«المسرح والفلسفة» للدكتور مصطفى القباج
صدر بالرباط كتاب جديد للمفكِّر المغربي الدكتور محمد مصطفى القبّاج أواخر السنة الماضية بعنوان "المسرح والفلسفة: بعضٌ من تجلياتِ صلاتٍ وثيقة". ولقد سعدتُ بقراءة الكتاب وتعلّمتُ منه كثيراً، ورأيتُ أن أُعرّف به بإيجاز لفائدة القارئ المثقَّف الذي يهمّه الموضوع.
المؤلِّف:
لا يستطيع أن يكتب هذا الكتاب إلا باحث له مثل اهتمامات الدكتور القباج وخبراته وثقافته. فهو درس الفلسفة على الفيلسوف المغربي المرحوم الدكتور محمد عزيز الحبابي، رئيس شعبة الفلسفة في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس وعميدها، ومارس تدريس الفلسفة في المدارس الثانوية والجامعة والمدرسة المولوية بالرباط (وهي مدرسة خاصة بقادة البلاد في المستقبل). وهو عضو المكتب التنفيذي لمنظمة شمال/ جنوب لحقوق الإنسان وحوار الحضارات في جنيف، وعضو المكتب التنفيذي لمركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات، وعضو مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت.
وفي الوقت نفسه كان الدكتور القباج عضوا في عددٍ من الفرق المسرحية المغربية الطليعية منذ استقلال المغرب أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وشارك في مقارباتها التجريبية في الكتابة، والإخراج، والتشخيص، والسينوغرافيا، والتقنيات المشهدية. وأَولى اهتماماً خاصاً للتفاعلات بين المسرح والفلسفة، وكتب دراساتٍ عديدةً في الموضوع. له أكثر من عشرين كتاباً، منها مسرحيته "دعاء للقدس" (1980) بالاشتراك مع المسرحي المغربي الشهير المرحوم أحمد الطيب العلج، وكتابه القيم " قضايا الإبداع المسرحي" (2000)، و "مقاربات في الحوار والمواطنة ومجتمع المعرفة" (2006)، و" مبحث الحرية في الفكر المغربي المعاصر" (2019). وقد لفتَ انتباهي أنه على الرغم من أنه يربو على الثمانين من عمره المبارك، فقد أصدر في الأعوام الأربعة الأخيرة أربعة كُتب، بعضها في أكثر من جزء واحد.
وللدكتور القباج أسلوب متميز. فبالإضافة إلى فصاحة لغته ووضوحها وسلاستها سلاسة مياه نهر أبي رقراق في الرباط، فإن كل جملة في نصوصه، تحمل فكرةً جديدة ًأو معلومةً فريدة. وبعبارة أخرى، إن كتاباته تخلو من الحشو والتكرار، على الرغم من فائدتهما، من الناحية اللسانية، في تأكيد المعنى وتيسير الفهم. ولهذا ينبغي أن يكون قارؤه متيقّظ الذهن، لأن النصَّ كلَّه منظوم مثل عقدٍ من لآلئ على جيد حسناء، جميع حبّاته أصيلة غالية الثمن.
الكتاب:
يقع كتاب "المسرح والفلسفة" في 282 صفحة من القطع الكبير، وطباعته أنيقة تندر فيها الأخطاء المطبعية. ويشتمل على صور الفلاسفة الذين يتناولهم الكتاب. ويتألف الكتاب من أربعة أقسام رُتِّبت بطريقة دقيقة، وهي:
1ـ التوطئة،
2ـ المُنطلق،
3ـ التجليات، وهي أربعة:
ـ التجلي الأول: عن أرسطو وابن رشد
ـ التجلي الثاني: عن أرسطو وبريخت.
ـ التجلي الثالث: مسرح المواقف، جون بول سارتر،
ـ التجلي الرابع: مسرح العبث أو اللامعقول، البير كامي وصامؤيل بيكت وأوجين أيونسكو.
4 ـ الملاحق: وهي ثلاثة:
ـ الملحق الأول: كتاب أرسطو " صنعة الشعر"، ترجمة حديثة للدكتور محمد شكري عيّاد.
ـ الملحق الثاني: كتاب أرسطوطاليس في الشعر، نقل أبي بشر متى بن يونس.
ـ الملحق الثالث: كتاب الشعر لأرسطوطاليس، تلخيص ابن رشد.
