من كتاب «طرائف الذكريات» المعدّ للطبع
عشاء مع مؤنِسِ الملك الحسن الثاني
أ ـ يكتشف فيه عدم حفظي للشعر العراقي
حوالي سنة 2000 دعاني صديقي الدكتور أحمد شوقي بنبين لتناول طعام العشاء مع والده الفقيه الحاج محمد بنبين (1918ـ 2008). وهو شخصية مرموقة مشهورة لكونه أديباً شاعراً، وقاضيَ القصر الملكي، وأستاذاً في المعهد المولوي، وكان مؤنِسَ عاهل المغرب الملك الحسن الثاني، لأكثر من ثلاثين سنة.
ويتحلّى صديقي الدكتور أحمد شوقي بنبين، الذي ولد في مدينة مراكش سنة 1946، بدماثة خُلق وغزارة علم؛ فقد درس علم المخطوط في الجامعات الفرنسية ونال أعلى الشهادات الأكاديمية، وعاد إلى المغرب ليدرِّس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. وألّفَ كُتباً علميةً عديدة أعيدت طباعتها أكثر من مرّة، أهمُّها: "تاريخ المكتبات في المغرب" باللغة الفرنسية (1992) الذي ترجمه مصطفى الطوبي إلى اللغة العربية (2002)، وكتاب " دراسات في علم المخطوطات (الكوديكولوجيا)" (1993) وهو من الكتب العربية القليلة في علم المخطوط. كما حقَّق ونشر عدداً من الكتب الهامَّة مثل كتاب " تاريخ المكتبات الإسلامية ومَن ألّفَ في الكتب" للشيخ عبد الحي الكتاني (1882 ـ 1964)، وكتاب " دور الكتب في ماضي المغرب " للمؤرخ محمد المنوني (1915 ـ 1999) ، وكتاب "الدر الثمين في أسماء المصنفين" للبغدادي علي أنجب بن عبد الله المعروف بابن الساعي (593ـ 674هـ) الذي عاصر سقوط بغداد على يد المغول سنة 656هـ/ 1258م..
ومما يسَّر للدكتور أحمد شوقي بنبين نجاحه في مؤلَّفاته وتحقيقاته، تخصُّصه الدقيق، وممارسته التعليم الجامعي، ثم عمله مديراً للخزانة (المكتبة) الحسنية في القصر الملكي بالرباط، ما أتاح له الاطلاع على أنفس المخطوطات. وأخيراً إخلاصه التام لتخصُّصه، الذي يمحضه كلَّ وقته ولا يُشرِك تخصُّصاً آخر فيه.
اصطحبني الدكتور أحمد شوقي بسيارته إلى منزل (فيلا) والده الكائن في حي السويسي بالرباط، وعندما دخلنا قاعة الاستقبال ألفينا عددا من المدعوين الذين سبقونا، فتكرَّموا بإفساح المكان لي للجلوس بجانب الفقيه الحاج محمد بنبين، لا بدافعٍ من الكرم المغربي الأصيل فحسب، بل ربّما كذلك لأنني كنتُ أحضر مجلس الفقيه لأوَّل مرة.
تفضَّل الفقيه بنبين بالترحيب بي قائلاً:
ـ مرحباً بك يا ابن الرافدين. أخبرَني ولدي أنَّكَ من أدباء العراق.
ـ شكراً سيدي. أنا من طلاب الأدب، إنْ شئتم.
هنا سألني الفقيه:
ـ كم تحفظ من شعر الرصافي؟
قلتُ بكثيرٍ من الخجل:
ـ بيتاً أو بيتين.
ـ ومن ديوان الزهاوي؟
ـ بيتاً أو بيتين.
ـ ومن ديوان الجواهري؟
ـ بيتاً أو بيتين.
هنا قال الفقيه:
ـ أنا أحفظ دواوينهم كاملة. هل تريدني أن أتلو أحد هذه الدواوين أو غيرها؟
ـ لا، شكراً سيدي. لقد سمعتُ بموهبتكم الربانية وبذاكرتكم الأسطورية. وكنتُ قد قرأتُ تلك الدواوين أكثر من مرَّةٍ ولم أحفظ أياً منها. وإذا تلوتَم أيَّ ديوانٍ عليَّ، فلن اتمكَّن من حفظه. ولكني أودَّ أن أغتنم هذه المناسبة الجميلة لأسألكم عن موضوع آخر.
