خمریات أبی نواس دراسة فی المضمون
– د.يوسف هادی بور
– أستاذ مساعد بجامعة آزاد الإسلامیة فی کرج
فی دراساتنا السابقة ومقالاتنا المنشورة ألقینا النظر علی حیاة أبی نواس فی ضوء جدید وعالجنا شعره الخمری من الناحیة الشکلیة، وتمت المقارنة بینه وبین الشعر الخمری قبله وما قاله الشعراء من معاصریه، وأخرجنا وجوه التشابه والخلاف ما بین خمریاته وخمریات الآخرین من ناحیة الشکل.
وأما المقال الذی بین أیدیکم فیعالج خمریات أبی نواس من ناحیة المضمون لتبیین وجوه التشابه والخلاف بین خمریاته والأبیات الخمریة التی سبقته، ولإیضاح مدی تأثیره علی الشعراء بعده فی قول الخمریات من ناحیة الألفاظ والمعانی.
الکلمات الدلیلیة: أبو نواس –الشعر الخمری– مضمون الخمریات -الخمر الفنی – الخمر الروحی.
المقدمة
عرفنا بأنّ الشعراء الجاهليين والإسلاميين والأمويين وصفوا الخمر لأغراض أخرى ومنها الفخر، ولم یکن وصف الخمر غرضاً من الأغراض الشعرية، ولم یکن فنّاً مستقلّاً. ولکن أبو نواس يصف الخمر كغرضٍ من أغراضه الشعرية، وقد أحسن وصف الخمر إحسانا لم يسبق إليه أحد، والقارئ یشعر بأن خمرته من نوع خاص، لما أضفى عليها من سمات الفّن والإبداع ولِما حملها من رموز وأوصاف معنوية تبُعدنا عن عالم الخمر المادّي.
قد استطاع أبو نواس من خِلال طاقاته الفنيّة والإبداعية والرّوحية أن يجعل لخمرته أبعاداً وأن يرسم لها آفاقا ً تفترق من الخمرة التي تغنّى بها الّذين كانوا من قبله ومعاصروه.
وإذا كانت الخمرة في شعر سابقيه تعبّر عن ترف أو تُجسّد جزءا ًمن التراث العربي، فقد كانت عند أبي نواس تعبّر عن حاجة روحية ونفسية وفكرية وتجسّد ما في نفسه من غنى روحي وفكري وسياسي و فلسفي، والمتتبع في خمريات أبي نواس، يرى أنّها كانت وسيلةً إلى إبداع عوالم شعرية وأداة لتفجير طاقته الإبداعية وخلق اتجاهه الفني المتميّز والجديد، وزورقا ً للخلاص من قبضة الهموم ووسيلة لتنبيه الناس وسوقهم إلى العوالم الإنسانية.
مضامین خمریاته
إنّ الوقوف على آفاق خمرة النواسي يقتضىِ منّا تتبّع أبعاد هذه الخمرة ومعانیها، على حسب المواقف التى استعملها الشاعر. وربّما نتعرّف على سير حياته في هذا النوع من الوقوف، على أنّه استعملها في معاني مختلفة على حسب الظروف وعلى حسب ما وصل إليها من الناحية الفكرية. هذا هو أب ونواس يقول في سعة معنى خمرتة:
دَقَّ معنى الخمرِ حتّى | هو في رجم الظّنونِ ِ |
كلمّا حاوَلَها النّا | ظرُ من طرف الجفون ِ |
رجعَ الطرفُ حسيراً | عن خيالِ الزَّرَجونِ ِ |
لم تَقُم في الوَهم إلاّ | كذبّتْ عينَ اليقين ِ |
فمتى تُدركُ مال | يُتَحرّى بالعيون ِ |
[1]
ولخمرياته مراتب ودرجات. نبدأ من أقلّها أهمّيّةً إلى أحسنها وأجودها رتبة:
ألف - الخمرة التقليدية:
إنّه اتخّذ الخمرة - في بادئ الأمر - وسيلة لأغراض أخرى، كما اتخذها الشاعر الجاهلي والإسلامي و الأموي قبله. منها الفخر. فلم یأت بشىء جديد في هذا الصعيد من ناحية المعنى إلاّ أنّ في وصفه فيها روعة وجمال كما يقول:
لمّا تبيّن أنّي غيرُ ذي بُخَل | وليسَ لي شغلٌ عنها وإ¨بطاءُ |
أتى بها قهوةً كالمسكِ صافيةً | كدمعةٍ منحتها الخدَّ مرهاءُ |
[2]
وفي مكان آخر يفتحر بشربه الخمر الغالية ويقول:
خطبنا إلى الدهقانِ بعض بناته | فزوّجنا منهنّ في خدره الكُبرى |
وما زال يُغلي مهرها، ويزيد | إلى أن بلغنا منه غاية القُصوى |
[3]
وفي قصيدة أخرى يفتخر باستطاعته فى شراء الخمرة ويقول:
يا قهوةً حرّمتْ إلاّ على رجلٍ | أثرى فأتلفَ فيها المال والنشبا |
[4]
كما افتخرها بها الشاعر الجاهلي عنترة بن شدّاد. قبله:
فإذا شربتُ فإنّني مستهلكٌ | ما لي وعرضي وافرٌ لم يُكلَمِ |
[5]
وكما افتخر بها طرفة بن العبد:
وما زالَ تشرابي الخمور َولذتي | وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتلدي |
[6]
وغيرها كما أشرنا إلى خمرياتهم في الفصول الماضية.
وهذا الضرب من خمريات أبي نواس يرجع إلى بداية شاعريته، وهو مقلّد في أوّل أمره. ولا يكتب له
فضل كبير، إلاّ أنه أتى بتعبيرات أجمل وأدقّ، وهذا يدلّ على ذكاوته ونبوغه الشعري الذي برز في حياته.
أنظروا إلى هذا التعبير وهو الفخر ولا شيء آخر، ولكن فيه عذوبة:
والخُمر شىءٌ لو أنّها جُعِلَت | مفتاح قفل البخيلِ لاِ نفتحا |
[7]
أو يقول فى مكان آخر:
إنى بذلتُ لها لمّا بصرتُ بها | صاعاً مِن الدِرّ والياقوت ما ثقبا |
[8]
ولا نطيل الكلام أكثر من هذا في هذا الضرب من خمرياته. إذ إنّه مقلّدٌ ويحذو حذو الشعراء الجاهليين.
ب - الخمرة الفنّية:
بعد المرحلة التقليدية أدرك أبو نواس ضرورة التجديد في الشعر، فثار على الأعراف والتقاليد و القيم الأخلاقية السائدة لا تناسب أحوال مجتمعه. وهو في الحقيقة تبنّى على صعيد الشعر من الحرّية مبدأ يعبّر من خلاله عن اتّجاهه الفكري، والفنّي، واتّخذ من الخمرة وسيلهً يجسّد من خلالها إيمانه بضرورة التجديد في الشعر كما في الحياة، حيث يرى الدكتور طه حسين ويقول: «إنّه كان يُريد أن يتّخذ ويتخّذ الناس معه، في الشعر مذهبا جديدا. وهو التوفيق بين الشعر وبين الحياة الحاضرة، بحيث يكون الشعر مرآةً صافية تتمثّل فيها الحياة، ومعنى ذلك العدول عن طريقة القدماء. لأنّ هذه الطريقة كانت تلائم القدماء وما ألّفوا من ضروب العيش. فإذا تغيرّت ضروب العيش هذه وجب أن يتغيّر الشعر الذى يتغنّى به، فليسَ يُليق بساكن بغداد، المستمتع بالحضارة ولذاتها، أن يصف الخيام والأطلال، أو يتغنّى بالإبل والشاء، وإنّما يجب عليه أن يصف القصور والرياض ويتغنّى بالخمر والقيان. فإن فَعَلَ غيرُ ذلك فهو كاذب متكلّف» [9]
فإنّه آمن برسالة الشعر في الحياة، وسعى جاهدا ًإلى ربط الجسور بين الواقع والشعر لتحقق غاياته و أهدافه وقد ألَحّ في شعره على تجسيد الحياة الحاضرة حيث يقول:
أحبُّ إلىَّ من وَخْد المطاي | بموماة يُتيه بها الظليمُ |
ومن نعت الديار ووصف ربع | تلوحُ بها على القِدَم الرسومُ |
رياض بالشّقائق مُونَقات | تكنّفَ نبتَها نورٌ عميمُ |
كأنّ بها الأقاحي حين تضحى | عليها الشمسُ طالعةً نجومُ |
ومجلس فتيةٍ طابوا وطابت | مجالسهُم وطاب بها النعمُ |
تدارُ عليهمُ فيها عقارٌ | مُعتّقةٌ بها يصبوالحليمُ |
كؤوس كالكواكب دائراتُ | مَطالِعُها على الفلك الأديمُ |
[10]
وفي الكثير من أشعاره يثور على نظام القصيدة القديمة وأشهرها:
لا تبكِ ليلى ولا تبك إلى هند | واشرَب على الورد من حمراء كالورد |
كأسا إذا انحدرتْ في حلق شاربها | أجدتْهُ حُمرتَها في العين والخدّ |
فالخمرُ ياقوته والكأس لؤلؤة | من كف جارية ممشوقة القدِ |
[11]
ولا بّد من التأكيد في هذا المجال على أنّ رفض أبي نواس لشكل القصيدة القديمة وموضوعاتها و ثورته عليها وسخريته من حياة الأعراب والبادية، لم تكن - كما زعم البعض - شعوبية عنصرية، تصدرُ عن تعصّب لقوم دونَ قومِ، بل كان امتدادا لموقفه العام الّذي نبغ من استقلال النظرة والّذي يلائم ذوقه ونفوره من التعصّب الُمقيت. وإننّا نرى ما قاله أبو نواس في إطار هجومه على أساليب الحياة القديمة، إن هو إلّا دعوة إلى نبذ التعصّب.