وسنعرض فيما يأتي هذه الأقسام بإيجاز:
1ـ التوطئة:
ما تزال المصطلحات: (توطئة) و (تمهيد) و(مقدمة) تُستعمل في الكتب العربية بوصفها مترادفات. وأتوقَّع أن تتحدَّد مدلولات هذه المفردات في المستقبل عندما تزداد قيمة الكتاب ويرتفع إقبال العرب على القراءة والتأليف وتنمو الثقافة العربية . ففي تلك الحال يميل الناطقون باللغة إلى تخصيص تلك المترادفات، ليدلَّ كلُّ واحدٍ منها على مفهوم من مفاهيم النسق المفهومي.
يستعمِل المؤلِّف الفاضل لفظ (توطئة) ليدل على مقدّمة موجزة. ويلتزم بالتقاليد المعرفية العربية فيما ينبغي أن تتضمن مقدمة الكتاب. فهو يتناول في توطئته المسائل الآتية:
ـ أهلية المؤلف للكتابة في هذا الموضوع: فيذكر أنه درس الفلسفة في كلية الآداب بالرباط، وفي الوقت نفسه، لم تنقطع صلته بالمسرح، نصوصاً وعروضا. وسبق له أن كتب دراسة عنوانها "الفلسفة والمسرح" ضمّنها كتاب" من قضايا الإبداع المسرحي" (2000)
ـ مصادر المؤلّف ومراجعه: يذكر المؤلِّف أن قراءاته للكتب التي تطرقت لصلب الموضوع قد تنوّعت وتعددت حتى أنها فاقت مئة كتاب. واختار منها أربعة كتب لتكون مصادره الرئيسة، وهي:
1ـ كتاب " مسرح الفلاسفة"(1995) لجاك تامينيو:
يتضمن تحليلاتِ نصوص فلسفية مختارة من مختلف العصور حول الشعرية في القراءات الإفلاطونية والأرسطية للتراجيدا.
2ـ كتاب " فلسفة المسرح" (2000):
يضم دراسات لفلاسفة ومسرحيين تتناول العلاقة بين المسرح والفلسفة، اختارها وترجمها ماثيو هومسر.
3ـ كتاب " المسرح والوجود" (2004):
وهو بحث لهنري كويي الذي يرى فيه أن الفلسفة هي تأمُّل في المبادئ الأولى لطبيعة الكائنات والأشياء قبل أن تتحوَّل إلى موجودات، فيقوم المسرح بتيسير قراءة تلك الموجودات ومشاهدتها.
4ـ كتاب "جيل دولوز. المسرح والفلسفة: منهج الدراماتية" (2013) لمؤلفه إسماعيل جود..
وجميع هذه المصادر حديثة وصدرت في فرنسا، والرابع منها صدر في بلجيكا وفرنسا. وكلّها تؤكّد ما بين المسرح والفلسفة من وشائج متينة، بحيث أقتنع المسرحيّون بأنه لا مسرح دون مرجعية فلسفية، ورأى الفلاسفة في المسرح وسيلة لتبسيط أفكارهم الفلسفية وتعميمها.
الباحثون المغاربة في الموضوع:
يقرُّ المؤلِّف بأنَّه ليس أوَّل باحث تصدَّى لهذا الموضوع، فقد سبقه مجموعة من الباحثين الجامعيين والمسرحيين مثل المرحوم حسن المنيعي وعبد الكريم برشيد وعبد الرحمن بن زيدان وعبد الواحد بن ياسر وخالد أمين وغيرهم.
2ـ المنطلق:
في الأساطير الدينية اليونانية هناك آلهة متعددة، كلُّ واحد منها مختصٌّ بعنصر من عناصر الطبيعة. وبعض تلك الآلهة ذو طبيعة خيرة، وبعضها الآخر ذو طبيعة شريرة. ولهذا تقع بين الآلهة خصومات ومعارك وحروب.
وانشغلت الفلسفة اليونانية في قضايا الوجود والعدم: لماذا هنالك وجود وليس هنالك عدم؟ وكيف نثبت الوجود ونتقبَّله؟ وعندما تطرح الأعمالُ المسرحية قضية المعنى المأساوي للحياة، فإنها تتناول الوجود بوصفه إشكالية فلسفية. فمن خلال تفاعل الأحداث والشخوص، يكشف المسرح عن مأساة الوجود المستمرة.