فالفقيه الحاج بنبين من العلماء الأدباء الذين يمتلكون ذاكرةً فوتوغرافية. فهو يكفيه أن يقرأ الديوان مرَّةً واحدةً ليحفظه كاملاً. ويخبرنا علم النفس أنَّ هذا النوع من الذاكرة يولد مع الإنسان، فهو موهبة طبيعية يمتلكها عددٌ قليلٌ جداً من الناس، ويمكن المحافظة عليها وتنميتها بالمران.
والفقيه الحاج بنبين شاعرٌ مُجيدٌ مولعٌ في حفظ أشعار العرب ومعرفة أخبار شعرائهم، حتى إنه أسمى أحد أولاده باسم أمير الشعراء (أحمد شوقي)، وهو صديقي الدكتور أحمد شوقي بنبين. فاسمه الأول مركب (أحمد شوقي). وقد درس الحاج محمد بنبين بالجامعة اليوسفية في مراكش على كبار علماء المغرب وأدبائها مثل العلامة المختار السوسي، وشاعر الحمراء محمد بن إبراهيم، والعالِم الفاروق الرحالي.
وقبل ثلاث سنوات من انتقال الفقيه الحاج بنبين إلى جوار ربه، أقامت مدينة مراكش ندوة لتكريمه، تبارى الأدباء والشعراء بنظم قصائد المديح في شخصه الكريم. وتشرَّفتُ بالمشاركة في الندوة بدراسة عن " الشعر والتصوف" لأنَّهما اجتمعا في شخصية الفقيه. وقد نُشِرت أعمال هذه الندوة في كتابٍ عنوانه " يراع الذاكرة وأغاريد الزمان: أعمال مهداة إلى العلامة محمد بنبين".
ب ـ الشاعر محمد مهدي الجواهري
وقصيدته الخليعة التي أحرجته أمام ثلاثة ملوك
في مأدبة العشاء تلك، سألتُ الفقيه الحاج محمّد بنبين، مؤنس الملك الحسن الثاني، عما سمعته عن استقبال الملك الحسن الثاني (1929 ـ 1999) عاهل المملكة المغربية ( 1961 ـ 1999) للشاعر محمد مهدي الجواهري (1899 ـ 1997) في أحد مجالسه الخاصة، وكان الفقيه حاضراً.
قدِمَ الشاعر محمد مهدي الجواهري إلى المغرب سنة 1974 للمشاركة في تأبين الزعيم المغربي علال الفاسي (1910ـ 1974) رئيس حزب الاستقلال. وقد لقي ترحيباً وحفاوةً ملحوظيْن. واعتنى به بصورة شخصية وزير الدولة للثقافة الحاج محمد باحنيني، أحد كبار أدباء المغرب، وأستاذ الملك الحسن الثاني عندما كان في المدرسة، ثم أستاذ ولي عهده الملك محمد السادس عندما كان تلميذاً في المدرسة المولوية.
أخبرني الفقيه الحاج محمد بنبين أنَّ الشاعر الجواهري قد استُدعي ذات يوم لحضور مجلس الملك الحسن الثاني. وكان الملك الحسن الثاني من المولعين بالآداب والفنون، المغرمين بمجالسة العلماء والأدباء، لدرجة انه يستقبل في شهر رمضان عدداً من العلماء من جميع أنحاء العالم، يلقي كلُّ واحدٍ منهم درساً قبل فطور كل يوم في القصر الملكي بالرباط، يحضره الملك وأبناؤه وكبار رجال الدولة. ويُطلَق على هذه الدروس التي استمر ابنه الملك محمد السادس في تنظيمها، اسم "الدروس الحسنية".
وبعد حضور الجواهري المجلس الخاص للملك الحسن الثاني (وليس الدروس الحسنية الرمضانية)، خاطبه الملك بقوله:
ـ أتعلم يا أستاذ جواهري أن مِن المغاربة مَن يحفظ بعض أشعارك؟
قال الجواهري:
ـ هذا شرف لي، سيدنا.
قال الملك:
ـ بيننا الفقيه بنبين مِن الذين يحفظون بعض شعرك.