وفي هذا الإطار يقول:
أيا باكيَ الأطلال غيّرها البلى | بكيتَ بعين يجفُّ لها غَربُ |
أتنعتُ دارا ً قد عفتْ وتغيّرت | فإنّي لما سالمتَ من نعتها حربُ |
ونَدمانِ صِدقٍ باكر الرّاح سُحْرةً | فأضحى وما منه اللسانُ ولا القلب |
[12]
وفي مكان آخر يقول:
دعِ الأطلالَ تَسفيها الجنوبُ | وتُبلي عهد جِدّتها الخطوب |
وخلِّ لراكب الوجناء أرضا | تخبُّ بها النجيبةُ والنجيبُ |
بلادٌ نبتُها عشرٌ وطَلحٌ | وأكثر صيدها ضُبُعٌ وذيبُ |
ولا تأخذ عن الأعراب لهوا | ولا عيشا فعيشُهُمُ جديبُ |
دَع الألبانَ يشربها رجالٌ | رقيق العيش بينهمُ غريبُ |
فأطيبُ منه صافيةٌ شمول | يطوفُ بكأسها ساقٍ أديبُ |
أقامت حقبةً في قعر دنٍّ | تفورُ وما يُحَسُّ لها لهيبُ |
[13]
وفي إطار هذه الثورة على منهج القصيدة القديمة ورفضه لِما لا يناسب بواقع عصره، يصرّح بعيوب الأعراب وقيمهم التي تقوم على النفاق والغزو والإغارة، ويذّم الإغارة والحرب ويطرح الوُدَّ والحبَّ بديلاً عن هذا الأسلوب في حياة الأعراب، حيث يقول:
إصدع نجى الهموم بالطرب | والنعم على الدهر بابنة العنب |
فاذكر صباح العقار واسمُ به | لا بصباح الحروب والعِطب |
أحسنُ مِن موقف بمعترك | وركضِ خيلٍ على هلا وهب |
صيحةُ ساقٍ بحابسٍ قدحا | وصبرُ مستكرهٍ لِمُنتحبِ |
[14]
وفي مكان آخر، على سبيل الذم على الإغارة والحرب، يخاطب رجلاً اسمه بِشر - وهو من الأسماء الجاهلية- ويقول:
يا بِشرُ ما لي والسيفِ والحربِ | وإنّ نجمي للَّهو والطّرب |
فلا تثِق بي فإنَّنى رجلٌ | أكَعُّ عند اللّقاء والطّلب |
ولستُ أدري ما السّاعدان ولا ألـ | ـتُرسُ، وما بيضة من اللّبب |
هميّ إذا ما حروبهم غلبتْ | أىُّ الطريقين لي إلى الهرب |
لو كان قصف وشربُ صافيةٍ | مع كلّ خودٍ تختال في السُلُب |
والنومُ عند الفتاةِ أرشُفِها | وجدتني ثَمَّ فارسَ العرب |
[15]
ومن النماذج التّي كان يُعلن أبو نواس رفضَه لِلأسلوب الشعري القديم، وفي الحقيقة يُعلنُ رفضه للحياة القديمة ويمجد الحياة الجديدة هو حيث يقول:
دَعِ الرّبعَ، ما للرّبع فيك نصيبُ | وما إن سبتني زينبٌ وكعوبُ |
ولكن سبتني البابليّة إنّها | لِمثلي في طول الزّمان سَلوبُ |
[16]
ومنها:
لا تبكِ رسما ً بجانب السَنَدِ | ولا تَجُد بالدّموع لِلجَرَد |
ولا تُعرِّج على معطّلَةٍ | ولا أثافٍ خَلَتْ ولا وَتَد |
وَ مِل إلى مجلسٍ على شرفٍ | بالكرخ بين الحديقِ معتمدِ |
[17]
فإنّه يحاول أن يخلق من خلال الخمرة مذهبا شعريا جديدا يطرحُ من خلاله قيما وأعرافا جديدة وهي مِن وحى حياته الحاضرة وليست من وحىِ حياة أسلافه. وتسمعه يدعو إلى نبذ الوقوف على الدّيار في إطار سخريته من المقلّدين المعاصرين له والّذين يبتعدون عن واقعهم وهم غارقون في غمرة التقليد. حيث يقول:
أبْخِل على الدّار بتكليم | فما لَديها رجعُ تسليم |
والعن غُراب البين بغضا له | فإنّه داعيةُ الشّومِ |
وَ عُج إلى النرجسِ عن عوسج | والآس عن شيحٍ وفيصومِ |
واغدُ إلي الخمرِ بإبّانها | لا تمتنعْ عنها لتحريمِ |
فمَن عدا الخمرَ إلى غيرها | عاشَ طليحا عين محرومِ |
[18]
ومعظم أشعاره في تعظيم الخمرة من هذا النوع. وهذا هويدلُّ على شغفه بالمذهب الشعري الجديد
كما يرى طه حسين ويقول: «أراد أبونواس أن يشرع للنّاس هذا المذهب، فجدَّ فيه ووفقّ التوفيق كلّه، و
اتّخذ وصف الخمر وما إليها من اللّذات وسيلةً إلى مدح طريقته الحديثة وذمِّ طريقة القدماء. »
[19]
وفي الحقيقة كان متعصبا لمذهبه الشعري الجديد. وذلك الغلّووالإسراف في مدح الخمر ووصفها و
ذكر اللهووالمجون وما إليها هوأثرُ من آثار التعصّب كما يعتقد به الدكتور طه حسين حيث يقول:
«ونتساءل أليس هذا الغلوّ والإسراف أثرا من آثار التعصّب لمذهبه الجديد؟ على أنّ هذا المذهب الجديد
على حسنه واستقامته، وعلى أنّ أبانواس موفّق فيه لم يَسلم من أشياءَ تمكننا من أن نفهم بُغض الناس له، و
نعيهم عليه، فهوليس مذهبا شعريا فحسب وإنّما هومذهب سياسيٌ أيضا. »
[20]
وقد أشرنا إلى هذا البغض والعداء في بحثنا «حملات التشهير ضد أبى نواس». وهنا ننتقل إلى ضرب آخر من خمرياته وهو:
ج - الخمرة الاجتماعية والسياسية:
صوَّر أبونواس من خِلال الخمرة أجواء عصره، وجَسَّد من خلالها مظاهر الحضارة في مجتمعه، وما أودعته تلك الحضارة في ذلك المجتمع من بذخ وترفِ وقيان وغلمان وجوار. ولجأ مِن خلال الخمر إلى كشف سوءات مجتمعه وتعريته بأسلوبه الخاص وبوسائله التعبيرية الخاصة. ولجأ من خلالها إلى كشف الأقنعة من تلك الوجوه التّى كانت تتخذّ من الدّين والتمّسك بالأعراف ستارا تخفى تحته الرّياء والكذب والنفاق، ويرمي من خِلال ذلك إلى إعطاء صورة أمينة لبعض الأوساط الإجتماعيه في زمنه، إلى جانب أنه كان يعرض أحوال خلفاء بني العباس ورجالهم الذين كانت لهم مجالسُ أنسهم وطربهم مع القيان والغلمان و شرب الخمر، بينما كانوا يتظاهرون بالتقوّى الديني والوقار الإجتماعي. يقول في قصيدة يمدح من خلالها الأمينَ، متخذا من الخمرة أداته لهذا المديح:
یا کثیر النوح فی الدمن | لا علیها بل علی السکن |
سنة العشّاق واحدة | فإذا أحببتَ فاستكن |
ظنّ بي من قد كلفتُ به | فهويجفوني على الظنن |
تضحك الدُنيا إلى ملك | قامَ بالأحكام والسُننِ |
يا أمين الله عِش أبدا | فإذا أفنيتنا فَكُن |
كيف تسخوالنفسُ عنكَ، وقد | قمت بالغالي من الثمنِ |
[21]
وإذا أمعنّا النظَر في قوله: «تضحك الدنيا إلى ملك. . . » نرى إلى أي حدّ بلغت سخريته بالأمين وذلك حين
ينعته بأنّه «قام بالأحكام والسنن». وهوالمعروف بتحللّه من الكثير من الأحكام والسّنن.
