لماذا أكتب؟!
في تلك الليلة لم يستطِع سليم النوم، فقد داهمته رغبة الكتابة.
لا تسأليني، يا أثيرة، كيف أكتب؛ وهل يُسأَل الزهر كيف يعبق شذاه؟ وهل يُسأَل الطير عن طيرانه؟ إنّه يجد جناحيه يرفرفان بعد أن ينبت لهما ريش. وأنا ألفيتُ نفسي أكتب ذاتَ يومٍ دون أن أعرف السبب.
كنتُ كلّما تحدَّثتُ معكِ، يا أثيرة، تبرعمتْ في روحي رغبةُ الكتابة مثل زهرةٍ ربيعيَّة، وتموسقتْ في مسمعي كلماتٌ لم تُنطَق من قبل، وحلّق في فكري الشوق، مثل سُنونوة مهاجرة في فصلِ الربيع، لعناق القلم. حتّى لو كنتِ صامتةً مطرقةً أثناء لقائنا، كنتِ تفجِّرين فيَّ تلك الرغبة الجامحة في الكتابة مثل ينبوعٍ جبليٍّ. كانت حاجتي إليكِ حاجةَ المزمارِ للهواء، وحاجةَ النغمِ للوتر.
يقولون إنَّ الكتابة كالحبيب المتسلِّط الغيور الذي يدمِّر كلّ مَن سواه وما عداه. ولكنَّ الكتابة عندي وصيفةٌ مسخَّرةٌ لإرادتكِ، وفيَّةٌ لذكراكِ. تأتي بعد ابتسامةٍ منكِ، فتحمل صورتكِ إلى ناظري، وتُجري حروفَ اسمكِ على قلمي. الكتابة منكِ ولأجلكِ، ولم تكُن غريمتكِ أبداً. أستسلم لهاجسِ الكتابة الذي يداهمني وأنا مخدّر معدوم الإرادة كأنَّني أستسلم لهمساتكِ، للمساتكِ، لسحركِ أنتِ. يداهمني هذا الهاجس المستبدُّ كيفما شاء وحيثما شاء؛ طوراً بعد منتصفِ الليل فيسلبني النوم، وطوراً وأنا في رفقة الآخرين فيحرمني صحبتهم. إنَّه كالقدر لا يُرَدُّ، وكالطُّوفان لا يقف في وجهه سدُّ.
لم أَكُن أنشر ما كنتُ أكتب. لا جدوى من ذلك. في وطني كنتُ أكتب في فتوتي لكي يقرأني أهلي وأصدقائي ومعارفي، فأشعر بالفخر. أَمّا في الغربة، فأَنا أَلجأُ إلى الكتابة عندما يُمسي عالمي حزيناً يستحيل العيش فيه. فأكتب لكي أعيد تشكيل العالم حولي بقوَّة القلم. يُسكرني حفيفُ الحرف فألوذ بالخيال وأحتفي بحياةٍ لا علاقةَ لها بالواقع. قلمي كان معولي أقطع به الأسوار، أهدّها، أهدمها، لأنطلق في الفضاء الرحب. ولكن لا داعي لنشر ما أكتب. لماذا أنشر في الغربة؟ لا أستطيع أن أُطلعك على بَوحي. ولا يعرفني أحد من القراء في بلدكِ. فأنا مجرَّد غريبٍ عابر أو ضيفٍ مسافر. وما يُكتَب في قطرٍ عربيٍّ لا يصل إلى الأقطار الأخرى إلا لماماً، تصدُّه الحدود والقيود مثل سلعةٍ مهرّبة، مثل بضاعةٍ محرّمة، مثل عارِ ينبغي طمسه.