وفي الفلسفة نجد كذلك مبحث الأخلاق، أي قضايا الخير والشر. ويرى الفلاسفة اليونان أن جميع الفنون، بما فيها المسرح، هي في خدمة الأخلاق.
والمسرح اليوناني هو وليد تلك الأساطير الدينية، فقد نشأ في أثينا في القرن السادس ق.م. خلال الاحتفالات التي كان يقيمها اليونانيون أثناء فصل الربيع احتفالاً بإلاه الخمر ديونيسوس (باكوس أو باخوس) الذي علَّمَ البشرَ زراعة الكروم. ويتخَّلل تلك الاحتفالات الموسيقى والرقص والشِّعر والتضحية بالماعز ولبس الأقنعة.
المسرح منتوج معقّد، فهو نقطة التقاء بين عدد من المعارف والعلوم والفنون والتقنيات (الأفكارـ القضايا ـ اللغة ـ الشعر ـ الرسم ـ النحت ـ اللباس ـ المشاهد ـ الإضاءة ـ الموسيقى ـ الرقص ـ التشخيص ـ التلقي). ويصوِّر المسرحُ الأشخاصَ والأفعالَ والمواقفَ، كما هي أو كما ينبغي أن تكون. فليس هنالك مسرحيَّة لا تتضمَّن تقييما أخلاقياً للشخوص أو الاحداث أو المواقف.
ولهذا فإن العلاقة بين المسرح والفلسفة هي علاقة تداخل وتبادل. فهي علاقة ذات مستويات متعدِّدة.
فالفلسفة تُغني المسرح بعمق معالجاتها، والمسرح يُضفي على الفلسفة مسحةً جمالية ومتعة. والمتعة التي يثيرها المسرحُ في نفس المشاهد، تنطوي على حُكمٍ أخلاقيٍّ بناءً على معاييرَ موضوعيةٍ أو ذاتية، تتناول الشجاعة والقيم، والكرم والبخل، والصدق والكذب، والصراحة النفاق، إلخ.
وأدى نجاح المسرح في تبسيط القضايا الفلسفية ومضامينها، إلى اضطلاع فلاسفةٍ معروفين مثل جان بول سارتر والبير كامي بكتابة مسرحيات لتبسيط أفكارهم وترويجها مع مسحة من جمال وإمتاع.
ويستخلص المؤلِّف الفاضل من عرضه في هذا المنطلق "أن هناك ارتباطاً جدلياً بين الفلسفة والمسرح. فالفلسفة نفذت إلى المسرح بكلِّ قضاياها، والمسرح وجد في التفلسف متنفساً لتأثيث نصوصه بأمتن الافكار، إلى الحد الذي جعل بعض النقاد يتحدثون عن المسرح الفلسفي (جراردو ـ كوكتو...) أو المسرح السيكولوجي أو الفلسفة الممسرحة (كامو ـ سارتر...) أو المسرح الإيدولوجي، خاصة إبان عهد الاتحاد السوفياتي وانتشار الإيديولوجيا الماركسية (بريشت...). (ص 24).
ونظراً لهذه العلاقة الوطيدة بين الفلسفة والمسرح، اضطلع عددٌ من الفلاسفة بالتنظير الفلسفي للمسرح. وأوَّل هؤلاء الفلاسفة الفيلسوف اليوناني أرسطو (322ـ385ـق.م.) في كتابه "صنعة الشعر" الذي يشتمل على منهجٍ استقرائيٍّ اختباري، يبدأ بقراءة النصوص المسرحية وينتهي باستنتاجٍ نظريٍّ برؤى فلسفية معيارية. ويرى أرسطو أن جميع الفنون، بما فيها المسرح، تقوم أساساً على (محاكاة) ما هو جوهري في الطبيعة المتحرِّكة نحو كمالها، ألا وهو الفعل الإنساني.
فالمادَّة الخام في الدراسة هي الصراع وله قوَّتان: قوَّةُ الخوف وقوَّة الشفقة، وحين يجري الصراع بينهما، يحقِّق للإنسان تطهيراً فكرياً يقوده إلى الاستمتاع والالتذاذ والسعادة.