ولنستمع إليه وهويقول في حضرة الأمين قصيدته الميميّة الّتي يرمز من خلالها إلى ما أصاب جماعته
من ضيم وأذى في ظلّ الخلافة العباسية:
يا دارُ ما فعلتْ بكِ الإيّام | ضامَتْكِ والأيّام ليسَ تُضامُ |
عَرَمَ الزّمان على الّذين عَهِدتُهُم | بكِ قاطنين، وللزّمان عُرامُ |
أيّام لا أغشى لِأهلكِ منزلاً | إلاّ مراقبةً علىَّ ظلامُ |
وتجشّمت بي هولَ كلِّ تنوفةٍ | هوجاءُ فيها جرأةً أقدامُ |
ملكٌ أغرُّ إذا شربتَ بوجهة | لم يَعْدُكَ التبجيلُ والإعظامُ |
إنّ الذي يرضى الإله بهديه | مَلَكٌ تردّى المُلكَ وهو غلامُ |
[22]
في هذه القصيدة نلمح بوضوح كيف أنّ أبانواس يحاول أن يكشف بعض صفات الخليفة وممارساته في مجالسه الخاصة. مبيّنا كيف أنَّ الأمين كان يقبل على الخمرة وكيف كان يشجّع من يشربها وذلك حين يقول:
ملكٌ أغرُّ إذا شربتَ بوجهه | لا يعدُكَ التبجيلُ والإعظام |
وهل أبلغ من لفظة «الغلام» في البيت الأخير والّتي ساقها في إطار المديح للتعّبير عن الطيش والترف وعدم الشعور بالمسؤولية؟
ولِنستمع أيضا إليه كيف يمدح الأمين في إطار تغنّيه باخمرة ويظهر موقفه السياسى المبطن من الخليفة، حيث يقول:
نَبِّه نديمكَ قد نَعَس | يسقيك كأسا في الغَلَس |
صِرفا كأنَّ شعاعَها | في كفِّ شاربها قبَس |
أضحى الإمام محمّد | للدّين نورا يُقتبس |
ورث الخلافة خمسة | وبخير سادسهم سَدَس |
تبكي البدور لضحكهِ | والسيف يضحك إن عَبَس |
[23]
وبغضّ النظر عمّا قد تحمله الأبيات من رموز ودلالات، فإنه لا يخفى علينا ما بقوله: «أضحى الإمامُ
محمدٌ. . . » وقوله: «تبكي البدور لضحكه - -» من مداعبات لاتخلومن الغمز والاستخفاف المبطّن
وإذا ما عُدنا إلى شعر أبي نواس نرى كثرة الايحاءات والرموز التّي عبّر من خلالها عن رأيه
السياسى. وأنّ أبانواس الذي آمن بالحرّية وعاش في ظلّ مجتمع قيدّه العبودية، كان يدرك بأن مقاومة
ديكتاتورية الخلافة وكمّها لِلأفواه بشكل عيني، هما ضربٌ من التّهوّر. لذلك اتّخذ من السخرية المبطنة
أسلوبا يعريّ من خلاله ويفضح الحياة الخاصّة للبلاط. ونعلم أنّ الجد المخبوء تحت الهزل هومِن أشدّ أنواع
الجد تأثيرا وتأثيرها أكثر من الجدّ الظاهر.
من هذا المنطلق نرى بأنّ شعره الخمري يحمل الكثيرة من معاني السخرية الموجّهة إلى السلطة
الجابرة، أوإلى المجتمع المستكين لهذه السلطة والمتأثر بممارستها التّي كان النفاقُ ناظما عاما لها. وكان
المجتمع الذي يُحبُّ أن ينحت صنما للعبادة. كما يرى الدكتور شوقي ضِف ويقول: «فمثلاً هارون الرشيد
حين يمدحه أبونواس أوأبوالعتاهية لا يمدح شخصه من حيث هو، وإنما يمدح المثل الأعلى للخليفة الكامل
كما يتراءى فى مخيلة الجماعة الاسلامية. »
[24]
فلا بدّ للشاعر أن يكشف عن هذه القداسة الكاذبة ويعلن إعراضه عن أساليب المجتمع في التستّر و النفاق والخِداع. ولا يرى حرجا في هذا المجال من أن ينادي بأعلى صوته:
اشرَب- فُديتَ -علانيةْ | أمُّ التستّر زانيه |
اشرب فديتكَ واسقني | حتّى أنامَ مكانيه |
لا تقنعنَّ بسكرة | حتّى تعودَ بثانيه |
ودَع التستّر والرّيا | ءَ، فما هُما مِن شانيه |
[25]
ومن وقوفه على رياء الناس وكذبهم ونفاقهم يعودُ، فيؤكد عدم اكتراثه بهم وبلومهم له، ويلحّ على الصدق وعلى المجاهدة التي يطرحها بدليلاً عن السرّية التي يكتنفها النفاق والكذب، كما يقول طه حسين: «كان أبونواس في هذا الشعر المخالف لِلأخلاق وأصول الفضيلة، محبّا لِلأخلاق وأصول الفضيلة، كان يؤثر الصدقَ وينكر الكذبَ» حيث يقول:
دعني من الناس، ومن لومهم | واحسُ ابنةَ الكَرم مع الحاسي |
فخمرة أنتَ لها رابحٌ | في حالتَىْ يُسرٍ، وإفلاسِ |
[26]
وفي مكان آخرِ يقول:
ولاحٍ لحاني كي يجىء ببدعةٍ |
وتلك لعَمري خُطّةٌ لا أُطيقُها |
لحاني كى لا أشربَ الرّاح، إنّها | تُوَرَّثُ وزرا فادحا من يذوقُها |
فما زادني اللّاحون إلّا لجاجة | عليها، لِأني ما حييتُ رفيقُها |
[27]
وإذا نتعمّق في خمريات أبي نواس نرى بأنّه قد استخدم الخمر استخداما ذكيا في التعبير عن جميع مواقفه، سواءً ما كانَ منها في السياسة أوالدّين أوالأخلاق السائدة.
وَ لِنستمع إليه كيف يتوصل إلى الجّد من خلال الهزل وكيف يداري موقفه من خلال الرمز حيث يقول:
خلِّ جنبيكَ لرامٍ | وامضِ عنه بسلامِ |
مُت بداءِ الصَمت خيرٌ | لك من داء الكلامِ |
ربّما استفتحتَ با لمز | حِ مغاليق الحِمام |
ربَّ لفظٍ ساقَ آجا | لَ نيامٍ وقيامِ |
إنّما السّالمُ مَن ألـ | جمَ فاه بلجامِ |
فالبَسِ الناسَ على الصـ | ـحّة منهم والسقامِ |
وعليك القصدُ إنّ الـ | ـقصدَ أبقى للحُمامِ |
شبتَ ياهذا وما تتـ | ـركُ أخلاقَ الغلامِ |
والمنايا آكلات | شارباتٌ لِلأنامِ |
[28]
ألا تكشف لنا هذه الأبيات الظروف السياسية الخطيرة؟ ألا توضح لنا شدة الخوف الحاكم على
المجتمع؟
وإذا كان أبونواس قد عاشَ في فترةٍ لا تسمح له بالإعلان عن موقفه الصريح من الخلافة العباسيّة، و
إذا كانت الظروف غير مناسبة له بالمجاهرة لطرح أفكاره بوضوح وصراحة، فإنّه يتخذ من الخمرة رمزا
للثورة الاجتماعية ووسيلة لبيان آرائه، بطرقه ووسائله الشعرية الخاصة. دونَ أن يواجه سيف الخليفة، على
أنّه يعرف الظروف وهونفسه يقول:
إنما السالم من ألـ | ـجمَ فاه بلجامِ |
والمنايا آكلاتَ | شاربات لِلأنام |
وهذا البعد من خمرياته هوالبعد الذي تأثربه شاعرنا الكبير حافظ الشيرازي.
