أوضاع الدولة العباسية مند البدء حتی خلافة المأمون
الملخص
حمل العصر العباسي بين طياته أحداثا کثيرة وکان لهذه الدولة المعمرة التي طال عمرها أکثر من خمسة قرون متمادية، تأثير کبير علی النهضة العلمية والثقافية لا للدول العربية فحسب بل للممالک الإسلامية بأجمعها.غير أن الدراسات الحديثة التي قامت بشخصيات الخلفاء ودورهم في تلک النهضة العلمية قليلة جدا کما أنها لم تتناول شخصية الخلفاء المعقدة من الناحية النفسية.ويحاول هذا المقال أن يعالج هذا الأمر ولو معالجة عابرة.
الکلمات الدليلية: الدولة العباسية، الحکم، السفاح، المنصور، هارون.
التمهيد
طالت دولة الجور والظّلام وأعملت السيوف على رقاب الناس و أُهملت أمورهم فى العصر الأموي فى مختلف المجالات. والناس منقسمون إلى طبقات: منهم سيّدٌ ومنهم مولى. السيّدُ من العرب والكبرياءُ له وهو راغدُ العيش، وحياته حافلةٌ بالبذخ والترف. المناصب الحكومية فى يده والمشاغل الاجتماعية تختصّ له وهو فعّال لما يشاء.
وفريق كثير ضيّق العيش وهم المحرومون والبؤساء. أصلهم من بلاد أخرى يسمّونهم «الموالي» أكثرهم من الإيرانيين الذين كانوا يخدمون أسيادهم العرب وإن كانوا من قبل ذوي حضارة وعلم ومقدرة وخدم وحشم وندمان. يعملون فى المهن والحِرَف والّزراعة والحياكة دونَ أن يكون لهم حقّ فى أيّ مجال وحتى لم يكن لهم الحق في أن يتقدّموا العربّي فى الموكب وأن يعفوا من الجزية حتّى بعد إسلامهم، وأن يتزوجوا من عربيات حرّة وأن يصلّوا على ميّت إذا حضَرَ عربّي و عليهم أن يحملوا أحمالهم من الأسواق إلى البيت ومن البيت إلى الأسواق. كانت أعباء الحياة أثقلت كاهلهم وعلى أكتافهم آثار السياط. فما كانت حياتهم إلاّ حياة الزهد والتقشّف وحياة الخزى والعار. وفي الحقيقة كانوا يسأمون هذه الحياة التي يعيشونها. فكانوا يفكرّون فى قضاياهم و فى أمورهم وهم مُتعبون سائلينَ أنفسهم: أهذا هو نصيبهم من الحياة؟ أليس لهم الحقّ أن يعيشوا كساداتهم العرب؟ أهذا هو معنى المساواة لدى من يسُمّون مسلمين؟كانوا يبحثون عن حياة طيبة، حرّة كريمة والتمّتع بأجواء كلّها إنسانية وهم يعلمون بأنّ الحصول على جميع هذه الحقوق لايمكن إلاّ بالقضاء على الحكم الأموي.ومن جانب آخر نرى الشيعة، الذين كانوا يبحثون عن المساواة فى كلّ شيء إلا أمر الخلافة التي يجب أن تقتصر على الرضا بآل محمّد (ص) على حسب رأيهم، «تحدوهم الآمال المفقودة التى جّرها عليهم الضغط والإرهاق والدماء التى أريقت من قلوبهم غزيرة»1 والسبب هو مظالم بني أمية عليهم طوال تسعين سنة - من عهد معاوية إلى عهد مروان بن محمد. «فأخذت النزعة لقومية الإيرانية تتحّرك تحت قناع الشيعة وسرت فكرة الثورة العلويّة من العراق إلى فارس وانتشرت بنوع خاص في خراسان»2 فالنهضة فى بدايتها نهضة شعبية وشيعيّة والناسُ فى طلب مآربهم المادّية والمعنوية وحركة التحرير حركة طبيمية وصوليّة وفى مجراها جارية. إلاّ أنّ غاصبى الثوررة كانوا بالمرصاد: «فرأى بنو العباس أنّ الساعة أزفت للاستيلاء على الخلافة وهم أبناء عمّ الرسول»13. وكانوا يعتقدون بأنّهم أحقُّ الناس بالخلافة من الآخرين.