بعدما غادرتُ وطني، لم أكُن أكتب للنشر، بل لكي أكسر الطوق من حولي، وأخرج من عزلتي، وأتواصل مع الذين بعدوا عني أو بعدتُ عنهم، ولكنَّهم مكثوا في وريدي. أكتب في محاولةٍ يائسةٍ لأعيد بكلماتي الواهية عالماً خلّفته ورائي؛ أكتب لعلَّني بحروفي العليلة أستطيع أن أعيد بناء وطنٍ فقدتُه بحماقة وجُبن؛ أكتب كي أقترب من نفسي، أغوص في أعماقها، أُحسُّ بوجودي، أَتنفَّس نسيم الأفكار حولي؛ أكتب كيما أبني بحروفي الرهيفة خميلةً وارفةً احتمي بظلالها من هجير الغربة وعَسْف الترحال الدائم... ليس المهم أن يقرأني الآخرون، فمتعتي الحقيقيَّة تكمن في فعل الكتابة ذاته. ففي الكتابة تكتسب الأشياءُ حولي بُعداً رابعاً، وينضاف إلى كياني حسٌّ سادسٌ، فأصوغ نفسي من جديد، وأشكِّل عيني ولساني ومن خلالهما أشكِّل العالَم من حولي؛ أُبدع عالماً جديداً ألوذ به، أداري فيه خيبتي، وأعوّض عن عجزي تجاهكِ. في الكتابة أتخلَّص من سجني ومنفاي، فأستعيد حرِّيَّتي وأمارس إنسانيَّتي. ولكنَّ كثيراً ما يشنقني الحرف وترجمني الكلمات.
تحلّق كلماتي بلا أجنحة في فضاء الحُلم، تخترق غيوم َالأعالي، تستحمُّ في مياه الأمطار قبل أن تولد، تغسل عن ريشها غبار الدلالات البالية، تقترب من النجوم فتتجمل ببريقها، ثمَّ تحطُّ على القمر بكامل زينتها لتغفو على تخومه. ويبقى الأمل يراودني أنَّني بعد رحيلي الوشيك من هذا العالم ستعود كلماتي هابطةً من القمر إليه، نابضةً بالحياة، لتمارس عملية الخلق بعد أن كانت مخلوقة.
يهطلُ الألمُ غزيراً في فيافي القلب، حتّى تفيض به جميع أنحائه، وترتفع درجةُ حرارةِ الضياع في أعماق الروح، فأحاول أن أُسطِّرَ الألمَ على الورق، وأبثَّ الحُمّى بين السطور، في محاولةٍ لإرقاءِ النزيف الداخلي وتخفيض سخونة الأحاسيس. أحفر قبراً لحروفي وكلماتي، ألحدها فيه حتّى يعثر قارئٌ مجهولٌ عليها يوماً ما فيبعثها حيَّةً من مرقدها، وقد تغيَّرتْ ألوانُ سحنتها على شفتَيه، وتبدَّل رنينها على مسمعيه.
عندما كنا نلتقي في اليوم التالي، كنت تنظرين إلى عينَيَّ وتقولين: " دكتور سليم، لا شك في أنَّك أمضيتَ سهرةً مثيرة، فآثارها في عينَيكَ المُحمرَّتَين." فأعتصم بالصمت. ثمَّ يثير صمتي شكوككِ فتسألين: " مع مَن أمضيتَ السهرة؟" فأجيب وابتسامةٌ ساخرةٌ على شفتَيّ: " معك، يا أثيرة.". ويظهر شبحُ ابتسامةٍ على شفتَيكِ، ابتسامة يجهضها الحزن في عينيكِ، والقنوط في خديك. كنتِ لا تجودين بأكثر من ابتسامة في أحسن الأحوال. كنتِ تتجنبين الضحك، تهابينه، تمجينه، لا أدري، ولكن لم أَحظَ يوماً منكِ برنينِ ضحكةٍ تنطلق من رئتَين واسعتَين أو من حنجرةٍ صافية، كأنَّكِ والضحك في خصام. ولكن لماذا ألومك على ذلك في حين أنا نفسي لم أَكُن قادراً على الضحك منذ أن فارقتُ بلدي، وأمسيتُ أعجب ممَّن يستطيع أن يضحك، وأتساءَل في نفسي: " يا تُرى ما الذي أضحكه؟". لم أَنتبه إلى أنّني كنت عاجزاً عن قول شيءٍ مضحكٍ لكِ، وعاجزاً عن الضحك لو سمعتُ ما يُضحِك. فقد خبرت الضحك عندما كنت صغيراً. كنا نحن الأطفال في القرية نضحك من أعماقنا لأتفه الأسباب، نضحك بصوتٍ عالٍ يشيع الفرحة في الفضاء حولنا، وتزدهي الألوان، وتغرِّد العصافير.*
الفصلة د89 من الرواية:
ـــ علي القاسمي. مرافئ الحب السبعة، ط4 ( الرباط/ الدار البيضاء: دار الأمان/ دار الثقافة، 1444/2023) بمناسبة صدور طبعة جديدة منها.
والرواية متوافرة في موقع "أصدقاء الدكتور علي القاسمي" على الشابكة.