3ـ التجليات:
التجلي الأول، أرسطو ابن رشد:
يبدأ المؤلِّف الفاضل هذا الفصل بالإشارة إلى ما يردِّده مؤرِّخو الفلسفة اليونانية من أنَّ أرسطو (385ـ 322 ق.م.) تتلمذ على إفلاطون (427ـ347 ق.م) في أكاديميته بأثينا، ولكن أرسطو اختلف مع معلِّمه "مسجلاً قطيعة معه"، وغادر أكاديمية إفلاطون، وأسس مدرسته التي سمّاها (الليسي)، حيث ألقى دروسه الفلسفية ومنها نصَّ كتاب "البوتيقا" وكتاب "الخطابة" بوصفهما ضمن مبحث المنطق، الذي يُعَدُّ أرسطو مبتكر قوانينه الأول.
يتناول هذا الفصل كتاب "البوتطيقا" (صنعة الشعر) الذي ألّفه أرسطو بعد أن أنفصل عن استاذه إفلاطون، واسس مدرسته الخاصة به " الليسية" وأملى هذا الكتاب على طلابه وجعله، بوصفه كتاباً في مبحث المنطق، لأن غايته التوصل إلى القوانين التي تحكم جودة الأقوال الشعرية.
ويذكر فيه أرسطو أن الشعر صنعة تُصاغ بها الملحمة (قصيدة طويلة جداً تروي المغامرات البطولية مثل الأوديسة والإلياذة)، والتراجيديا (مأساة: مسرحية جادة محزنة)، والكوميديا (ملهاة: مسرحية ذات مواقف مضحكة ومفارقات)، والديثرمب (نشيد تتغنى به جوقة تعزف وترقص في شكل دائري). وكانت هذه العروض المسرحية تقدَّم بمناسبة أعياد إلاه الخمر "ديونيزوس". وأضيف إليها بعد مدة مباريات بين الشعراء بأشعار غنائية يلقونها مُلحّنة مصحوبة بالعزف على آلتي الناي والسيتار.
أضطلع ارسطو في كتابه "صنعة الشعر" بتحليل تلك الأعمال الشعرية وتقييمها ونقدها واستقراء آلياتها، واستخراج أنساق الأقوال الشعرية فيها، وأغراضها، للتوصل إلى القوانين الضابطة لها.
وفي هذا الكتاب، يقسَّم ارسطو علوم عصره على ثلاثة أنواع:
ـ العلوم النظرية: تقوم على التأمل في الوجود ومكوّناته وعلله وأصوله.
ـ العلوم العملية : وتتمثل في نشاط الإنسان ومشاغله الأخلاقية والسياسية.
ـ العلوم الجمالية: التي تمنح المتعة واللذة، كالفنون الجميلة ومنها المسرح.
ونظراً لأهمية كتاب أرسطو، يقوم المؤلِّف الفاضل بتلخيص أقسام الكتاب السبعة والعشرين. جعل أرسطو الأقسام الخمسة الأولى من الكتاب للتمهيدات، وتحديد طبيعة الكتاب بأنه في صنعة الشعر، وأنواعها وأهمية الحبكة في تحقق الجودة.
ويتطرق القسم الثاني إلى جوهر صنعة الشعر، أي المحاكاة. ويقسِّم المحاكون على نوعين: الأخيار والأشرار؛ ويقرر أن الأخلاق، بما فيها من فضيلة ورذيلة، هي التي تميز السلوك الإنساني. ويعتمد نوع الأخلاق التي يتناولها الشعر على المحاكين.
ثم يتناول الكتاب طرق المحاكاة، والأسباب الداعية إلى قرض الشعر، والفروق بين الكوميديا والملاحم والتراجيديا. والتراجيديا هي محاكاة فعل جليل عظيم كامل بكلام ممتع جميل له وزن وإيقاع يتم بالعروض أو بالغناء. فالتراجيديا وليدة الاحتفالات الدينية في الربيع. ولكل تراجيديا ستة أمكوّنات هي : القصة والأخلاق والعبارة والفكر والمنظر والغناء.
ويتطرَّق الكتابُ إلى كيفية ترتيب الأفعال في التراجيديا. فيقرر أن جمال التراجيديا يكمن في محاكاتها لفعل تام عظيم كامل. والفعل التام هو الذي له بداية ووسط ونهاية. وجمال الفعل يكمن في ترتيبه وفي عِظمه. فالحيوان الشديد الصغر ليس جميلا، كما أن الحيوان الشديد الكبر ليس جميلاً. وأن التراجيديا ينبغي أن تكون قصتها متوسطةً يمكن حفظها.
وينبغي أن تدور قصة التراجيديا حول شخصٍ واحد، فالشخص الواحد قد تحصل له أمور عديدة متنوعة ويقوم بأفعال كثيرة مختلفة. ويضرب أرسطو أمثلة لذلك من تراجيديات شاهدها خلال أعياد الربيع.