كان الدين حبيب القلوب والناس فى ظمأ للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، فاعتمدوا على بني العباس لهتافاتهم القريبة من الآمال الشيعية ولقرابتهم النسبيّه بالنبي (ص). وما آن للناس أن يتعرفوا على حقيقة أمر بني العباسّ وما في قلوبهم، فاجتمعوا حولهم وأيدوّهم، «فنهض محمّد بن علي بن عبداللّه بن عبّاس يقيم الدعوة ويبّث الثورة لقلب النظام، وقد وجد في اتفاق أهل خراسان والشيعة خير وسيلة لبلوغ مآربه، فظهر أبومسلم الخراساني4 على المسرح»5 «ثم آل أمره و نمت به الأقدار إلى أن اتصلّ بمحمّد بن علي، ثم بإبراهيم بن محمّد الإمام، فأنفذه إبراهيم إلى خراسان وأمرَ أهل الدعوة بإطاعته والانقياد إلى أمره ورأيه. فقوى أمره وظهَر سلطانه وضعفَ أمر نصر بن سيّار صاحب مروان بن محمد الجعدي على بلاد خراسان» 6تضافرت جميع القوى (من الموالي والشيعة والخوارج والفئات المختلفة) على دكّ عرش بني أميّة الذين لم تكن لهم قدرة فى أواخر عهدهم بسبب مخالفة الناس من نواحي شتّى، وانتصارات أبى مسلم العظيمة وتقدّمه نحو مواقع العدّو بسرعة. إلى أن نشبت حرب دامية فى موقعة «الزاب» التي انهزم فيها مروان بن محمد وهرب من المعركة وانهارت الدولة الأموية «وذلك لِليلتين خلتا من جمادي الآخرة من سنة اثنتين وثلاثين ومئة»7 فكان الناس فرحون، وفي حفلاتهم الرائعة غارقون، ظنا منهم بأنّ الآلام الاقتصادية انتهت والآمال الإنسانية أقبلت والشرائع الدينية أكرمت. فزالت الدولة الأموية وزالت معها لسلطة المادية والاِهتمام بالأمور الدنيوية فى بداية الثورة و ظَنَّ الناس أنّها «جاء الحق وزهق الباطل»8 بعد تسعين سنة. دونَ أن يعرفوا هذه هي سيطرة الجبابرة باسم الدين والاسلام. والسبّب أنه أوّل مرّة تنحرف ثورة باسم النبي(ص) والإسلام، وما كان الناس يعرفون بأنّ الثورة ستأكل أولادها بعد سنوات قليلة بسبب ضعف اليقظة السياسية عند عامة الناس. ولكنّه ضعف عصر السيادة العربية تحت ظروف أوائل الثورة وفرح الناس بتلك الدولة الجديدة كما يقول الطبري: «استبشر المسلمون أوّل الأمر بالدولة العباسيّة، ظنا منهم بأنّها ما أقامت إلاّ لتمثل الخلافة، وشعائر السلطة الدينية، بينما كان ملك بني أمية ملكا دنيويا.»9 وفي «سبيل التدليل على هذه الصبغه الدينية، أخذ الخليفة العباسي يرتدي بُردة النبي»10 وأخذ الخلفاء يجمعون ولهم العلماء ويشملونهم برعايتهم ويستشيرونهم فى مصالح الأمة لتحويل أنظار الناس إليهم والتمسّك بحكمهم وبدؤوا بنشرة فكرة تقول: «إنّ هذا الأمر - أمر الخلافة - فينا وليس بخارج منّا حتّى نسلّمه إلى عيسى بن مريم صلّى الله عليه وسلّم»11. وعظم اعتقاد الناس فى بني العباس حتى زعموا: «متى قتل الخليفة اختلَّ نظام العالم واحتجبت الشمس وامتنع المطر»12 وأوّل من استولى على العرش هو أبو العباس عبدالله بن محمّد السفاح13 وأراد أن يكون أسوة حسنة لهذه النزعة الدينية المطروحة إبان الثورة كما أعلن للناس من قبل: «أن نقمته على بنى أميّة قائمة على إهمالهم للدّين وأنهّم جعلوا الخلافة سلطانا دنيويا»14 وأكّد فى خطبة ألقاها حين بويع له بالخلافة قائلاً: «ثم وثب بنو حرب ومروان، فابتزّوها وتداولوها بينهم فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه، فلّما آسفوه انتقم منهم بأيدينا وردّ علينا حقّنا وتدارك بنا أمتّنا وولى نصرنا والقيام بأمرنا ليمنّ بنا على الذين استضعفوا فى الأرض وختم بنا كما افتتح بنا وإنّى أرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير و لا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلاّ باللّه.»15
