أهل الجنة. قال: و ما لك ذنبٌ غير هذا؟ قال: لا واللّه.» [53]
إننا نری تأثره بالقرآن الکریم فی هذا الکلام بوضوح تام حيث تقول الآیات: *يُسقَون من رحيقٍ مختوم* ختامكه مسكٌ فليتنافس المتنافسون *و مزاجه مِن تسنيم * عينا يشربُ بها المقرّبون* [54] و آيات كثيرة أخرى.
و هناك رواية أخرى أشغف بها كلّما أعود إليها، على أنّها أبين القول في هذا الموضوع و هي:
«قال حسين بن ضحّاك: كنتُ أساير أبانواس يوما ً بالكوفة، فمررنا بكتّاب وإذا صبيٌّ يقرأ من سورة البقرة: * كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلَمَ عليهم قاموا*... . [55]
فقال: أىّ معنى يستخرج من هذا في الخمر؟ فقلت :ويحك ألاتتّقي الله بكتاب اللّه فلّما كانَ من الغدِ أنشدنى:
و سيّارة ضلّت عن القصدِ بعد ماترادفَهم جُنُحٌ من اللّيل مظلمُفاصغوا إلى صوتٍ ونحن عصابةو فينا فتىً من سكره يترنّمُفلاحتْ لهم منّا على النّاى قهوةكأنّ سناها ضوء نارٍ تضرّمُإذا ما حَسَوناها أقاموا مکانهمو إن مُزجت حثّوا الركاب وأممّوا»
[56]
والواضح أنّ هذه الآية المذكورة تمثّل الذين اشتروا الضلالة بالهدى وما عندهم علمٌ، ولا هداية. إذن يؤكد
أبونواس بهذه الأبيات أن قصده من الخمرة هو النور و الهداية.
والعجيب أنّه حدثت هذه الحادثة في الكوفة قبل أن يهاجر إلى بغداد، أى قبل أن يصل إلى الثلاثين من
عمره... الفترة التى يتّهم بالمجون. فهذه الرواية تدلّ على أنه استعمل الخمرة من أوان شاعريته بمعنى غير
حسّى و هي خمرة فنیة یستخدمها فی السیاسة والأخلاق والمعرفة والعرفان .
الخاتمه:
بعد مطالعتنا خمريات أبي نواس ونقدها وتحليلها نقول: أنّه مهما تباينت الآراء حول حياته و
شخصيته وشأن خمرياته وموقفه السياسي وتوجّهاته الفكرية وموقفه من الحياة من خلال شعره الخمري،
فإنّ جميع الباحثين يتّفقون على أنّ أبانواس كان عَلَما بارزا ً من أعلام الإبداع الفنّي في تاريخ الشعر العربي و
روحا ًمتفتّحاً لكّلَ ما هو عذبٌ وجميل.
فإذن أبونواس لم يكن ذلك الشاعر المتكسّب الذي سخَّرَ شعره لمدح الخليفة والتقرّب منه، ليحصل على
مغانم المديح. ولم يكن تلك الموهبة الشعرية التي ترتدي أثواب الرياء وتختفی وراء أقنعة النفاق
الاجتماعي لتحصل على مغانم الحياة.
فإذا كان أصحاب المواهب الصغيرة،أوالذّين افتقرو بكلّ موهبة، قد اختاروا طريق الرّياء والنّفاق و
اختاروا طريق التملّق لأرباب الجاه والثراء لتحقيق الشهرة و المكاسب الشخصية، فإنّ أبانواس قد اختار
الاتّجاه المعاكس.
لقد شقّ بموهبته الفذّة، عصا الطاعة على المجتمع. واستخدم موهبته أداةً لهدم كلّ بناء فنّي أو روحي
يتعارض مع حريّته وانطلاقاته الروحيّة وتوقه المتصل إلى الكشف والتعمّق في أسرار الحياة والكون والنفس الإنسانية.
