دراسة موجزة علی خمریات أبی نواس
– د.يوسف هادی بور
– أستاذ مساعد بجامعة آزاد الإسلامیة فی کرج
الملخّص
الخمريات تسمية تُطلق على الأشعار التي تتناول عالم الشراب، بدءاً بالخمرة وأوصافها، مروراً بأوانيها وأشكالها، ورجوعاً إلى مواطنها وكرومها ووصفاً لمجالسها وما تضمّه من سُقاة وندمان وغناء ولهووطرب، وتتبّعاً لتأثيرها في النفس ودبيبها في مفاصل الجسد، وما يحصل منها من نشوة وخيلاء وما يجري في مجالسها من طرائف ولطائف، وطقوس وشعائر، وغير ذلك ممّا جعل القصائد الخمرية أوالأبيات التي تضمّها قصائد الشعر العربي في هذا الموضوع تحتّل مكانة بارزة فی الأدب العربی، ولاشکّ في أنّ أبا نواس هورائدالشعرالخمري علی مرّالعصور لاتخاذه الخمرة مدخلاً إلی عالم السیاسة والسعادة والجمال والمعرفة ومخرجاً وحیداً من سجن المجتمع وأعرافه وتقالیده ومن مأزق الوجود. بسبب هذه الأهمیة البالغة بعد معالجة الشعر الخمری قبل أبی نواس، قمنا بدراسة خمریاته من الناحیة الشکلیة لتبیین الوجوه البارزة فيها کمقدّمة لدراسة مضمون خمریاته في مقال یلی هذا المقال.
الکلمات الدّلیلیّة: أبونواس، رائدالشعرالخمرِي، الخمریات، مجالس الخمر.
المقدّمة
فی دراسة قصائد أبی نواس ننتبه بأنه لايمتاز بالمدح ولا بالهجاء ولا بغير هذه الفنون، بل إنّه يمتاز بشعره الخمري، واقترن ذكره بالخمرة وبقي اسمه ملازماً لها حتّى يومنا هذا. قيلَ: إنّه شاعر الخمر وقيل: إنّه مؤسس مدرسة الخمر، واعتبره الكثيرون زعيماً بلا منازع للخمريات في الأدب العربي، ولا شكّ في صحّة جميع هذه السمات، ولكنّ السؤال الذی یتبادر إلی الذهن هو: كيف ظّل زعيماً للخمريات مع أنّه لم يكن أوَّلَ من ابتكر هذا الفنّ في تاريخ الشعر الخمري؟ بل سبقه إليه کثیر من الشعراء فی العصور الجاهلیة والإسلامیة، ونافسه فيه كثير من معاصريه. إذا نتوغّل في الموضوع نجد أكثر من عاملٍ قد جعل من أبی نواس شاعرَ الخمر بلا منازع في الأدب العربي وزعيم القدماء والمحدثين. منها أنّه:
بلغت الخمرةُ عنده مرتبة كبيرة من التعظيم والتقديس، على حسب الظاهر، بحيثُ أنّه استطاعَ أن يخلق منها عالماً شعرياً يجسّد من خِلاله طاقته الروحية والإبداعيّة والفكرية، بحيث قد بيّنتْ خمرته عمق نظرته إلى الحياة والوجود والإنسانية، فيخلق بواسطتها عالماً جديداً متفّرداً بأفكاره وآرائه وبإمكاننا أن نسمّيه عالماً نواسيّاً. خمرته خمرة يمتزج فيها الإحساس بالفكر والروح، وتذوب فيها النفس شوقاً إلى الخلاص من المصائب والآلام. فيها صفات كلّ ما هوجميل ونقّى، تحنّ إلى الصور والأسرار وتتكلّم بالإيحاءات، فهي محرم الأسرار.