فجعل للدّولة شكلاً دينيا وسلطانا معنويا بدلاً من الحكم المادّي عند السلطة الأموية. «ونقل مقّرالخلافة من الكوفة إلى الأنبار16 سنة 134 هـ. وصيّرها دار الخلافة»17. و«أطللق عليها اسما جديدا وهو الهاشمية.»18 وكان السفّاح سريعا إلى سفك الدماء، فأتبعه فى ذلك مّاله فى الشرق والغرب وكان مع ذلك جوادا بالمال»19
كان السفّاح عالما بأن الدولة العباسية دولة جميع الشعوب الإسلامية ولا بدّله أن يعظم أمر الدين ويعتمد على الشيعة والموالي الذين لعبوا دورا مهمّا بقيادة أبي مسلم الخراساني فى تدمير الدولة الأموية وتأسيس الدولة الإسلامية. فما كانت الظروف مساعدة للسّفاح أن يشتدّ عليهم وينزل العقاب فيهم ولاسيّما في الثائرين من الفرس والشيعة وما كان العرب فى هذه الدولة إلّا عنصرا من العناصر المختلفة التي احتوتها الامبراطورية العبّاسية. ضعفت السلطة العربية وكان المحلّ الأوّل للفرس «إلى أن مات السفّاح بالجُدري في ذي الحجّة سنة 136 هـ وكان قد عهد إلى أخيه أبي جعفر»20
ولم يَدُم الأمر على هذه الحال بعد موت السّفاح، بل حدث تطوّر سياسي فعّال على يد الخليفة الثاني أبي جعفر المنصور21 حين بادر إلى نقل مقّر الخلافة من الأنبار إلى مدينة وضع حجرَ أساسها سنة 139 هـ وانتقل إليها بعد عشر سنوات وهي «سنة مائة وتسع وأربعين»22 وسمّاها «بغداد» وهى كلمة فارسية بمعنى«عطية الله» أو «حديقة للعدل» وسنرى تحولّا سياسيا خطيرا إثر هذه النقلة سبب قربها من إيران وأتباع الخلفاء سياسة تحذو حذو الأكاسرة. فبات الإسلام تحت تأثير المنهج الفارسي مبتعدا عن التقاليد العربية. ليّنت المؤثرات الفارسية خشونة البداوة العربية ومهدت السبيل لعهد جديد تميّز بإزدهار العمران وتقدّم العلوم والأبحاث ونشأت الأحزاب والآراء السياسية المختلفة. فخاف المنصور من هذه النزعات والأحزاب، وخاف أن يُنزع حبل الخلافة عن يده وأن يفقد زمام الأمور. فاتخّذ سياسة شديده قاسية، وفي أوّل الأمر غدر بأبي مسلم الخراساني حيث خشى منه الطغيان وبعد ذلك قضى على الثورة الشيعية بقيادة إبراهيم وأخيه محمّد النفّس الزّكية.23 «فقتلهُما وجماعة كثيرة من آل البيت»24. وقضى على أكثر الحركات السياسية التي ثارت لأجل الحريّة، كما جاء فى كتاب تاريخ الخلفاء: «قتل خلقا كثيرا حتّى استقام ملكه و هوالّذى ضرب أبا حنيفة، رحمه اللّه، على القضاء، ثم سجنه فمات بعد أيّام»25
كان المنصور أوّل من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين وقتل كثيرا من العلويين والعلماء الذين أيدّوا حركة محمد النفس الزكية، وسجن فئة كثيرة وصادر أموالهم و«فى سنة ثمانِ وخمسين ومائة أمرالمنصور نائب مكّة بحبس سفيان الثوري وعبّاد بن الكثير، فحُبسا وتخوّف الناسُ أن يقتلهما المنصور إذا أورد الحجَّ. فلم يوصله اللّه سالما، بل قدم مريضا وماتَ وكفا هما اللّه شرّه»26.