د - الخمرة النفسية
عاش أبونواس وحيدا ً في عصره وما كان أحد يدرك همومه التي قد ألمّت به، فاتّخذ من الخمرة وسيلة لتبديد الأحزان التى تاكُل روحه؛ كان وحيدا ً فى ذلك المجتمع الغارق فى النّفاق والرّياء. وكان صعبا ً عليه أن يرى بأن الآمال الإنسانيّه تمحوشيئا فشيا في ظلّ دولة تدّعي بأنها تحافظُ على الدين والإنسانية، فی حالة كانت في الحقيقة عدوّ الإسلام والإنسانية. فما كان له أن يداوى آلامه إلاّ باللجوءِ إلى نفسه وإلى خلواته.
ولنستمع إليه وهويردُّ على من عاب عليه معاقرة الخمرة، زاعما ً أنّه خالى القلب من الهموم والأحزان، وأن الخمرة مجرّد وسيلة إلى التبذّل والعربدة، يقول:
إذا شاقك ناقوسٌ | وشجوُ الناي والعودُ |
وغوديتَ بريق الخم | ـر مجّته العناقيدُ |
تطرّبتَ إلى الإلفِ | فقالوا أنت عربيدُ |
وهل عربدَ مكروب ٌ | قريحُ القلب معمودُ |
[29]
إنّه يسخر من هؤلاء الذين يتهمونه باللامبالاة والعربدة، يسخر منهم، لأنهم لا يدركون ما بقلبه من هموم وأوجاع. كثيرة هي الأبيات التّي عبّر أبونواس من خلالها عن عذاباته وهمومه وجَسَّدَ مِن خلالها النفسية ووارى بها أحزانا ً وآلاما ًلم یکن بإمكانه أن يبوح بها أويفصح عنها. فها هوذا، يداوي الهموم بالخمر:
إذا خطرتْ فيكَ الهمومُ فداوها | بكأسك حتّى لا تكونَ هموم ُ |
أدرها وخُذْها قهوةً بابليّةً | لهابين بُصرى والعراقِ كُرومُ |
[30]
وفي موضع آخر يقول:
طربَ الشيخ فغنّی | من عُقار تنهبُ الهمَّ الفَرَح |
أخذت من كلِّ شيء لونها | فهي في ناجودها قوسُ قزح |
[31]
ولم تكن الخمرة عند أبي نواس وسيلة لبتديد الأحزان فحسب. بل كانت كذلك وسيلة لكشف منابع
الحسن والجمال في كلّ شيءٍ. ففيها يجمل العالم، وتحلوالطبيعة، وفيها يتجلّى جمال الدنيا وروعة الوجود.
كما يقول:
لا تخشَعَن لطارق الحدثَان | وادفع همومك بالشّراب القاني |
أوماترى أيدي السحائب رقّشت | حُلَلَ الثرى ببدائع الريحان ِ |
فإذا الهموم تعاورْتكْ فسلِّها | بالرّاح والريحان والنُدمانِ ِ |
[32]
وكثيرة هى الأبيات التّى دعا أبونواس من خلالها إلى التمتّع بالعالم، وبهاء الطبيعة عبر تغنّيه بالخمرة و حثه على الإكثار ومنها:
ألا فاسقني مِسكيّة العَرف، مُزَّةً | على نرجسٍ تعطيكَ أنفاسه الخَمرُ |
عيونٌ إذا عاينتها فكأنّما | دموع الّندى من فوق أجفانها دُرُّ |
مناصبها بيضٌ وأجفانها خُضرُ | وأحداقُها صفرٌ: وأنفاسُها عِطرُ |
بروضة بستانٍ كأنَّ نباتها | تقنّعَ وشيا حينَ باكرها القطرُ |
يديرُ علينا الشمسَ والبدرُ حولَها | فيامَن رأى شمسا يدور بها بدرُ |
[33]
وفي موضع آخر يقول:
تعلّل بالمُدام مع الندّيم | ففيه الرَّوحُ من كُرَب الغموم |
وبادر بالصّبوح، فإنّ فيه | شفاءَ السُقم للرَّجل السّقيم |
[34]
أو يقول:
اِصدع نجىَّ الهمُومِ بالطّرب ِ | وانعم على الدهر بابنة العنب ِ |
واستقبلِ العيش في غضارته | لا تقفُ منه آثارَ معتقب ِ |
من قهوةٍ زانهاتقادمُها | فهْي عجوزٌ تعلوعلى الحُقَبِ |
دهريّة قد مضتْ شبيبتُها | واستنشقتهْا سوالف الحِقب ِ |
[35]
أو:
هلّا استعنتَ على الهمومِ | صفراءَ، من حلب الكروم ِ |
ووهبتَ للعيش الحميـ | ـدِ، بقيّة العيش الذّميم ِ |
بمجالس فيها المزا | هِرُ، والأوانس كالنجوم ِ |
بدءُ التحيّة بينَهُم | نظرُ النديمِ إلى النديم ِ |
[36]
وهذا الموقف من خمرياته هوالموقف الذى تأثّر به الشاعر الإیرانی الكبير خيّام النيشابوري.
هـ - الخمرة الأخلاقية والرّوحية:
لم تكن الخمرة عند أبي نواس وسيلة من وسائل التعبير عن أبعاد موقفه من الفّن والحياة والقيم الاِجتماعية والسّياسية، ووسيلةً للتّعبير عن معاناته الوجدانية فحسب، بل إنّه ابتكر نوعا ًآخر من الخمريات في أواخر حياته وهوبلوغ شعره الخمري وهي الثمرة الناضجة من شجرة خمرياته.
هذه الخمرة كلّها الضوء والفرح والنشوء والمعاد والتناهي والتجلّي وكأنّها روح متمرّدة، ثائرة، قادرة على الخلق. هذا النوع من خمرياته يجعل من أبي نواس واحدا من هؤلاء السالكين دروب العارفين، المهمومين بأسرار الكون والحياة، وفي كلّ مرة أعود إليها أسمع نبضا ً يتوق إلى معانقة المطلق والإمساك بسّر الوجود وأرى موقفه الأخلاقي من خلالها. أنظروا إلى هذه الأبيات:
نفس المدامة أطيبُ الأنفاس ِ | أهلاً بمن يحميه مِن أنجاس ِ |
وإذا خلوتَ بشربها في مجلس ٍ | فاكفُف لسانك عن عيوب الناس ِ |
في الكأس مشغلة وفي لذاتها | فاجعل حديثك كله في الكأس ِ |
صفوالتعاشُر في مجانبة الأذى | وعلى اللّبيب تخيُّرُ الجُلاس ِ |
[37]
لقد نفر أبونواس من لؤم ّاللائمين وأکدَ مرارا ً من خلال شعره الخمري على مباشرهالأتقياء والأصفياء. لذلك فقد كان يُصرُّعلى أن يكون ندمانه وسقاته من خيرة الناس ومن أحسنهم أخلاقا وأفضلهم سيرةً. و في هذا الإطار تحمل خمرته بعدا ً أخلاقيا يجسّد من خلاله آداب المعاشرة وأخلاق الندماء، كما يقول:
تعلّل بالمُدام مع الندّيم | ففيه الرّوح من كُرَب الغموم ِ |
وبادر بالصبّوح فإنّ فيه | شفاءُ السُقم للرّجل السقيم ِ |
وخذها إن شربتَ وميضَ برق ٍ | بماء المُزن من نُطُفِ الغيوم ِ |
لتجعَل هذه عُرسا لهذا | فإنّ القَطْر بَعلٌ لِلكُروم ِ |
ولا تسقِ المُدامَ فتىً لئيما | فلستُ أحِلُّ هذى لِلّئيم ِ |
لأنّ الكَرْمَ مِن كَرْمٍ وَجُود | وماءُ الكَرمْ للرّجل الكريم ِ |
ولا تجعل نديمكَ في شرابٍ | سخيفَ العقلِ، أودَنَس الأديم ِ |
ونادِم: إن شربتَ أخا مَعا ل | فإنّ الشُربَ يَجمُلُ بالقُروم ِ |
وإنّ المرءَ يصحَبُ كلَّ جيل ٍ | ويُنسَبُ في المُدامِ إلى النديم ِ |
[38]
ونسمعه يقول أيضا على لسان خمرته التّي تبعِدُ بصفائها عن معشر السفلة من الناس:
لا تمكننِّي من العربيد يشرَبُني | ولا اللّيئم الّذي إنْ شمَّني قَطبا |
ولا المجوسُ فإنّ النارَ ربّهُمُ | ولا اليهود، ولا من يعبُدُ الصُلُبا |
ولا السّفالِ الذي لا يستفيق، ولا | غِرَّ الشباب، ولا من يجهل الأدبا |
ولا الأراذل، إلاّ مَن يُوَقّرُني | مِن السُّقاة، ولكن اسقني العربا |
[39]
وهنا نتساءل أيّة الخمرة هذه التي يتكَلم عنها؟ وأىّ نديم هذه الذى يخصُّه أبونواس بهذه الأوصاف
التي لا يرقي إليها إلاّ الأشراف والأصفياء؟ ولا شكّ فيه بأنّ هذه الخمرة هى خمرة الوعي واليقظة التي -
على حسب بعض الروايات - شربها جّدنا آدم (ع) فأخرج من جنة الجهل والرّاحة، ولهذه المسألة خلفيّة
تاريخية وهى: «إنّ الأقدمين مِن أهل الثقافة اليونانية أوالعبرّية كانوا يحسبون المعرفة كلّها ضربا ً من التمرّد
والتطاول على علم الإله العليم. فاليونان الأقدمون كانوا يسمّون الشجرة الّتي أكَل منها آدم، بشجرة
المعرفة».