والثاني أنّه جعلها مرآة يرى من خلالها تحوّلات مجتمعه وتحوّلات العالم وجماله، كأنّها كأس الملك جمشيد الأسطوري. كما جعلها وسيلة لثورته وتمردّه على الأعراف الاجتماعية والسنن الشعرية. وأكثر من ذلك كانت وسيلة لتعامله مع الناس والتعايشُ بينهم، وفي تلك الحال كانت وسيلة لمحاربة القبح مع الإكثار في ذكر القبح. وكانت تعويضاً يستبدل به كلّ مايكرهُ بكلّ ما يحبّ، وتعويضاً عن الحرمان في ظلّ خلافة يدّعي الخلیفة بأنه خليفة إسلامية وينشر الصدق والصفاء مع أنه ناشر الكذب والرّياء. فلا شك في أنه زعيم الشعر الخمري، علي أنّه اتّخذ الخمرة مدخلاً إلى عالم المعرفة وعالم السياسة وعالم السعادة والجمال، ومخرجاً وحيداً من سجن المجتمع وسجن أعرافه وتقاليده وقيوده ومن مأزق الوجود.
إنّه اتّخذالخمرة رمزاً لتجسيد ما هوضدّه. يتكلّم عن لسان وسيلة محرّمة، ولكنها شائعة ومتداولة، لتبيين ما هوأخلاق، كما یری الدكتور طه حسين: «كان أبونواس إذن في هذا الشعر المخالف لِلأخلاق وأصول الفضيلة، محبّاً لِلأخلاق وأصول الفضيلة. كان يؤثّر الصدقَ وينكر الكذب» [1]
هذا هوبعض الخصائص لخمريات أبي نواس، الخصائص الّتي جعله زعيماً بلا منازع للشعر الخمري. ولا یهمّناأبداً أنّ أبانواس قد شرب الخمرة أم لم یشربها ولكنّنا نشكّ كثيراً فيما قيل عن مجونه وميله إلى التفحّش والتهتّك ونرفض بعد كلّ ما عرفناه عن أبى نواس مِن ممّيزات ، أن يكونَ ماجناً بالفعل أوعربيداً أومتهتّكا، الأمر الذی یؤیده أبونواس بقوله: «واللّه ما فتحتُ سراويلي لحرامٍ قطُّ». [2] وكما يقول عند الإجابة للجمّاز الذى يدعوه إلى التوبة: «يا أبا عبداللّه ما أشركت باللّه طرفة عين قطُّ». [3]
والواضح أنّ لشعره مظهرین: مظهراً ظاهرياً وعلنياً الذي يُساير ويرضى مجتمعه ولابدّ له أن يتّخده لتعايشه مع الناس، ومظهراً باطنياً يحسّد فكر أبي نواس وآفاقه الروحيّة والنفسيّه والسيّاسية والاجتماعية. المظهر الأوّل كان ستاراً لحفظ المظهر الثاني وفي الحقيقة اتخذ«التقيّة» بشكّل يخصّه ويخصّ القرن الثاني للهجرة، ومن الطبیعی أن یتخذ كلّ مناضل طريقاً خاصاً عند الشدائد أمام سلطة جور أوسلطان جائر، ولكّل شاعر ملتزم أسلوب خاص في التعبير عمّا يعتقده أویختلج فی ضمیره.
فليس شاعراً ملتزماً من لايعرف زمانه ولا يفهم حوائج مجتمعه ولا يدرك خصائص الدولة الّتي في ظلّها يعيش، وليس الشاعر الملتزم ذا ذكاوة إن لا يتَخذ وسيلة مألوفة عند الناس ومناسبة للعصر والمجتمع رمزاً لتبيين ما يريده ويتمنّاه. وهذا هوأبونواس، له استطاعة کثیرة وقدرة فنية خّلاقة استعملها بأحسن وجهٍ من الوجوه المألوفة.
خمرياته من حيث الشكل
درسنا الشعر الخمری قبل أبی نواس فی مقال منشور فی مجلة «دیوان العرب» وعلمناأنّ الشعر الخمري ليسَ من الموضوعات الجديدة، وقد عرف فی العصور الجاهلیة والإسلامیة والأمویة، ولکنّه لم یکن فنّا مستقلّا، بل إنّما الشعراء كانوا يقصدون إلى غرض أصلي وهو الفخر أو التمدحّ بالمحاسن والأخلاق الكريمة. والثاني هو أنّ الألفاظ المستعملة والمعاني المقصودة كانت متكررّة إلى حد كبیر، والشعراء الذین وصفوا الخمر أجادوا فيها بعض الإجادة ولم يكن وصفهم عميقاً بل كانوا يقنعون بالظواهر، يصفون أقداحها وأباريقها ومكان شرائها وصفاً مجملاً ويصفون طعمها عند المزاج بالماء وما تُثير من نشوة غير مبالغين في هذا الوصف ولا مسرفين في البحث عن الدقائق. ولكنّهم لم يبلغوا من الصقل والصفاء ما بلغه أبو نواس.