قال الجواهري، الذي كان يُلم بآداب مخاطبة الملوك، لأنه اشتغل مدةً في ديوان الملك فيصل بن الحسين (1883 ـ 1933) عاهل العراق (1921 ـ 1933):
ـ هل يأذن لي سيدنا أن أسأل حضرة الفقيه أية قصائد يحفظها لي؟
أجاب الفقيه الذي لم يكن في حاجة لطلب الإذن في الكلام من الملك، لأنّه مؤنسه:
ـ الديوان كلّه. (ويستغرق ديوان الجواهري أربعة مجلَّدات كاملة)
هنا قال الملك موجهاً كلامه للفقيه:
ـ اقرأ لنا قصيدة من قصائد الديوان.
وقع اختيار الفقيه على قصيدة " جرّبيني" للجواهري، وذلك ليؤنس الملك، فهي قصيدةٌ ماجنة ٌ داعرةٌ من الطراز الأوَّل نظمها الجواهري في شبابه في أكثر من خمسين بيتاً، ونشرها في جريدة بغدادية باسم مستعار هو "ابن سهل" سنة 1929؛ وراح الفقيه يُلقيها بصوته الجهوري وأسلوبه الخطابي المتفرِّد، ومطلعها:
جرِّبيني مِن قبل أن تزدريني
وإذا ما ذَممتني فاهجريني
ويقيناً ســتـندمينَ على أنَّكِ
من قبلُ كنتِ لم تعرفيني
وفي هذه القصيدة أبياتٌ لا تتسق مع الأعراف الدينية، مثل قوله:
أنا ضدُّ الجمهور في العيشِ والتفكيرِ طُرّاً، وضدُّهُ في الدينِ
كما تشتمل على أبياتٍ خليعة مثل:
اسمحي لي بقبلةٍ تملِكيني ...
ودعي لي الخيارَ في التعيينِ
قربيني من اللذاذةِ ألمسها...
أريني بداعةَ التكوينِ
أنزليني إلى "الحضيض" إذا ما شئتِ أو فوق ربوةٍ فضعيني
كلُّ ما في الوجودِ من عقباتٍ ...
عن وصولي إليك لا يثنيني
عندما انتهى الفقيه من قراءة القصيدة، شعرَ الجواهري بكثيرٍ من الحرج أمام الملك الحسن الثاني، فقال بلهجة اعتذار:
ـ سيدنا! حتى أنا لا أحفظ هذه القصيدة.
وكانت هذه القصيدة قد سببت له حرجاً آخر، عند نشرها أوّل مرّة، مع ملكيْن آخريْن هما الملك فيصل الأول عاهل العراق، ومع أخيه الشريف علي بن الحسين ( 1879 ـ 1935) ملك الحجاز (1924 ـ 1925)، إذ يحدثنا الجواهري في كتابه "ذكرياتي" الذي دوَّنه في شكلٍ أقرب إلى الاعترافات، ونشره في مجلديْن وهو في التسعين من عمره، فيقول:
(في الصباح استدعاني الملك فيصل، واستفسر إن كنتُ قد نشرتُ قصيدةً اليوم بعنوان " جربيني"، قلتُ له:
ـ "لو سألني غيرُكَ يا سيدي، لكنتُ قد نفيت أن أكون ابنْ سهل والقصيدة موقعة باسمه، ولكنّي وأنا تجاه مقامك الرفيع فليس في وسعي إلا أن أقول نعم أنا صاحبها".
قال:
ـ "طيب، اذهب".
ورجعتُ إلى مكاني، وكما جرت العادة، لم يكن لي مَن ألوذ به غير رستم حيدر (1989ـ1940) [ لبناني ثم عراقي، وزير ومدير ديوان الملك، عمل معه عندما كان ملكا في دمشق، والتحق به عندما أصبح ملكاً في بغداد]. قصدته، وقلتُ له ها أنا ذا أزور مَن شجعني على نشر القصيدة والتي استدعاني من أجلها سيدنا الملك وسألني عنها، وفي هذا ما تعرفه من حراجة لي. فأجابني: "لا يهمك، عُد إلى مكانك."