[40] و كما ورد في القرآن الكريم باسم «شجرة الخُلد»: *فوسوس إلیه الشیطان قال یا آدم هل أدلک علی شجرة الخلد وملک لا یبلی *
[41]
واقترب آدم (ع) منها بإغراء أبلیس، فأصبح من الظالمین وهبط من جنة النعیم: * وقلنا یا آدم اسکن أنت وزوجک الجنة وکلا منها رغدا حیث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتکونا من الظالمین*فأزلهما الشیطان عنها فأخرجهما مما کانا فیه وقلنا اهبطوا بعضکم لبعض عدوولکم فی الأرض مستقر ومتاع إلی حین *
[42]
ولهذا يكثر أبونواس الكلام مِن ذكر إبليس ويكثر التعويل عليه، إذ إنّه وليّ الخمرة ومن مهمّته أن يُغري الناسَ بشرب الخمر إلاّ الأعداء والعاذلين:
دعوتُ إبلیسَ ثمّ قلت له | لا تسقِ ِهذا الشّرابَ عُذالي |
فبتُّ أُسقَى ومن كلفت به | مدامةً صُفّقَتْ بسلسال ِ |
[43]
والمشهود قصده هوخمر المعرفة واليقظة.
وهكذا نسمع إليه كيف يحمل خمرته أبعاد نظرته الإنسانية، جاعلاً من مجالسها أندية عامرة بالحبّ و الإيثار والتضحية والكرم، حيث يقول:
ومجلسٍ ما له شبيه | حلَّ به الحسنُ والجمالُ |
يمطرُ فيه السّرورُ سحّا | بديمةٍ مالها انتقالُ |
شهدته في شبابِ صدق ٍ | ما إن تُسامى لَهُم فَعالُ |
نأخُذَ صهباء، بنتَ كرم ٍ | عذراءَ، لَم تَؤوِها الحجالُ |
نشرَبُها بالكبار صِرفا | وليسَ في شُربنا مُطالُ |
[44]
وكما كانت خمرة أبي نواس وعاء للحّب والكرم والأخلاق، فهي أيضا تعبّر عن حاجة روحية لديه لِتصبح منبعا للنّقاء والصفاء ووسيلة للخلاص من عالم قاتم:
عاذلي في المدام غيرَ نصيح ٍ | لا تَلُمني على شقيقة روحي |
لا تَلُمني على الّتي فتنتَني | وأرتني القبيحَ غيرَ قبيح ٍ |
قهوةٌ تتركُ الصحيحَ سقيما | وتُعيرُ السقيمَ ثوبَ الصحيح ِ |
[45]
فماذا نقول حين يرى في خمرته روحا ً، أوحينَ يراها خالدةً تعمي عنها المقادير:
طوى عليها الدّهر أيّامه | وعُمّيت عنها المقاديرُ |
جاءت كروحٍ لم يقم جوهرٌ | لطفا به، أويُحصِهِ نورُ |
[46]
أوحين يراها مصدرا ًمن مصادر التوهّج والإشعاع، يتوالدُ فيها النور والضياء:
رقّت عن الماء حتّى ما يلائمها | لطافةً وجفا عن شكلها الماءُ |
فلومُزجت بها نورا لمازَجَها | حتّى تولَّدَ أنوار وأضواءُ |
[47]
ولا أعتقد أنّ من يقرأ خمريات أبي نواس، لا يلمح فيها تلك الحالات من الوجد الصوفي كالتي نراها عند كثيرين من المتصوّفه حين يعبرّون عن تعلّقهم بالخمرة الإلهية ورمز المعرفة، أوحين يستغرقون في مناجاة محبوتاتهم ويذوبون عشقا بهنّ بلغة الرمز. فلنستمع إليه حيث يقول:
یا شقیق النفس من حکم | نمت َ عن لیلی، ولم أنم ِ |
فاسقني الخمر التي اختمرت | بخمار الشيب في الرّحم ِ |
فَهْىَ لليوم الّذي بُزِلَت | وَ هْىَ تِربُ الدهرِ في القِدَمِ |
عتّقت حتّى لواتصّلت | بلسانٍ ناطقٍ وفمِ |
لاحتبتْ في القوم ماثلة | ثمّ قصّت قصّة الأمم ِ |
قَرَّعتْها بالمزاج يدٌ | خلقتْ لِلكأس والقلم ِ |
في ندامَى سادةٍ نَجُبٍ | أخذوا اللّذّات من أمم ِ |
فتمشّتْ في مفاصلهم | كتَمَشّي البُرءِ في السّقم ِ |
فَعَلَتْ في البيتِ إذ مُزِجتْ | مثل فِعل الصبح في الظُلَم ِ |
فاهتدى ساري الظّلام به | كاهتداء السَفْرِ بالعلم ِ |
[48]
وبهذه الألفاظ والمعاني عبّر شاعرنا عن ولعه بالخمرة وتقديسه لها، ومن خلالها رأى ما لم يره
الآخرون، وسمع واكتشف واتّصل بجوهر الأشياء وسلك طريق المتصوفّة، وفي الحقيقة هوأوّل من بدأ
بهذا النوع من الشعر الخمري. وسلك المتصوفة طريقهَ من بعد. ويكفي أن نذكرهنا وعلى سبيل المثال
مايعنيه «المزاج» و«الصّرف» عند المتصوّفة وما ينطوي عليه هذين اللفظين من تورية دقيقة عن معنى
صوفىٍ. فالصّرف، في عرف القوم هوتجلي الذّات و«المزاج» هووحدة الأشياء والاتّحاد. وإذا قرأنا هذه
التعاريف بماورد في خمرة المتصوفّة من تكرار لِألفاظ ومعاني «الصرف» و«المزاج» والاهتداء والجلال و
القدم والحجاب والروّح والأنوار والتوالد والضياء والنّور والنّار، نرى إلى أىّ حدٍ قد نهج أبونواس في
تناول هذه الألفاظ تناولاً صوفيا. ومن خلالها يتبين لنا تأثر الصوفيّة بأبي نواس وخمرياته
لأبيات على سبيل المثال:
أديرا عليَّ الكأس ينقشع الغمّ | ولا تحبسا كأسي ففي حبسها إثمُ |
ولا تسقياني بنتَ عشرٍ فإنّها | كما عُصرت لم يَنسَ فُرقها الكرمُ |
[49]
ولنستمع إلى ابن الفارض كيف يدافع عن حبّه للخمرة وعن شربه لها مستعملاً تلك الألفاظ المستعملة عند أبي نواس حيث يقول في خمريته المشهورة:
|وقالوا: شربتَ الإثمَ! كلاّ، وإنّما
شربتُ التّي في تركها عندىَ الإثمُ | |||||||
هنيئا لأهل الدّير! كم سكروا بها | وما شربوا منها، ولكنّهم هموّا | ||||||
عليك بها صرفا، وإن شئتَ مزجَها | فعدلُكَ عن ظَلم الحبيب هوالظُّلم | ُ [50] ويقول أبونواس: |
يسقيك كأسا من مشعشعة | ممزوجةٍ من فيه بالظَلم | ِ [51] أويقول: |
يسقيهم ممزوجةً تارةً | وتارة يسقى من الصّرف |
[52]
أو:
|تكادُ تخطف أبصارا إذا مُزجتْ
بالماء واجتُليتْ في لونها الجالي |
[53]
ويقول في موضع آخر:
|جفا الماءُ عنها في المزاج لأنّها
خيالٌ، لها بين العظام دبيبُ | |
إذا ذاقها مَن ذاقها حلّقت به | فلَيسَ له عقلٌ يَعُدُّ أديبُ |
[54]
إن الخمرة التى تحمل هذه الطاقة الروحية العظيمة، وتصل في رمزيّتها وإشراقاتها إلى هذا الحدّ البدع، هى بلا شكّ خمرة خاصة وهى رمزٌ أكثر من كونها شرابا، وإنّ الخمرة الّتى تهدم سجنَ الحياة، و تُضىءُ مصابيح الزمن، تؤلّف بين الذّات والعالم، لم تَعدُ شرابا عادّيا أوخمرة يشربها الناس، بل تتّحول إلى أكثر من رمزٍ، إلى مفجّر وإلى شوق وحنين و. . . .