خلَّفه ابنه المهدي واتخذّ سياسة الضغط والترهيب من جانب، وسياسة الترغيب من جانب آخر. وكان من الضروري أن يتّخذ سياسة لينة يداوي بها آلام الناس ويجمع بها شملهم؛ فردّ معظم الأموال التي صودرت على عهد أبيه إلى صاحبها وأطلق سراح المسجونين السياسيين، لاسيمّا العلويين منهم وأمر لهم بأرزاق وصلات وعمل على استرضاء أهل الحجاز الذين عاملهم والده المنصور بكّل شدّة وعنف لتأييدهم ثورة محمدّ النفس الزكية، وقد حرص على إقامة العدل بين الناس. وهذا هو في الحقيقة رد فعل لما عمل أبوه من هيمنة وسيطرة وسلب للحريّات وضرب العنق وإبادة الحركات السياسية القائمة للحرّية. عرف المهدي بأنّ المجتمع على وشك الانفجار والسياسي فاتّخذ سياسة اصلاحية لإصفاء لهيب ثورة شعبية وشيعية، وكان يجلس مع القضاة فى بغداد عند النظر فى الجرائم وكان يمتاز بالهدوء النفسى وبالمشروعات الإصلاحية و كان عصره عصر ازدهار اقتصادي.
ولكنّه ما كان غافلاً عمّن اشتهروا بالزندقة. «و أفنى منهم خلقا كثيرا وهو أوّل من أمر بتصنيف كتب الجدل فى الرّد على الزنادقة والملحدين.»27 ونعلم بأن تهمة الزندقة كانت تطلق على من كانوا يعارضون الحكم العباسي ويدعون إلى قوة التفكير والحياة العقلية والعلمية، وكان أكثرهم مِن الإيرانيين ولهم سبقة فى نشر هذه الأمور. وقد قيل: «رفع صالح بن عبد القدّوس البصري إلى المهدي فى الزندقة، فأراد قتله.فقال: أتوب إلى اللّه وأنشد لنفسه:
لا يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهلُ من نفسه
والشيخ لا يترك أخلاقة
حتّى يوارى في ثرى رمسه
فصرفه. فلمّا قرب من الخروج رَدَّهُ وقال: ألم تقل: والشيخ لا يترك أخلاقة؟ قال: بلى، قال: فكذلك أنت، لا تدع أخلاقك حتى تموتَ، ثم أمر بقتله»28 وصلبه على جسر بغداد29. كما أمر بقتل بشّاربن بُرد، وهو في رأس الحركة الشعوبية. بتهمة الزندقة، «ولم يخرج فى دفنه أحدٌ، لأنه مات وخصمه الخليفة»30 كان المهدي يحتجب عن الندماء فى أوّل أمره، تشبيها بأبيه المنصور ثم ظهر لهم، فأشير عليه أن يحتجب. فقال: إنّما اللذة مع مشاهدتهم31. بامكاننا أن نقول: امتدّت الثورة حوالي أربع سنوات في حالة قريبة من آمال الناس تحت ظروف إبّان الثورة فى زمان السفّاح، وأكثر من عشرين سنة فى حالة القدرة والسيطرة والظّلم والإرهاب في زمان المنصور، وبعد ذلك حوالي عشر سنوات بين حالتي الترهيب والترغيب فى زمان المهدي الذي اتّخذسياسة المخادعة، «إلى أن مات سنة 169 هـ.»32