وأمّا الخمرة عند أبي نواس فی بدایة الأمر فکانت وسيلة للفخر، يبذل فيها الدُرَّ والياقوت ويفتخر بشربها وبإتلاف المال فيها ليدلّ على جوده وكرمه كما فعل طرفة بن العبد والآخرون، من الشعراء الجاهلیین. یقول أبونواس:
إني بذلتُ لها لمّا بصرتُ بها | صاعاً من الدُّر والياقوت ما ثُقِبا |
يا قهوة حُرّمت إلاّ على رَجُلٍ | أثرى فأتلفَ فيهاالمالَ والنشبا |
[4]
ولو يخلو من معنى جديد ولكنّه من ناحية الألفاظ رائعة جداً.
خمرته مشرقه منيرة دائما، تُضيء أينما وجدت في البيت أوالحانة کما یقول:
ترى حيثُ ما كانت من البيت مشرقا | وما لم تكن فيه مِن البيت مغربا |
يدور بها ساقٍ أغن تری له | على مُستدار الأذن صُدغا معقربا |
[5]
وهي بأضوائها وتلألؤها شمس:
قامت بإبريقها والليل معتكر | فَلاحَ من وجهها في البيت لالاءُ |
فأرسلتْ من فم الإبريق صافية | كأنّما أخذُها بالعين إغفاءُ |
جفّت عن الماء حتى ما يلائمها | لطافة ًوجفا عن شكلها الماءُ |
فلومزجتَ بها نوراً لمازَجَها | حتّى تولّدَ أنوارٌ وأضواءُ |
[6]
وهي كالورد وكعين الديك حمراء، وحين تختلط بالماء تفورُ، وتبدو فقاقيعها فوقها بيضاء كالحُبب أو حبّات الدُّرکما یقول:
وقهوة كجنيِّ الورد خالص | قدأذهب العتقُ فيهاالذامَ والرنقا |
[7]
وفى مكان آخر يشبه وثبة الفقاقيع بحركة الجراد في ظلّ المروج ویقول:
واشرب سُلافا ًكعين الديك صافيةً | من كفَّ ساقية كالرّيم حوراءِ |
تنزوفواقعها منها إذا مُزِجت | نزوَ الجنادب في مرجٍ وأفياءِ |
[8]
ويفتنّ في تصوير كؤوسها وأباريقها صورا ًفنيةً جميلةً أبدع خلقها وتكوينها ، ويقول في إبريقها وهو على صورة ظبى مشرف علی مكان عال:
كأنَّ إبريقنا ظبى على شرفٍ | قد مدَّ منه لخوف القانص العنقا |
[9]
وأحياناً هى كالكراكي تمدُّ برقابها الطويلة ورؤوسها الدقيقة:
لدينا أباريقُ كأنَّ رقابَها | رقابُ كراكيٍّ قد نظرنَ إلى صقرِ |
[10]
ويجمع الصورتين معاً في واحدة فيقول:
في أباريقَ من لُجَينٍ حسانٍ | كظباءٍ سكنَّ عرضَ القفار ِ |
أوكراكٍ ذُعِرنَ من صوتِ صقرٍ | مفزعاتٍ شواخص َالأبصار ِ |
[11]
وتصبّ الخمر في الأباريق وفي الكؤوس، وهى بيضاء زجاجية أومن نحاس مصّور عليه صورة الأكاسرة أوصور الحيوان:
والكوبُ يضحك كالغزال مسبّحا | عند الركوع بلثغة الفافاء ِ |
وكأنَّ أقداح الزجاج إذا جرت | وسطَ الظلام، كواكبُ الجوزاء ِ |
[12]
وفي مكان آخر يقول:
فحلَّ بزالُها في قعرِ كأس | مُحفّرة الجوانب والقَرار ِ |
مصوّرةٍ بصورة جند كسرى | وكسرى في قرار الطّرجهار ِ |
وجلُّ الجندِ تحت ركاب كسرى | بأعمدة، وأقبيةٍ قِصار ِ |
[13]
ويعرض هذه الصورة في شكل آخر ويقول:
تُدارُ علينا الراحُ في عسجدّية | حبتها بألوانِ التصاوير فارسُ |