إنه استخدم جرأته النفسية ليعرّي نفاق المتسلّطين في المجتمع وضآلة النفس أمام الإطماع، وأمام قيود
الأعراف والتقاليد والموروثات. ولكن بقدر ما ارتقت بأبي نواس موهبته باتّجاه قمم الإبداع، عرّضتْه للكيد
والوقيعة والتشهير والاتّهامات الكثيرة. وعرّضته كذلك في الكثير من الأحيان إلى بطش الخليفة، تارة بتهمة الزندقة وتارة أخرى بتهمةالخروج على تعاليم الدين وأعراف المجتمع، وإن كان السبب الحقيقي ليسَ شربه للخمرة مادام الخليفة نفسه لم يكن يمتنع عن شربها، بل لِأنّه اختار من شعره الخمري وسيلة للتعّبير عن موقفه الفكري والسّياسي والإبداعي مستهينا بكل الأعراف البالية، وعبّر من خلال شعره الخمري عن انفصاله وغربته، كما يقول:
مالي و للنّاس كَم يلحونَنَي سَفَهاًديني لنفسي ودينُ الناس للنّاس ِ[57]
ولا حاجة إلی ذکرأنّ البیت المذکور یذکرنا الآیة الکریمة :*لکم دینکم و لی دین ِ *
[58]
و إذا كانت مشكلته أن عاشَ غريبا، فإنّ لِأبي نواس مع زمنه وعصره، مشكلة أخرى وهي أنَّه لا يقدر
إلاّ أن يتمردّ على الظلّم والعنف، ويرفع رأيةَ الحريّة الاجتماعيّه والسيّاسية في وجه القمع الاجتماعي و
السّياسي، ورأيةَ الحرّية الفنيّة في وجه القوالب الشعرية التقليدية المقدسّة، و رأيةَ العصيان على الأعراف، و
على مظاهر التخفّي والتستُّر في طلب طيّبات الحياة.
حاولنا من خلال بحثنا هذا أن نواكب مسيرة هذا الشّاعر، مسيرته الرّوحية والوجدانية بكلّ ما
فيها من قلق وتوتّر وعطش هائل للنّقاء الذي عبّر عنه في كلّ خمرياته و بمظاهر تمرّده الشخصي، ورؤيته
للحياة والكون والنوازع الإنسانية:خيرها و شرّها.
خلال مواكبتنا لهذه المسيرة، حاولنا أن لا نتأثر بحملات التشهير والإساءة له، بل عملنا كلّ ما في
وُسعنا إلى الوقوف على حقيقة الدوافع والعوامل السّياسية والاجتماعية والرّوحية والابداعية التي تحفز هذه الشخصية القلقة والمشدودة بين التناقضات.
وإذا كنّا قد حاولنا عبر بحثنا هذا أن نثير عدة أمور كانت موضع جدل ولبس عند الكثرين حوله،
كالزندقة وصحّة إسلامه وتشيّعه وانتمائه السياسي والفكري وموقفه من الأعراف والتقاليد والطقوس،
فإنّما كان هدفنا الأساسي اكتشاف الكثير من مواطن شخصية هذا الشاعر الّذي نهض بقمّة فنيّة وفكرية عالية
في فضاء الشعر العربي والتراث الإبداعي والّذي مازالت شخصيته حتّى الآن موضع جدل ونقاش.
المصادر و المراجع:
1-قرآن الکریم
2-أبو نواس ، بین التخطی والالتزام ، علی شلق : الطبعة الأولی ،المؤسسة الجامعیة للدراسات والنشر والتوزیع ،بیروت 1995 م.
3-أبو نواس ،الحسن بن هانئ ،دراسة فی التحلیل النفسانی والنقد التاریخی ، عباس محمود العقاد :لا ط . مکتبة الأنجلو المصریة ،لا تا.
4- أبو نواس ، قصة حیاته فی جده و هزله ، عبد الرحمن صدقی :لا ط. لا نا. لا تا.
5-أخبار أبی نواس ، ابن منظور : الطبعة الثانیة ،دار الفکر والطباعة والنشر والتوزیع ، بیروت 1995 م.
6-التاریخ الکبیر،ابن عساکر: لا ط ، مطبعة الروضة،الشام 1332 ه.
7- الجامع فی تاریخ الأدب العربی ، حنا الفاخوری : لا ط. دار الجیل ،بیروت ،لا تا.
8-حدیث الأربعاء ، طه حسین : الطبعة الثانیة عشرة ، دار المعارف بمصر ، القاهرة 1976 م.
9- دیوان أبی نواس ، أحمد عبد المجید الغزالی : لا ط. دار الکتاب العربی ،بیروت ،لا تا.
10-شرح دیوان أبی نواس ،إیلیا الحاوی :لا ط.الشرکة العالمیة للکتاب ، بیروت 1987 م.
11-طبقات الشعراء ،ابن المعتز : الطبعة الثانیة ،دار المعارف بمصر ،القاهرة 1956 م.
12-مقدمة تفسیر أرجوزة أبی نواس ،،محمد بهجة الأثری : لا ط. المطبعة الهاشمیة ،دمشق 1966 م.
13-نفسیة أبی نواس ، محمد النویهی :لا ط. مکتبة النهضة المصریة ،القاهرة 1953 م.
د. یوسف هادی بور: أستاذ مساعد بجامعة آزاد الإسلامیة فی کرج
Dr.yousof Hadipour
Assistant Professor
Department of Arabic language And Literature,Karaj Branch,Islamic Azad University,Karaj,Iran.