هذه هى خمرة أبي نواس، تتلاشى فيها جميع حدود المكان والزمان، وتَزُول من خلالها الحجُبُ و الأستار ليتجلى ذاتا ً متناهية القدم، متجرّدة الأبعاد:
أعاذلَ لا أموتُ بكفِّ ساقِولا آبَى عَلَى مِلك العراقِ ِهجرتُ له الّتي عنها نهانيوكانت لي كمُمسكة الرِّماقِ ِنتيجة مُزنةٍ من عود كَرْم ٍتُضىءُ الليلَ مضروب الرّواقِ ِبلونٍ رقَّ حتّى كاد يخفىعلى عيني وطاب على المذاقِ ِفَتجري ما يُحَسُّ لها حسيسٌإذا مرّت بمزدَرَدِ البُصاقِ ِأتت مِن دونها الأيّام حتّىتعادَم جسمُها، والرّوح باقِ ِ
[55]
فأية خمرة يعنيها أبونواس حين يشربها مع الوصفاء، أو حين يقول فيها: «بلونٍ رقّ حتى كاد يخفى على عيني.» أوحين يقول: «فتجري مأيحَسُّ لها حسيس.» أوحين يقول: «تعادمَ جسمُها والروّح باق». أليست هذه الأوصاف هي نفسها التي خلعها كبارُ المتصوّفة على خمرتهم الإلهيّة، والتي قال عنها ابن الفارض:
صفاءٌ ولاماءٌ ولطفٌ ولا هواونورٌ ونارٌ وروحٌ ولاجِسمتقدمّ كلَّ الكائناتِ حديثُهاقديما، ولا شكلٌ هناك، ولا رسمُوهامتْ بها روحي بحيثُ نمازجا اتّـحادا ولاجرمٌ تخلّله جُرمُفخمرٌ ولا كَرْمٌ، وآدمُ لي أبٌوكرمٌ، ولا خمرً، ولي أمّها أمُّ
[56]
أليستْ خمرة أبي نواس تلك، أشبه ما تكون خمرة المتصوفة، نقلواها من معناها اللغوي إلى معناها المجازي
لتحمل رموزَهم وتُجسّدَ طاقاتهم الروحية؟
وماذا نقول عن هذه النشوة بالخمرة عند أبي نواس والّتي فاقت حدود التصوّر في وصفها فيما
أوردناه من نماذج، أوحين يقول:
هى الشمسُ إلاّ أن للشمس وقدةًوقهوتُنا في كلّ حُسنِ تفوقُهافنحن وإن لم نسكنُ الخُلدَ عاجلاًفما خُلدُنا في الدّهر إلاّ رحيقُهافيا أيها اللّاحي اسقني ثمّ غنّنيفإني إلى وقت المماتِ شقيقُهاإذا متُّ فادفنّي إلى جنب كَرْمَةٍتروّي عظامي بعدَ موتي عروقُها
[57]
ونرى عبر هذه الأبيات، يحتضن الخمرةَ ويناجيها، مستخدما فى مناجاتها لغة خاصّة، تختلف من لغات الناس، لغة لايدركُ أسرارها إلّا العارفون بها، لغة مُعجرة وهي لُغزٌ من الألغاز، وسِرٌّ مِن الأسرار لا تفصح عن مكنونها إلّا لصاحبها.
وَلِنستمع إليه وهويصف مجلسا ً من مجالس الخمرة. علينا أن نقف على بعض ما تنطوي عليه هذه المجالس من رموز وأبعاد قد تصلها بمجالس الخمرة عند الصوفية حين يلتقون موائد الصفاء، أوحينَ تتجلّى لهم الذّات العليا. يقول في قصيدة يصف فيها مجلسا ً من مجالس الخمر:
سقى اللّهُ ظبيا مُبدىَ الغُنج في الخطر ِيميس كغِصن البان من رِقّة الخَصر ِبعينيه سحرٌ ظاهرٌ في جفونهوفي نشره طيبٌ كفائحة العطر ِهوالبدرُ إلاّ أنّ فيه ملاحةبتفتير لحظٍ ليسَ للشّمس والبدرومسمعةٍ جاءتْ بأخرس ناطقبغير لسانٍ ظلَّ ينطق بالسحّرلتُبدى سرَّ العاشعين بصوتهكما تنطق الأقلام تجهر بالسّرسلام على شخص إذا ما ذكرتهُحذرتُ مِن الواشين أن يهتكوا سّرىفبعض الندامى في سرورٍ وغبطةِوبعض النّدامى للمدامة في أسرِوبعضٌ بكى بعضا ففاضتْ دموعُهعلى الخّدَ كالمرجان سالَ إلى النّحرفساعدتُهم عِلما بما يورث الهَوىوأنّ جنون الحبِّ يولَعُ بالحّرفُسقيا لِأيّامٍ مضتْ وهى غضَّةألا ليتها عادت ودامت إلی الحشر
[58]
من يكون هذا الظبي؟ ومن تكون هذه المغنية؟ وما هذا الناطق الذي ظلَّ ينطق بالسّحر؟ هل هويعود كما يوحي به ظاهر اللفظ؟ ولِمَ لا يكون هذا الأخرس الناطق هورمزٌ للمعرفة التى تتناهي إلى مسامع هؤلاء الهائمين بسرّ الله وسّرِ معرفته؟ فأىّ وجد هذا وأىّ شوق؟ وأىّ مجلس ذاك الذي ينتهي إلى هذا الفيض من الدمّوع؟ أتحسبونهم مجلسا ً عاديا ً للخمرة المادية كالتى يتعاطاها الناس؟
ولا أعتقد من يقف على هذه المجالس لايتوارد إلى ذهنه ذكر مجالس الصفاء في القرآن الكريم، منها:
*والسّابقون السّابقون* اولئك المقرّبون * في جنّات النعيم * ثلة من الأوّلين * وقليل من
الآخرين* على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدانٌ مخلّدون * بأكواب وأباريق
وكأسٍ من معين * لا يصّدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة ممّا يتخيّرون * ولهم طير ممّا يشتهون * وحور
عين * كأمثال اللؤلوء المكنون. *
[59]
انظروا إلى هذه الأبيات الّتي ذكرناها:
فبعض الندامى في سرور وغبطةوبعض الندامى للمُدامة في أسر ِوبعض بكى بعضا ففاضت دموعهعلى الخدّ كالمرجان سالَ إلى النَّحر ِ
ألاتذكرکم الأبيات هذه الآيات الکریمة:
*وجوهٌ يومئذٍ ناضرة* إلى ربّها ناظرة* ووجوهٌ يومئذٍ باسرة* تظنُّ أن يفعل بها فاقرة*
[60]
أو
وجوهٌ يومئذٍ ناعمة *لسعيها راضية * في جنة عالية*
[61]
كما تذکرنا مجالس الصفاء حيث يلتقي السالكون والعارفون في حلقات الذكر وهم على درجات: منهم من بلغ مرتبة الوصول إلى التجلّى والمشاهدة ومنهم من لم يصل إلى هذه المرتبة، فتفيض دموعه حرقة وشوقا إلى لقاء الجيب السرمدي، ولا أعتقد أنّ هذه الدموع التى فاضت مدرارةً إلا شبيهةً بدموع ابن الفارض العاشق الهائم حيث يقول:
هي أدمعُ العُشّاق جادَ وليُّها الــوادي، ووالى جودُها الألوذارئمَ الفلاَ عنّي إليك فمُقلتيكَمُلَتْ بهم لا تُغضها استئحاذاما استحسنتْ عيني سواه وإن سبيلكنْ سواي ولم أكن ملاّذاأَمسي بنار جوىً حَشَتْ أحشاءَهمنها يرى الأيقادَ لا الإنقاذا
[62]
أودموع رابعة العدوية التى تقول في حالة من حالات وجدها الصوفي:
كم بتُّ مرن حُرَقي وفرط تعلّقيأجرى عيونا من عيوني الدامعةلا عبرتي ترقا ولا وصلي لهيبقى ولا عيني القريحة هاجعة
[63]
ثم ما كنه هذه الخمرة والتّى تقدّم لِإخوان الصفاء بكأس تدمى سورتها كفّ ساقيها؟
أتى بهاقهوةً كالمسك صافيةًكدامعةٍ منحتها الخدَّ مرهاءُمازال تاجرها يُسقي واشربهاوعندنا كاعب بيضاء حسناءُ
[64]
ألا تذكرکم هذه الآيات الكريمة؟: إنّ للمتّقين مفازا *حدائق وأعنابا* وكواعبَ اَترابا* وكأسا دِهاقا*
[65]
ومَن هذا الأحور الأغنّ الّذي تردّد ذكرهُ كثيرا في شعر أبي نواس وفي مجالس خمرته؟:
يسعى بها مِن وُلد يافث أحورٌكقضيب بان فوق دِعْص نقّاء ِوفتىً كأطوع من رأيتَ إذا انتشىغنىً بحسنِ لباقةٍ وحياء ِعلق الهوى بحبائل الشعثاءِوالموتْ بعض حبائل الأهواء ِ
[66]
أوفي موضع آخر يقول:
وبديع الحُسن قد فاقَ الرّشا حسنا وليناتحسبُ الوردَ بخدّيــه يُناغي الياسميناكلّما ازددتُ إليهنظرا ً زدتُ جنوناظلَّ يسقينا مداما ًحلّتِ الخِدرَ سنيناوتفنّينا بحِذ ق ٍ«ياديارَ الظاعنينا»فاسقنا حتّى أوان الــحجّ لا تسقِ الضنينا
[67]
ومن يكون هذا الغلام كلمّا ازداد الشاعر نظراً ازدادَ جنونا؟
ألا تذكرکم الأبيات هذه الآيات الشریفة:
*ويُسقون فيها كأسا كان مزاجُها زنجبيلاً * عينا فيها تسمّى سلبيلاً * يطوف عليهم وِلدان مخلّدون
إذا رأيتَهُم حسبتَهمُ لوءلوءا منثورا * وإذا رأيتَ ثمَّ رأيتَ نعيما وملكا كبيرا * عاليهم ثيابُ سندسٍ خضرٌ
واستبرق وحلّوا أساورَ من فِضّةٍ وسقيهُم ربهّم شرابا طهورا*
[68]
أنظروا إلى أبي نواس كيف يعبّر عن أشواقه وتلُهّفه للحبيب حين يقول:
وأقبلَ محمود الجمالِ مقرطق ٌإلى كأسها، لاريبَ فيه، أريبُيشَمُّ الندامى الورَد من وجناتهفليسَ به غيرُ الملاحة طيبُفمازالَ يسقينا بكأس مُجدّةتُوَلّي وأخرى بعد ذاك تؤوبُوغنّى لنا صوتا بلحن مُرَجّع«سَرَى البرقُ غريبا، فحنَّ غريبُفمِن بينَ مسرورٍ وباكٍ من الهَوىوقد لاحَ مِن ثوب الظّلام غُيوبُ
[69]
وبالمقابل لنستمع إلى ابن الفارض كيف يصف حبيبه رامزاً من خلاله إلى الذات العليا:
يا ما أُمَيلِحَهُ رَشا فيه حلاتبديلُه حالي الحلي بذاذاأضحى بإحسانٍ وحسنٍ مُعطيالنفائسٍ وَ لَأَنفسٍ أخّاذاسيفا تسِلُّ على الفؤاد جُفونُهُوأرى الفُتورَ له بها شحّاذافتكا بنا يزداد منه مُصَوراقَتلي مُساوِرَ، في بني يزدا ذالا غرَوأنّ تخذَ العذارَ حمائلاإذ ظلّ فتّاكا ً به وقّاذاوبطرفِهِ سِحر، لوأبَصَر فعلههاروتْ، كان له به استاذاتهذي بهذا البدر، في جوّ السماءخلّ افتراكَ، فذاك خلّي لاذا
[70]
وفي مكان آخر يقول أبونواس:
هوالبدرُ إلاّ أنَّ فيه ملاحةً ًبتفتير لحظٍ ليسَ للشّمس والبدر ِويضحك عن ثغرٍ مليح كأنّهحبابُ عُقارٍ، أونقيّ أونقيّ مِن الدُّرّ ِجفاني بلا جُرمٍ إليه اجترمتُهوخلّفنى نضوا خلّيا من الصبر ِولوباتَ والهجرانُ يَصدعُ قلبُهلجادَ بوصل دائمٍ آخر الدّهرِمخافة أن يُبلى بهجرٍ وفُرقةفيلقى مِن الهجرانِ جمرا على جمرِسقى اللّهُ أيّاما ولا هجرَ بينناوعودُ الصِّبا يهتزّ بالورق النَّضْرِ
[71]
ويقول فى وصف خمرته المقدّسة ومن يشربها:
لا تمكننّي من العربيد يشر بنيولا اللئيم الذّي إن شمنّي قطباولا المجوسُ فإنّ النارُ ربَّهُمُولا اليهودُ ولا مَن يعبدُ الصُلبَاولا السّفال الذي لا يستفيق ولاغِرِّ الشباب ولا من يجهل الأدباولا الأراذل إلاّ من يوقِّرنيمن السُقاة ولكن اسقني العربا
[72]
فماذا نقول بعد كلّ ذلك في هذه الخمرة؟ وماذا نقول في هؤلاء الشّاربين؟
ألیست هذه الأوصاف صفاتا للخمرة الإلهية؟ وهؤلاء الشرب هم أقربُ ما يكونون من السالكين في محبة اللّه والعارفين له.
ولنستمع إليه كيف يبخلُ خمرته ويجعلها وقفا ًعلى الكرماء:
ولا تُسقِ المُدامَ فتّى لئيمافلستُ أحِلُّ هذى لِلَّئيمِ ِلَأن الكرمَ من كَرَم ٍ و َجُودٍوماء الكرمِ للرّجل الكريم ِولا تجعل نديمَكَ في شرابٍسخيف العقل أودنَسَ الأديم ِونادِم إن شربَت أخا معالٍفإن الشَربَ يجمُلُ بالقُروم ِ
[73]
خصّ أبونواس خمرته بالأصفياء والأطهار والشرفاء، وكانت خمرته كريمة، نقية، لا يقرّبها إلاّ الكرماء والأتقياء ومن كانوا مستواها كرماً ونبلاً، وها هوذا يشيرُ إلى هذه الخمرة المقدسّة لايشربونها إلاّ الصفوة المختارون الذين يرتفعون إلى شرف معاقرتها ويكونون كفئا لها:
أثنِ على الخمر بآلائهاوسمِّها أحسن أسمائهالا تجعل الماء لها قاهراولا تُسلطّها على مائهاكرخيةٌ قد عُتقت حقبةًحتّى مضى أكثر أجزائهافلم يكد يُدركُ خمّارُهامنها سِوى آخرِ حوبائهادارت فأحيتْ غيرَمذمومةٍنفوس حسراها، وأنضائهاوالخُمر قد يشربُها معشرليسوا إذا عُدوّا بأكفائها
[74]
والواضح أنّ هذه الأبيات هى أوج خمرياته، وهويقول بوجوب تطهير النفس لتصعّد إلى السّماء وفي أحسن حالها من الطهارة.