قرارتها كسرى، وفي جنباتها | مَهَا تدَّريها بالقسىِّ الفوارسُ |
[14]
إنه يصف زوراته للحانات فى قُطْرَبُل أوغيرها من أماكن اللّهووالشراب في ضواحى بغداد. تكون زورته غالباً بالليل والناس نيام. إنّه يدبُّ وحدُه أومع بعض أصحابه، فيطرق باب صاحب الحانة، وهونصراني حيناًويهوديا ًأحياناًّ، فيجيبهم هوأوتُجيبُهم ابنته ويتوجسّ من الطارقين أوّل الأمر، ثم لايلبث أن يطمئن إليهم لِأنّه يعرف فيهم زبائنهم الّذين اعتادوه، واعتادوا أن يقدّموا المالَ في سبيل الخمر ولا يبخلون، فيجود لهم بأحسنها کما یقول:
وفتيةٍ كنجوم الليلِ أوجُهُهُم | مِن كلِّ أغيدَ لِلغمّاء فرّاجِ |
أنضاءِ كأسٍ إذا ما اللّيل جنَّهُمُ | ساقَتْهم نحوَها سوقا بإزعاج |
طرقتُ صاحبَ حانوتٍ بهم سحرا | واللّيل مُنسَدل الظلماء كالسّاجِ |
لمّا قرعتُ عليه البابَ أوجَلَه | وقالَ بينَ مُسِرَّ الخوف والرّاجى: |
«من ذا؟» فقلتُ: «فتى نادته لذّتُه | فليسَ عنها إلى شىء بمُنعاجِ |
افتح» فقهقه من قولي وقال: | «لقد هيّجتَ خوفي لِأمرٍ فيه إبهاجي» |
[15]
وفي مكان آخر يقول:
يا رُبَّ منزل خمّار أطفتُ به | واللّيلُ حُلّتُه كالقار سوداءُ |
فقام ذووفرةٍ من بطن مضجعه | يميل من سكره والعينُ وَسناءُ |
فقال: «من أنت» في رفقٍ فقلت له: | «بعض الكِرام» وَلي في النعتِ أسماء |
قلتُ: «إنّي نحوتُ الخمرَ أخطبها» | قال: «الدراهَم»هل لِلمهر إبطاءُ |
لمّا تبيّن أنّي غيرُ ذي بُخَلٍ | وليسَ لي شُغُلٌ عنها وأبطاءُ |
أتى بها قهوة كالمسكِ صافيةً | كدمعةٍ منحتْها الخدَّ مرهاءُ |
[16]
أو في قصيدة أخرى يقول:
وخمّارةٍ لِلَّهوفيها بقيّةٌ | إليها ثلاثا نحوحانتها سرنا |
ولِلّيل جلبابٌ علينا وحولَنا | فما إن ترى إنساً لَديه ولا جنّا |
يُسايرُنا، إلاّ سماءً نجومُها | مُعلقّة فيها، إلى حيثُ وجّهنا |
إلى أن طرقنا بابَها بعدَ هجعةٍ | فقالتْ: من الطُّرّاق؟ قُلنا لها: إنّا |
شبابٌ تعارفنا ببابكِ لم نكن | نَروحُ بما رُحنا إليكَ فأدلَجنا |
فإن لم تُجيبينا تبدّدَ شملُنا | وإن تجَمعينا بالوِداد تواصلنا |
فقالتْ لنا: أهلاً وسهلاً ومرحبا | بفتيانِ صدقٍ ما أرى بينَهم أفنا |
فقلتُ لها: كيلاً حسابا مقوّما | دواريقُ خمرٍ ما نقصنَ ومازِدنا |
فجاءت بها كالشّمس يحكي شعاعُها | شُعاعَ الثُّريّا في زُجاجٍ لها حُسنا |
[17]
إنه يصوّر السّاقية أوالساقي ولباسه وزينته فی مجالس الخمر. تتشكّل هذه المجالس غالباً في وسط الرياض أو تحت ظلام الكروم. قد اشتهرت قُطرُبلُّ والكرخُ وطيزناباذ وأماكن أخرى بشراء الخمر كما يذكرها في أبياته:
قُطرُبلٌّ مربعي ولي بقُرى الكَر | خِ مصيفٌ وأمّي العنبُ |
تُرضِعُني دُرَّها وتلحفني | بظلِّها، والهجيرُ يلتهبُ |