استولى على العرش ابنه الهادي، فحكم سنة واحدة وأشهر؛ ولكنّه اتبّع مع العلويين سياسة شديدة قاسية؛ قطع عنهم الأرزاق والصِّلات الّتي أجراها لهم والده. أمر عمّاله بمراقبتهم والتضييق عليهم، وهذه السياسة أثارت غضب رئيس العلويين، الحسين بن على وابن عمّه الحسن بن محمد النفس الزكية، فقاما بثورة استوليا بها على المدينة واتّجها إلى مكّة فى موسم الحّج، فانضمّ إليها حشد كبير من الحجّاج، وفي مكان يسمّى «فخّ» بين مكة والمدينة. تقابل العلويون مع الجيوش العباسيّة فى معركة عامة سنة 169 هـ، هزم فيها العلويّون وقتل قائدهم الحسين الذى سمّى بقتيل فخ»33
تصف المراجع العربية الهادي بالقوة الجسمانية وبالغلظة والشراسة وحبّه للغناء، والشرب، واللهو واللعب، وميله إلى سماع الأدب والتاريخ، كما جاء فى كتاب تاريخ الخلفاء: «كان يتناول المسكر، ويلعب ويركب حمارا فارها ولا يقيم أبهّة الخلافة... كان جبارا وهو أوّل من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة والأعمده... فأتبعه عمّاله فى ذلك34، إلى أن مات سنة 170 هـ. فتسلّم أخوه هارون الرشيدالخلافة وجَعَلَ يحيى بن خالد البرمكي وزيره وأعطى مناصبا كُبرى لِإبنيه الفضل وجعفر، و آل برمك من الاءيرانيين. وهارون الرشيد من أشهر خلفاء العباسيين وأكثرهم ذكرا مع تناقض في الروايات إلى حد أن أصبح شخصية أسطورية. فهو يُصَوّر أحيانا بصورة الخليفة الزاهد عن الدنيا الذي تسيل عبراته عند سماع الموعظة، والبطل المجاهد الذي أمضى معظم حياته بين حجّ وغزو، فكان يحجُّ عاما ويغزو عاما وكان مشهورا «بحاج غاز» وأنّه قاد الغزو بنفسه، استطاع أن ينتصر على البيزنطيين. وقد ورد فى بعض كتب التاريخ: «كانَ من أميز الخلفاء وأجّل ملوك الدنيا... وكان كثير الغزو والحج... وله نظر فى العلم والأدب...وله شعر... وكان يصلّي فى خلافته كلّ يوم مائة ركعة إلى أن مات، لا يتركها إلاّ لعلّة ويتصدّق من صُلب ماله كلّ يوم بألف درهم، كان يحبّ العلم وأهله ويعظم حرمات الإسلام، ويبغض المراء فى الدّين، والكلام فى فى معارضة النص... وكان يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه، سيمّا إذا و عظ، وكان يحبّ المديح ويُجيز عليه الأموال الجزيلة»35
فنراه من جانب وعلى حد قول البعض أنّه لم يكن شخصية عادّية. كان يحبّ أن يُفدي نفسه في سبيل الله كما رَوى أبو معاوية الضرير: «ما ذكرتُ النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بين يدي الرشيد إلّا قال: صلّى الله على سيدّى، وددتُ أنّى أقاتل فى سبيل الله فأقتل، فبكى حتّى انتخبَ»36 وكان يبذل من صلب ماله فى الأعياد الإسلاميّة ويتصدّق. ومن جانب آخر نراه يخوض فى اللهو واللعّب كما قال الذهبّى: «أخبار الرشيدشرحُها ومحاسنه جمّة وله أخبار فى اللهو والملذّات المحظورة والغناء وهو أوّل من جَعَل للمفنّين مراتب وطبقات»37
فالمتتبع في أخبار الرشيد يجده زاهدا في النهار وماجنا فى الليل، ويجده رجلاً خطيرا جدا، كان يحبّ الدّين والعلم والأدب كل الحب، وفى تلك الحال كان يحبّ المال واللهو واللعب كل الحب أيضاً.