ثم ينتقل أرسطو إلى تحليل عمل الشاعر، الذي يكتب التراجيديا. فيقول إنَّ الشاعر لا يروي ما وقع فقط، بل يروي كذلك ما يمكن أن يقع. وبذلك فإن الفرق بين الشاعر والمؤرِّخ لا ينحصر في نظم القصة شعراً أو كتابتها نثراً فحسب بل يتعدّى ذلك إلى أنَّ المؤرِّخ يروي ما وقع فقط، في حين أن الشاعر قد يروي ما يجوز وقوعه، وبهذا يكون الشعر أقرب إلى الفلسفة. فالتاريخ يعبّر عن الجزيئيات والشعر يعبّر عن الكليات.
ويتطرق أرسطو إلى أنواع قصص التراجيديا، فيقسّمها إلى بسيطة ومقعدة. والقصة البسيطة تلك التي يكون الفعل فيها واحداً ومتصلاً. أما المعقَّدة فهي التي يقع فيها التغيُّر إما بانقلاب أو بالتعرف بالعلامات وما يفتعله الشاعر، وما يكون بالتذكُّر. ومن أنواع التراجيديا التي فصّلها أرسطو في كتابه "صنعة الشعر"، التراجيديا الإنفعالية، والتراجيديا الأخلاقية، والتراجيديا التي تجري مشاهدها في الجحيم.
ويستعرض أرسطو أجزاء التراجيديا الأربعة: المقدّمة، والقطعة، والخروج، وغناء الجوقة. وأجمل التراجيديات هي ما كان نظمها معقداً لا بسيطاً، وما كانت تثير في المشاهدين الخوف والشفقة على مَن لا يستحق الشقاء. ومما يعمّق مشاعر الخوف والشفقة لدى المشاهدين، المناظر والمؤثرات المرافقة التي تستخدمها التراجيديا. أمّا الأخلاق التي تدور حولها التراجيديا، فينبغي أن تكون مناسبة وشبيهة بالواقع، وأن تكون السلوكات سوية.
ويخصِّص أرسطو قسما في كتابه للقدرات التي ينبغي أن يمتلكها الممثِّلون الذين يؤدون الأدوار في التراجيديا لإحداث التأثير في المشاهدين. وأفضل الممثلين أولئك الموهوبون الذين يعبِّرون بصدق عن المشاعر والانفعالات المختلفة، من رضا، وغضب، وجنون.
ويستطرد أرسطو في الكلام عن (العبارة والفكر) في أقسام عديدة من آخر الكتاب. فالعبارة متعلِّقة بمهارة الإلقاء، أما الفكر فيتعلِّق بالإثبات والمناقضة وإثارة الانفعالات والخوف والغضب والتعظيم والتحقير. ومنتوج الفكر هذا يُعبَّر عنه بالكلام. ولهذا فإنّه يفصل الكلام عن العبارة وتركيبها. فالعبارة تتكون من الحرف والمقطع والرابط والاسم والفعل وتصريفه والنطق. ويفصل القول في كل مكوّنٍ من مكونات العبارة. فالاسم مثلاً إما أن يكون أسماً أصيلاً أو استعارة أو زينة أو موضوعا أو ممدوداً أو متصوَّراً أو مغيَّرا. ويعرّف كل مصطلح من هذه المصطلحات ويضرب عليها أمثلة من تراجيديات قرأ نصوصها أو شاهدها في أعياد الربيع.
ويخصِّص أرسطو قسماً من الكتاب للتمييز بين التراجيديا والملحمة. وعلى الرغم من أن كلا النوعين شعراً يقوم على المحاكاة، فإن أرسطو يميل إلى تفضيل المحاكاة التراجيدية على المحاكاة الملحمية، لأن التراجيديا تتوجَّه إلى متفرِّجين مثقَّفين، ولهذا فإن مؤلّفها يتوخّى الإتقان والجودة في صنعته، وقدرتها على إيصال غايات مبدعها إلى الجمهور. ويمكن التأكُّد من جودتها بمجرد قراءة نصها المكتوب قبل تشخيصها فوق خشبة المسرح بالحوار والمشاهد والموسيقى.