[18]
أويقول:
ومجلس خمّارٍ إلى جنب حانةٍ | بقطر بُلَّ بين الجَنانِ الحدائق |
تجاهَ ميادينٍ على جَنباتها | رياضٌ غَدَّتْ محفوفةَ بالشقائق |
[19]
ويقول في مكانٍ آخر:
فإنَّ جنان الكرخ مونقة | لم تلتقفها يدٌ لِلحرب عسراءُ |
[20]
وَهو يمزج بين جمال الربيع وجلوته في إبانة ونشوة. فقال في وصف الورود والرّياحين:
لا تخشَعنَّ لِطارقِ الحدثانِ | وادفع همومكَ بالشّراب القاني |
أَّوَ ما تَرى أيدى السحائب رَقَّشَتْ | حُلَلَ الثَرى ببدائع الريحانِ ِ |
من سوسنٍ غضِّ القِطاف، وخُزَّمٍ | وبنفسَجٍ، وشقائق النُعمانِ ِ |
[21]
ويصوّر الساقي في هذه البساتين ويقول:
ونحنُ بين بساتين فتنَفحُنا | ريحَ البنفسَج لا نشَر الخُزاماء |
يسعى بها خنِثٌ في خُلقِه دَمث | يستأثرُ العينَ في مستدرج الرائي |
مقرّطٌ وافرُ الأرادف، ذوغُنُجِ | كأنَّ في راحتيه وسمَ حِنّاء |
قد كسَّرَ الشَعَر واواتٍ، ونضَّدَهُ | فوق الجبين، وردَّ الصُدغَ بالفاء |
عيناه تقسم داءً في مجاهرها | وربّما نفعتْ من صولة الدّاء |
[22]
وفي وصف الساقية یقول:
وذات وجهٍ كان البدرُ حلَّ به | يهدي لك الوردُالعدوُ والتُّفّاح خداها |
مطموحة الشعر في قمص مزرّدةٍ | في زىّ ذي ذكر سيّما وسيماها |
فلويراها غلامٌ يلمحها | عضّ الأنامل لَولا اللحظَ أوماها |
[23]
أو:
واشرب سلافاً كعين الديك، صافيةً | من كفّ ساقية كالّريم، حوراء |
[24]
والخمرة عنده عذراء تزفّ إليها ومهرها غالٍ وهي كريمة، لايخطبها إلاّ الكرام:
يا خاطب َالقهوة الصهباء يمهرهابالرّطل يأخُذُ منها مِلأهُ ذهباقصّرتُ بالرّاح فاخدر عن تسمعهافيحلفُ الكرمُ أن لا يحمل العنبا قالت: «فمن خاطبى هذا؟» فقلتُ: أناقالت: فبعلي؟ قلتُ: «الماءُإن عَذُبا»
[25]
أو:
وقلتُ: إني نحوتُ الخمرَأخطبهُا:...» | قال: «الدراهَم!هل للمَهرإبطاءُ» |
[26]
وحينَ يشرِ بُ الخَمر من الكأس يحسُّ بأنه يقّبل حبيبته التي يزهر وجهُها كالنجم أوالبدر:
فجوّزها عنّي عُقارا ترى لَها | إلى الشَّرف الأعلى شعاعا مُطَنّبا |
إذا عبّ فيها شارب القوم خلتَهُ | يقبّل فى داجٍ من الليل كوكبا |
[27]
ولم يقف عند هذا الحدّ بل رأى في الخمرة شيئا كبيراً من الإجلال، يبلغ ذروة التقديس أحياناً حيث يقول:
أثنِ ِعلى الخمر بآلائها | وسمّها أحسن َأسمائها |
لا تجعل الماء َلها قاهرا | ولا تُسلّطها على مائها |
والخمرُ قد يشربها معشر | ليسوا، إذا عُدّوا، بأكفائها |
[28]
فالخمرة عنده كلّ شى، يصفها بنعوت مختلفة ويعّبر عنها بأشكال متنوعة. فهذه الخمرة خمرة جديدة في الشكل وفي المعنى. نكتفى بهذا المقدار من دراسة خمرياته من حيث الشكل وسنعالجعها من حیث المضمون فی مقال یلی هذا المقال.