كان يرتعش من خوف الآخرة وذكرُ اللّه على لسانه، وكان يخوض فى المحارم واضطراب الغناء على رجليه، كان يدّعى بأنه محبّ لآل البيت وكان ينزل العقاب والعذاب عليهم بشدة وقوة قاسية، فما كان سهلاً
أن تخالفه أو تسايره. كان شديد الغضب على الآخرين عند ارتكاب المعاصي وتبريره تبريرٌ ديني؛ وكان يسهل على نفسه وعلى الأقرباء عند المآثم وتبريره تبرير دينى أيضا؛ وهذا من خصائل الذين يرائون بالدّين
وما هم فى الحقيقة بمؤمنين؛ كلامهم عسل و أعمالهم سموم؛ ظاهرهم أنيق و باطنهم خبيث؛ وهم أهل حيلة وخدعة، يخلصون الحبّ للّناس فى ظاهر الكلام، ويقتلونهم سرا وخفيا؛ يزدرون مال الدنيا وقدرتها وفي
تلك الحال يقتلون فى سبيلها خلقا كثيرا؛ يعظّمون سبيل الله فى كلامهم ويستصغرونه فى عملهم؛ فهم زاهدون عن الدنيا في الكلام وراغبون فيها في العمل.
فلذلك حتمٌ علينا واجبٌ أن نتعرف على هذه الفترة ونتعرّف على خليفة كهارون الرشيد؛ لأن شاعرنا،أبانواس، مضى أكثر عمره في خلافة الرشيد وكان اتصاله بشخصية معقّدة كهارون، وبالخليفه المؤمن الذي كان يُحِبُّ أن يقاتل ويُقتل فى سبيل الله، ثم يُحيى ويُقتل مرة أخرى؛ وفى تلك الحال سجن الإمام موسى الكاظم (ع) وكثيرا من العلويين. وقضى على البرامكة الذين اشتهروا بالكرم والإصلاح والبناء والشعر والأدب.
فليس غريبا قول أبي نواس فى وصف ذلك الزمان حيث يقول:
هذا زمان القرود فاخضع
و كن لهم سامعا مطيعا38
إنه اتخذ أحسن وصف لِذلك الزمان و الخلفاء و الأمراء، و استخدام كلمة القرود يوضّح لنا كل شى.ومن جانب آخر نرى الصراع بين العرب والعجم بوضوح، حينما عهد الرشيد إلى ابنه الأمين بولاية العهد ولم يرض الجانب الفارسي وعلى رأسه البرامكة بهذا الوضع. فكان ذلك سبب نقمة الرشيد على البرامكة وجعل الفضل بن الربيع وزيرا له، والسبب الرئيس هو خوف الرشيد من البرامكة والتيار الفارسي، إلى أن مات الرشيد فى الغزو بطوس من خراسان و دفن بها في ثالث جمادي الآخر سنة ثلاث وتسعين ومائة39 ورث الأمين الخلافة سنة 193 هـ. وفي أحوال الأمين ممّا ورد فى بعض الكتب: «كان من أحسن الشباب صورة، أبيض، طويلاً، ذا قوّة مفرطة وبطش و شجاعة معروفة. يقال إنّه قتل مرّة أسدا بيده وله فصاحة وبلاغة وأدب وفضيلة. لكنّه كان سيء التدبير، كثير التبذير، ضعيف الرأى، أرعن، لا يصلح لِلإمارة،فأوّل ما بويع بالخلافة أمر ثانى يوم ببناء ميدان جوار قصر المنصور للعب بالكرة»40
وهكذا قال ابن جرير: «لّما ملك الأمين، ابتاع الخصيان، و غالى بهم وصيّرهم لخلوته ورفضَ النساءَ والجواري. وقال غيره: لّما مَلكَ وَجّه إلى البلدان فى طلب الملهّين وأجرى لهم الأرزاق واقتنى الوحوشَ والسباع والطيور، واحتجب عن أهل بيته وامراته، واستخفّ بهم ومحق ما في بيوت الأموال وضيع الجواهر والنفائس، وبنى عدة قصور للّهو فى أماكن»41
فما كان الأمين يستحق منصب الخلافة لسوء تدبيره ولخوضه فى الملذّات والملاهي.
أراد بتأثير وزيره، الفضل بن الربيع، أن يحرم المأمونَ من الخلافة ومعروف أنّ المأمون كان من أمّ فارسية تسمّى «مراجل». ولهذا كان البرامكة والجانب الفارسي يؤيدونه وكان الفضل بن الربيع والجانب العربى يرفضونه. فحدث خلاف بين الأخوين وامتدّ النزاع بينهما وهو دليل على استمرار النزاع القائم بين العرب والعجم من القديم ومن عهد الرشيد. كان الأمين وأمّه زبيدة ووزيره الفضل بن الربيع يمثلّون الحزب العربي وأما الحزب الفارسي فيمثله المأمون ووزيره الفضل بن سهل حتى حدثت حرب دامية بين الأخوين وأدتّ إلى بعض الثورات والعصيان فى أرجاء البلاد وانتهى بمقتل الأمين سنة 198 هـ.