ونظرا لكثرة أقسام كتاب ارسطو عن اللغة والفكر، فإن معظم السريان والعرب نظروا إليه بوصفه كتاباً في النحو والبلاغة والعروض، لأنهم لم يعرفوا، في ثقافتهم في ذلك الوقت، المسرح ولا الأجناس المسرحية التي تناولها الكتاب،.. ولهذا فإن الفيلسوف النابغة ابن رشد اكتفى بتلخيص أقسام الكتاب التي يألفها القارئ العربي وتنفعه، وضرب لها أمثلة من الأدب العربي نفسه، كما سنوضح ذلك عندما نتناول ملاحق الكتاب.
في كتاب " صنعة الشعر " الذي وصلنا، ليس ثمة قسم للكوميديا، إمّا لأنه من النصوص الضائعة، أو لأن أرسطو صرف النظر عنه لسبب أو لآخر.
التجلي الثاني: أرسطو وبريخت
أكتشف الفيلسوف المسرحي برتولد بريخت (1898ـ1956) أن المسرح الذي نظَّر له أرسطو في كتابه " صنعة الشعر" قد انتهت صلاحيته الزمانية. وقرر القطيعة معه وإنشاء مسرح معاصر، فكتب عدّة دراسات عن ذلك بين سنتي 1927و 1931 جمعها في كتاب عنوانه "المسيرة نحو مسرح معاصر". وبعد مدة نشر كتاباً آخر بعنوان " الأورغانون الصغير للمسرح". وتناول بالمسرحيات التي يؤلفها والتي يخرجها هموم الإنسان المعاصر ومشكلاته وقضاياه، متأثراً بالصراعات والحروب التي كانت سائدة في زمانه وبالفلسفة الماركسية. فالمسرح الأرسطي كان ينطلق من فكرة كون الإنسان خاضعاً للغيبيات والصراعات بين الآلهة حول تدبير الكون والإنسان.
كان بريخت يرى "أن ممارسة الفن الحقيقي تتجاوز موهبة التسلية ليكون مقصدها تغيير أوضاع المجتمع والنضال ضدَّ أي نظام حاكم مستبد يستعمل وسائل القمع للحطّ من قيمة الإنسان واستغلال مقدّرات المجتمع وثرواته." (ص77).
وفي كتابه الأول، يلخّص بريخت الفروق بين مسرح أرسطو (الدرامي)، وبين مسرحه (الملحمي). ولهذا المسرح الملحمي تسميات أخرى، مثل المسرح التعليمي (الديداكتيكي)، والمسرح الجدلي (الديالكتيكي)، والمسرح الشعبي. وجدول الفروق كما يأتي:
المسرح الدرامي لأرسطو
المسرح الملحمي لبريخت
مسرح فعل
مسرح حكي
المشاهد مستقطَب في العرض، لا مسافة بينهما
المشاهد ملاحِظ، بينه وبين العرض مسافة
فكر المشاهد مُلغى
فكر المشاهد حاضر بقوة
العرض مثير للعواطف
العرض مطروح لحُكم الشاهد عليه
المشاهد يخوض تجربة عاطفية
المشاهد حاضر بعقله، يخرج من العرض برؤى
المشاهد تحت مفعول الإيحاء
المشاهد يتوصل إلى معرفة
المشاهد داخل العرض
المشاهد خارج العرض
المشاهد في وضع سكوني
المشاهد يتحوَّل ويُحوِّل
المشاهد يهمّه فكُّ العقدة
المشاهد يهمه سريان الأحداث
المشاهد أمام تشخيص خطّي
المشاهد أمام تشخيص بالطفرات.
المشاهد مُعطىً
المشاهد سيرورة
الفكر يُعيِّن الكينونة
الكينونة تُعيِّن الفكر
المشاهد عاطفة
المشاهد عقل
التجلي الثالث: مسرح المواقف،
رائد (مسرح المواقف) أو (المسرح الملتزم) هو الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر(1905-1980). من سيرته الذاتية Let Mots (الكلمات)، نعرف أنه جاء إلى الفلسفة عن طريق الأدب. وانه يرى أن الأجناس الأديبة، ومنها المسرح، يتيح للمتلقي مخزوناً معرفيا وجمالياً ولغوياً. وبعد دراسة الفلسفات المختلفة، أدرك أن محاولات الفلاسفة لفكِّ معميّات الوجود والزمان وظواهرهما، ووجود الأشياء، ووجود الإنسان، فأصدر كتابه " الوجود والعدم" سنة 1943، مبشراً بفلسفة جديدة هي الوجودية الملحدة. وقد تأثر بما درسه للفلاسفة السابقين، خاصة كانط (1724ـ 1804) في نزعته النقدية وفلسفته في الجماليات، وجورج فريدريك هيجل (1770ـ1831)، في مثاليته الجدلية، وفريدريك نيتشه (1844ـ1900) في العلاقة بين حكماء اليونان قبل سقراط وكتّاب المسرح الإغريقي ، وأخيراً وليس آخراً، بالفيلسوف سورين كيير كغارد (1813ـ1855) صاحب الوجودية المؤمنة.