وخلاصة القول في هذا النوع من خمرياته أنّها تدلّ على الخمر الروحي في الكثير من الأحايين وهوفي الحقيقة رائد الشعر الخمري الروحي فی هذا الصعید. ولا نطيل الكلامَ في هذا الضرب من خمرياته، وهوأحسنها وأجودها. نختم قولنا بذكر خمرية أخری:
اسقني يا ابن أد هَمواتّخِذني لكَ ابن مااسقنيها سلافةًسبقتْ خلقَ آدمافهَى كانتْ ولم يكنما خلا الأرض والسّمارَأت الدهَر ناشئاوكبيرا ً مهّرمافهىَ روُحً مخلّصٌفارقَ اللحمَ والدّمااسقنيها وغنِّ صَوتا - لك الخيرُ - أعجماليسَ في نعتِ دمنةلا ولا زجرِ أشْأما
[75]
ومّما لا شكّ فيه أنّ أبا نواس في نظرته هذه إلى الخمرة قد تأثَّرَ بالعديد من العقائد والدّيانات التى احتّلت الخمرةُ فيها مكانا مقدّسا.
ونذكُر في هذا المجال ماقاله الدكتور محمّد النويهي عن مكانة الخمرة لدى بعضٍ الديانات والأمم، لنرى مدى تأثّر أبي نواس في موقفه من الخمرة بنظرة هؤلاء. يقول النويهي:
«اعتقدت أمم كثيرة من البشر أن نشوة الخمرة، من صنف النشوة الدينية ثم زادت فزعمت أنّها جزءٌمنها، فلم تكد تخلوطقوس العبادة لديها من شرب الخمر وأخذها مأخذ المراسيم الدينيّة الواجبة. ثم زادت بعضها على هذا، فجعلتْ شربَ الخمر شعيرة دينيّة قائمة بذاتها تتخّذ بها طقوس خاصّة تقررّ ما ينبغي فعله ومالا ينبغي في أثناء الشرب. وعَدّت أديان كثيرة الخمرَ شرابا إلهيا واعتبرتها روحَ الحياة. أوعَدّتها نفسَ الإله وروحه، وقالت إنّ بها القدرة على ردّ الميّت إلى الحياة، وفی بعض الدیانات کان الآلهة فی أصلهم غیر خالدین، ثم شربوا الخمرة فاکتسبوا الخلود.
نجد هذا في آلهة الهند المذكورين في كتب «الفيدا» المقدسّة، كما نجده في آلهة الإغريق الذين ذكر هم «هومير». في كثير من اللّغات تسمّى الخمر «روحا» أوتُسمّى «روح الكرم» أو«حياة الكرم». ونلاحظ أنّ اسمها العربي «الرّاح» من نفس المصدر الّذي ينبع منه لفظ «الروّح». وقد اتّخذت أديان كثيرة، إلهة مخصوصة، للخمرة نذكر منها «ديوينسوس» إله الكرم لدى الرومان. ولم يكن شرب الخمر في شعائر هذا الإله للتّلذّذ أوالعربدة، بل كان طقسا دينيا وقوراً. وفي الديانة البرهمائية القديمة كانت تستعمل الخمور في شعائر العبادة، وقد بقي الشّراب الديني جزءاً أساسيّاً من العبادة بين أتباع «زردشت». فمعظم طقوس «البرسيين» في يومنا
هذا يكون شرب الخمر طقسا ًلازماً بينها، ويعدُّ الشربُ عملاً دينيا خاصاً في عيد رأس السنة. »
[76]
وممّا يؤكد هذا القول ما جاء في إنجيل متى على لسان المسيح: «خذوا واشربوا منه كلُّكم. هذا هو
دمي الذي يسفك عنكُم وعن كثيرين منكُم لمغفرة الخطايا»
[77]
ويقال فيما ورد في القرآن الكريم عن الشجرة الممنوعة هى شجرة العنب، وأثرها إعطاءُ اليقظة و
المعرفة.
ولم يكتفِ أبو نواس أن يجعل من الخمرة قريناً لنشوته الدينيّة فحسَب، بل جعل منها أيضا ما تمتّع به
من طاقات مبدعة، رمزاً للمعرفة والحُبّ، ووسيلةً للتّواصل مع الذات العُليا.
وبذلك نستطيع القول بأنَّ أبا نواس، بما خلعَهُ على الخمرة من رموز وأوصاف وما أعطاها من أبعاد روحيّة ودينيّة، يصبحُ رائد المتصوفّة في هذا المجال.
النتیجة:
بعد هذه الدراسة الشاملة والمعالجة الواسعة فی مضمون خمریات أبی نواس عرفنا له على الأقّل خمسة أنواع من الخمريات وهى:
ألف -الخمرة التقليدية: إنه کان في هذا النوع من خمرياته متأثرا ً بالشعراء قبله من الجاهليين و الأسلاميين والأموييّن، فلم یأت بشىء جديد من ناحية المعنى في هذا الصعيد.
ب - الخمرة الفنيّة: وهى نتيجة لثورته على نظام القصيدة التقليدية. إنه سايَر حضارة عصره وأراد من الشعراء أن يسايروا حياة الحضارة ويبتعدوا من حياة البداوة ومعالمها. فهو في هذه النزعة تأثّرَ إلى حدًّما بمسلم بن الوليد.
ج-الخمرة الاجتماعية والسيّاسية: وهى نتيجة لثورته على الأعراف والتقّاليد المندرسة. ثار
على النفّاق والرّياء الشائعين، وثار على السلطة الإسلامية الكاذبة آنذاك التّي كانت تبثّ الخلافات القبلية
والدينية. إنه قام بإفشاء أَسرار الخلفاء العباسين، الذين كانوا يدعّون بأنهم خلفاء المسلمين، وإفشاء أسرار
أصحاب البلاط الذين كانوا زهاد النهار ومُجّان الليل وكانوا يهتمّون بجمع المال والذين هم يراؤون وما کانوا بمؤمنين.
تأثرَ شاعرنا الكبير، حافظ الشيرازي، بهذا النوع من خمرياته تأثرا ً شديدا ً.
د- الخمرة النفسيّة: هذا النوع من خمرياته يرجع إلى همومه التي حصلت من آلامه الاجتماعية و السيّاسية وعدم اكتراث الناس بالأمور الإنسانية التى كان أبونواس يشغف بها وجاهد فى طريق حصولها، فجعلته هذه الهموم أن يعيش وحيدا ً وغريبا ً فى ذلك المجتمع. شاعرنا الشهير، خيّام النيشابوري قد تأثّرَ بهذا النوع من خمرياته.
ه- الخمرة الأخلاقية والعرفانية: وهو في هذا النوع من شعره الخمري يجعل الخمرة رمزاً إلى المعرفة والوصول إلى الذات العليا ويصبح رائد المتصوّفَة في هذا المجال. وقد تأثّرَ به ابن الفارض وابن عربی وآخرون من الشعراء العرب فی هذه النزعة تأثراً شديدا ًوتأثّر به بعض الشعراء الإيرانيّين من أمثال السنایی وعطار النیشابوری والمولوی.
المصادر والمراجع:
- القرآن الکریم
- إنجیل متی
- حدیث الأربعاء: طه، حسین، الطبعة الثانیة عشرة، دار المعارف، القاهرة 1976م.
- دیوان ابن الفارض: محمد مهدی ناصرالدین، الطبعة الأولی، دارالکتب العلمیة، بیروت 1990م.
- دیوان أبی نواس: أحمد عبدالمجید الغزالی، لا ط. ، دار الکتاب العربی، بیروت لا تا.
- رابعة العدویة، الحیاة الروحیة فی الإسلام: طه عبدالباقی سرور، الطبعة الأولی، مطابع دار الکتاب العربی، القاهرة، 1954م.
- الشعر وطوابعه الشعبیة علی مر العصور: شوقی ضیف، دار المعارف، القاهرة، لا تا.
- المجانی الحدیثة: فؤاد إفرام البستانی، الطبعة الثالثة، دار المشرق، بیروت، 1972م.
- نفسیة أبی نواس: محمد النویهی، الطبعة الأولی، مکتبة النهضة المصریة، القاهرة، 1953
Dr.yousof Hadipour
Assistant Professor
Department of Arabic language And Literature,Karaj Branch,Islamic Azad University,Karaj,Iran.