استلم المأمون الخلافة وكان مستشاره الفضل بن سهل وهو رجل فارسي الأصل. كان المأمون فى بداية خلافته فى مرو إلى أن دخل بغداد سنة 203 هـ. وفى الحقيقة تمّت هذه القضايا بانتصار الجانب الفارسي وتعاظم أمرُ الايرانيّن اهتّم المأمون بالعلم والأدب بعد دخوله بغداد واعتنق آراء المعتزلة. وفي عهده بدأ بدخول الأتراك إلى البلاط.
الهوامش والمصادر والمراجع
- حنّا الفاخوري - الجامع في تاريخ الأدب العربي - الأدب القديم ص 518
- فيليپ حتي - تاريخ العرب - ج 2 ص 354
- حنا الفاخوري - الجامع في تاريخ الأدب العربي - الأدب القديم ص 518
- يعتقد البعض أنه كان من العرب و منهم يعتقد أنه كان عبدا - فاعتق و كان من أهل البرص و الجامعين من قرية يقال لها خرطينة - المسعودي - مروج الذهب ج 3 ص 254
- حنا الفاخورى - الجامع فى تاريخ الأدب العربى - الأدب القديم ص 518
- المسعودي - مروج الذهب - الجزء الثالث ص 254
- المصدر نفسه ص 290
- القرآن الكريم - سورة بنى اسرائيل - الآية 81
- محمدبن جرير الطبري - تاريخ الطبري ج 5 ص 316
- جلال الدين السيوطي - تاريخ الخلفاء - ص 23
- محمد بن جرير الطبري - تاريخ الطبري - ح 6 ص 84
- ابن طقطقى - الآداب السلطانيه و الدول الإسلامية - ص 190
- خليفة المسلمين من سنة 132 هـ الى 136 هـ.
- محمد بن جرير الطبري - تاريخ الطبري - ج 6 - ص 82
- المصدر نفسه - ص 82-83
- الأنبار: مدينة على ضفة الفرات اليسرى فى شمال العراق و موضعها قفر اليوم.
- جلال الدين السيوطي - تاريخ الخلفاء - ص 299
- يعقوبي - البلدان - ج2 - ص 429
- جلال الدين السيوطي - تاريخ الخلفاء - ص 299
- المصدر نفسه ص 299
- هو عبدالله بن محمد بن علي أبو جعفر المنصور. خليفة المسلمين مِن سنة 136هـ. إلى 158 هـ.
- جلال الدين السيوطي - تاريخ الخلفاء ص 304
- هو محمد بن عبدالله الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب و كان يُدعى بالنفس الزكية لزهده و نسكه و قد ظهر بالمدينة سنة 145 هـ تائرا فى وجه الخليفة المنصور لنزع الخلافة عنه. أرسل المنصور جيشا عظيما فقتل الإثنان
- جلال الدين السيوطي - تاريخ الخلفاء ص 300
- جلال الدين السيوطي - تاريخ الخلفاء - ص 301
- المصدر نفسه ص 301
- المصدر نفسه - ص 316
- المصدر نفسه - ص 318
- جرجي زيدان - تاريخ آداب اللغة العربية - ج1 ص 394
- المصدر نفسه ج 2 - ص 366
- جلال الدين السيوطي - تاريخ الخلفاء ص 319
- المصدر نفسه ص 316
- أحمد مختار العبادي - في تاريخ العباسي و الأندلسى ص 76-77
- جلال الدين السيوطي - تاريخ الخلفاء - ص 323
- المصدر نفسه ص 327
- المصدر نفسه - ص 328
- المصدر نفسه - ص 330
- الديوان - ص 519
- المصدر نفسه - ص 340
- المصدر نفسه - ص 341
- المصدر نفسه ص 345