وخلاصة وجودية سارتر الملحدة " الإنسان مقذوف به في الوجود دون إرادته أو موافقته، لذلك فهو محكوم عليه بالحرية، وبهذه الحرية يصنع ماهيته وأوضاعه واختياراته ومسؤولياته." (ص 98).
التجلي الرابع: مسرح العبث أو دراما اللامعقول:
يُنسب "مسرح العبث" إلى الفيلسوف الفرنسي البير كامو، الذي كان من أصدقاء جان بول سارتر ومؤيدي فلسفته الوجودية، ثم اختلف معه، وأعلن أنه لا ينتسب إلى الوجودية، مؤمنة كانت أو ملحدة، معتبراً وجودية سارتر علم لاهوت بدون إلاه. ورفض أن يُوصف بفيلسوف، لإضفاء صبغة جمالية على مؤلَّفاته لتكون أقرب إلى الإبداع الأدبي منها إلى التجريد الفلسفي. ونظراً لما عاناه في حياته من حسرة وألم بسبب وفاة أمه ثم وفاة أخته وما عاناه من مرض السلِّ، تغلبت لديه النظرة التشاؤمية إلى العالم الزاخر بالشرور الدالة على عبثية الحياة، التي هي في حقيقتها حكم بالموت موقوف التنفيذ. كما يرى كامي أن كثيراً من سلوكات الإنسان لامعقولة مثل قتل العربي في روايته الممسرحة "الغريب".
من مظاهر تمرد مسرح العبث عن المألوف في المسرح، القطع مع العقل والعقلانية، وتبنّي النفَس الأسطوري لارتباط الأسطورة باللامعقول، والثورة على صورة الكون لما في أحداثه من صور اللامعقول واللامنطقي.
وينتمي إلى مسرح العبث واللامعقول كذلك صموئيل بكيت الذي يعبّر عن عبثية الحياة أحيانا باللعثمة والبعبعة والهذر. وإذا ارادت شخوصه المسرحية الإفصاح عن نفسها، تلجأ إلى الصياح والصراخ والهمس غير المسموع، وتبقى غير مفهومة. فهو يستخدم اللغة لا كغاية في حدِّ ذاتها بل لقوة إيحاءاتها. فيستعمل كلمات قليلة لتعبّر عن معانٍ كثيرة.
ولكن أيوجين أيونسكو الذي ينتمي إلى مسرح العبث كذلك، يستخدم الفاظاً كثيرة لا تعبّر عن معانٍ ولو قليلة. فالعبث واحد والإسلوب مختلف. وقد أصدر أوجين إيونسكو كتاباً بعنوان "ملاحظات وملاحظات مغايرة" يضمُّ محاوراته ولقاءاته الصحفية التي تشرح الخلفيات النفسية والاجتماعية والتاريخية لتياره الرافض للتقاليد المسرحية. ويذكر في هذا الكتاب إنه في البداية كان يميل إلى مصطلحي "الاستهزاء" أو " الهراء"، ولكن تبين له أن مصطلح "العبث" هو الأدق في التعبير عن المفهوم المطلوب. فهو يدل على ما لا يُفهم، وعلى الإنسان الذي يسير دون أن يكون له مقصد للوصول إليه، وعلى كلِّ ما تعنيه تجربة العبث الميتافزيقي كلغز مطلق. ففي العالم لا منطق ولا عقل، وفي التاريخ يوجد من اللامعقولات أكثر من المعقولات.