النتيجة
بعد معالجة خمريات أبي نواس من الناحية الشكليّة يتّضح لنا أنّه استخدم الخمرة فی بدایات أمره وسيلة للفخر يفتخر بشربها ويتلف المال فيها ليدلّ علي جوده وكرمه كما يفتخر الشاعر الجاهلي. ولكنّها من ناحية الألفاظ رائعة جداً بحيث لايمكن مقارنتها بخمريات الشعراء الجاهليين. خمرته مشرقة منيرة تضيء أينما وجدت في البيت أوالحانوت. هي بأضوائها وتلألؤها كالشمس وهي كالورد وكعين الديك حمراء وحين تختلط بالماء تفور وتبدوفقاقيعها فوقها بيضاء كحباّت الدرّ. إنّه یشبه الفقاقيع في وثبتها بحركة الجراد في ظلّ المروج. في تصوير الكوؤس والأ باريق يخلق صوراً فنية جمیلة، يشبهها بظباء مشرفة علی مكان عال، وأحياناً هي كالكراكي لها رقاب طويلة ورؤوس دقيقة. إنه يصف الأماكن الّتی تباع فيها الخمر ويشرح كيفية ذهابه إليها وحده أومع أصدقائه ويطرق باب صاحب الحانة وهونصرانيّ حيناً ويهودياً حيناً آخر، يجيبهم أوتجيبم إبنته ويتوجّس من الطارقين في أول الأمر ثم يطمئنّ بأنهم من الزبائن ويسرفون أموالهم في سبيل الخمرة. إنه يصوّر مجالس الخمر بأحسن صورة، يصور الساقية ولباسها وزينتها وحركاتها وجمالها وأجزائها الجسدية وحالاتها الروحية وكيفية نظرتها إلی الحاضرين. تتشكل المجالس عادة في وسط الرياض أوتحت ظلام الكروم. يمزجُ جمال الأزهار والرياحين بجمال الساقية في البساتين. وحين يشرب الخمر من الكأس يحسّ بأنه يقبّل حبيبته التي يزهر وجهها كالنجم أوالبدر، والخمرة عندها عذراء تزفّ إليها ، ومهرها غال وهي كريمة لايخطبها إلّا الكرام.
المصادر والمراجع:
– القرآن الكريم.
– ابن عساكر: التاريخ الكبير، لا ط، مطبعة الروضة، الشام، 1332ه. ش.
– ابن منظور، محمد بن مكرم: أخبار أبي نواس، الطبعة الثانية، دار الفکر للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 1995م.
– البستاني، فؤاد إفرام : المجاني الحديثة، الطبعة الثانية، المطبعة الكاثوليكية، بیروت1972م.
– حسين، طه: حديث الأربعاء، الطبعة الثانية عشرة، دار المعارف، القاهرة، 1976م.
– نجيب عطوي، علي : خمريات أبي نواس، الطبعة الأولی، دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر ، بیروت، 1986م.
مشاركة منتدى
5 شباط (فبراير) 2014, 12:30, بقلم نور بن نور
معنى الزهديات في شعر ابي العتاهية
16 شباط (فبراير) 2014, 18:50, بقلم rabeb
تحليل وتقديمها وموضوعه وتقسيم مقاطعه قصيدة الخمر وطبيعة الأبو نواس من ديوانه خمرية
30 أيار (مايو) 2016, 17:54, بقلم حازم
يا أخي لا تنشروا حي الله عمل أرسل لكم
30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016, 10:49, بقلم ربيعة و منيرة
زيادة في المعلومات
30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016, 10:52, بقلم ربيعة و منيرة
الخمرة
لابو نواس