عدتُ إلى غرفتي التي تطل على غرفة الملك، ورأيتُ، منها، رستم حيدر، يدخل عليه ثم يخرج منه بسرعة، فهمتُ جلية الأمر وانتظرتُ قليلاً. استدعاني بعده الملك ثانية فوجدته قد وضع نظارته، والقصيدة بين يديه متطلعاً إليها بدقة. قال:
ـ "محمد، هذه قصيدة حلوة، وشيء جميل"
قلتُ:
ـ " شكراً، سيدي، لقد خفتُ من غضبك "
قال:
ـ " لا أبدا، القصة كما يلي: صباح اليوم هتفَ إليّ أخي الملك علي ـ وأنا أحترمه كما تعلم فهو أكبر مني وهو رجل متديّن متعبّد ـ وكان غاضباً وقال لي اقرأ الجريدة لتجد ماذا فعل ابنك محمد. لهذا السبب استدعيتك. كلُّ ما أطلبهُ منك أن تذهب إلى أخي فتزوره وتعتذر منه".
قلتُ:
ـ "أمرك مطاع وتشريف لي أن أزوره".
(رتّبتُ نفسي، تهيأت، ثم ذهبتُ إليه. كانت تلك زيارتي الأولى والأخيرة له ووجدتُ في مجلسه الشخص الوحيد والذي حدستُ منه ما كان من أمر حدسي بعبد الله المضايفي، فيما بعد، من أنه وهو في هذه المرة، " يوسف العطا" مفتي بغداد والملازم للملك علي، والمحرِّك له.)
(سلَّمتُ وجلست، فأبدى تظاهره بعجبه من زيارتي، فأجبته:
ـ "يا جلالة الملك، لقد كان ذلك مني توفيرا لأوقاتكم الثمينة، والآن فقد جئتكم معتذراً، بعد أن سمعتُ أنكم غاضبون عليّ بسبب خاطرة بريئة. وصادقاً أقول إن صاحب " جربيني" ابن سهل كان بريئاً فعلاً ولم يتعرّف إليها
ولم يتمثَّل محاسنها فضلاً عن أن يجرِّبها أو تجرِّبه"
قال:
ـ "والله يا فلان، إن غضبي عليك في محلِّه. فأنت بن الشيخ صاحب الجواهر، ومن عائلة الفقهاء والعلماء المتديّنين، وقد فوجئتُ أن تجيء بمثل ما جئتَ به في القصيدة."
قلتُ متهرباً:
ـ "إنها يا سيدي زحمة من الخواطر الطارئة عليَّ لا أدري على أيِّ واحدة منها تؤاخذني؟"
قال:
ـ "صحيح خواطر عديدة، كثيرة المآخذ، ولكن أشدّها ـ ضدهم في الدين ـ " ويريد بذلك البيت الصارخ بحقّ:
أنا ضدُّ الجمهور في العيشِ والتفكيرِ طُرّاً، وضدُّه في الدِّينِ
لقد كنتُ في الذروة من الخوف والقلق أن يعدّد عليَّ الملك علي ما لا يُحصى في القصيدة من أكثر من مأخذ هو أكثر من نشاز على المجتمع العراقي وعلى تقاليده وأعرافه، ...
قلتُ:
ـ "وكل رجائي سيدي قبولك عذري"
فأجابني:
ـ "أجل، شريطة أن لا تعود لمثلها."
خرجتُ من عنده وأنا أقسم، بالطارق والنجم الثاقب، أن أعود، وأعود، ثم أعود، وأن أضحي بألف ألف وظيفة في سبيل أن أعود. وقد عدتُ بعد ذلك بقليل وعوداً أحمد، أي بما لا يقلُّ إن لم يزد على "جربيني" أي "النزغة" أو " ليلة من ليالي الشباب".)
والعجيب في الأمر ـ كما يذكر الجواهري نفسه في كتابه "ذكرياتي" ــ أنه كان ينشر ذلك النوع من القصائد، بل أكثر من ذلك كان يرتاد الملاهي الليلية في بغداد حينما كان يعمل في البلاط الملكي في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، وهو يرتدي جبّته وعمّته، ملابس رجال الدين من حوزة النجف العلمية، ويسكر ويعربد مع شلةٍ من السكارى العابثين في تلك الملاهي. وهكذا يكون كتابه أقرب إلى الاعترافات منه إلى الذكريات.
وكنتُ قد كتبتُ مقالاً عن كتاب الجواهري "ذكرياتي" بعنوان "الشاعر والملك" ضمَّنته في كتابي "العراق في القلب: دراسات في حضارة العراق".