ملاحق الكتاب:
يضع الدكتور القباج، ثلاثة ملاحق في آخر الكتاب. وهذه الملاحق تشكِّل أكثر من نصف حجم الكتاب (من الصفحة 137 إلى الصفحة 282). فلماذا فعل المؤلّف الفاضل ذلك؟ يكمن الجواب في كون هذه الملاحق تدور حول كتاب واحد، إما ترجمة حديثة له أو ترجمة قديمة له أو تلخيص له. ذلكم الكتاب هو كتاب "صنعة الشعر" لأرسطو الذي يعدّه الدكتور القباج أساس التنظير للعلاقة بين المسرح والفلسفة. ومما يؤيد ما ذهب إليه الدكتور القباج، أن كتاب " صنعة الشعر" ما يزال مؤثراً في الفكر النقدي العالمي.
الملحق الأول: ترجمة الدكتور شكري محمد عيّاد الحديثة لكتاب "صنعة الشعر" لأرسطو.
حصل شكري محمد عياد على الدكتوراه من جامعة القاهر، وكانت أطروحته تحقيق نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي كتاب أرسطوطاليس "صنعة الشعر" من الإغريقي إلى السرياني ثم الى العربية، مع ترجمة حديثة للكتاب ودراسة عن تأثيره في البلاغة العربية. وترجمة الدكتور عيّاد الحديثة للكتاب تشكّل الملحق الأول من كتاب أرسطو. وفي هذه الترجمة نجد أن الدكتور عيّاد استعمل مصطلحي "التراجيديا" و "الكوميديا" اللذين لم يكونا معروفين في العصر العباسي حين أنجز متى بن يونس القنائي ترجمته وتوهَّم أنهما "المديح" و "الهجاء".
الملحق الثاني: نقل متى بن يونس القنائي لكتاب أرسطوطاليس في الشعر من السرياني إلى العربي.
ونسوق الفقرة الأولى من هذه الترجمة، لأخذ فكرة عن الأسلوب واللغة:
"قال ارسطوطاليس: إنا متكلمون الآن في صناعة الشعر وأنواعها، ومخبرون أيّ قوَّة لكلِّ واحد منها، وعلى أيّ سبيل ينبغي أن تتقوَّم الأسمارُ والأشعارُ إن كانت الفواسس مزمعةً بأن يجرى أمرها مجرى الجودة. وأيضا من كم جزء هي، وأيَّما هي أجزاؤها. وكذلك نتكلم في أُخَر، كم التي هو موجودة [ التي هي] لها بعينها. [ونتكلم] ونحنُ متكلمون في هذا كلِّه من حيث نبتدئُ، أولاً، من الأشياء الأوائل."
الملحق الثالث: ابن رشد. "تلخيص كتاب الشعر"، تحقيق تشارلس تبرورت واحمد عبد المجيد هريدي.
يقول ابن رشد في الغرض من كتابه:
"الغرض في هذا القول تلخيص ما في كتاب أرسطوطاليس في الشعر من القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر، إذ كثير مما فيه هي إما أن تكون قوانين خاصّة بأشعارهم وعادتهم فيها، وإما أن تكون ليست موجودة في كلام العرب وموجودة في غيره من الألسنة.".
ولهذا لم يرَ هذا الفيلسوف العبقري فائدة في الكلام عمّا ليس معروفاً في آداب العرب. وأكثر من هذا وزيادة في استيعاب القارئ العربي لهذا الكتاب الإغريقي، ضرب ابن رشد أمثلة من القرآن الكريم ومشهور الشعر العربي. ففي (الإبدال) في البلاغة، يضرب ابن رشد مثلاً من القرآن ﴿وأزواجه أمهاتهم﴾، ومثلاً من الشعر: "هو البحر من أي النواحي أتيته".
وهكذا فهذه الملاحق الثلاثة تزيد فهمنا لكتاب "صناعة الشعر" لأرسطو. فهو كتاب رائد جامع ينبغي على كل أديب وناقد ومسرحي، دراسته دراسة عميقه وفهمه فهماً كاملاً.
الخاتمة:
يُلخص الدكتور القباج، فحوى كتابه القيم بفقرة وضعها على الغلاف الخلفي من الكتاب:
"إن ما بين المسرح والفلسفة من الصلات الوثيقة، والمراوحات ـ أخذا وعطاء ـ بَثَّت في العطاءات المسرحية أنفاساً فلسفية، وأصبح لأهل المسرح اقتناعٌ بأنه لا مسرح دون مرجعية فلسفية؛ وفي المقابل أسهم المسرحُ في توسيع قاعدة المستوعبين للفلسفات وأنساقها، وقد بُسِّطت لهم أفكارها ومفاهيمها وبراهينها، وفُكَّت ألغازها ومعميّاتها."