

من رواية «على باب الهوى» لصبحي فحماوي


الرِّشى على باب الهوى السورية سبب الانقلاب!
كنت قادماً بسيارتي من ألمانيا عبر تركيا، وصولاً إلى باب الهوى السورية..
"على باب الهوى دقِّيت!
وفتح لي الهوى مرِّيت!"
أجدني أُغني وأنا أنتهي من بلاد الغربة الأوروبية التركية، وأقترب بسيارتي من نقطة حدود "باب الهوى" العربية السورية، التي كم أنا مشتاق للوصول إليها، ولتقبيل أرضها العربية التي أنبتتني عليها، فانتميت إليها! أمط جسدي من شباك سيارتي للوصول إلى حدود "باب الهوى" فأدخل إلى أرضنا العربية. أحاول أن أرمي نفسي من الشباك لأركع وأُقبِّل أرضي العربية. أقضي الوقت بالغناء:
"ومن الشباك، لارميلك حالي، يا عيني،
من كثر خوفي عليك ما بنام!"
الثواني تتحول إلى ساعات وأنا أنتظر الوصول إليها بفارغ الصبر. وبعد مليون ساعة من الزمن الممطوط، أصل إلى الحدود. أوقف سيارتي فرحاً بين السيارات القادمة، وبقفزات سريعة هنا وهناك أتابع معاملتها؛ من تعبئة عدة نماذج، وشراء دفتر أحمر يسمى "تربتكت"، ودفتر سيارة أبيض للتوقيعات، وأضع الطوابع المطلوبة، هكذا جاءت، مائلة على النموذج، الشرطي يعمل لي مشكلة للسماء. "لك كيف بتحط الطابع مايل هيك؟ لك هادا لازم يكون قائم، مش مايل! لك هذه راح تعمل لنا مصيبة!"
يأمرني بأن أتصور وأن أضع صورة هنا. أبحث عن المصور فأجده يُحضِّر أدواته لحلاقة ذقنه. يجحظني بعينيه أن انتظر! أنتظره إلى أن ينتهي من جردها، ومسح الرغوة عنها بالمنشفة، فيلتفت إليّ ويقوم متمطِّياً، ثم يصورني بكل احترام، مستخدماً هذا الثوب الأسود الذي يدخل يده فيه ويقول: "يا كريم"، فيخرج لك الثوب صوراً مما تشتهي الأنفس! ألصق صورتي التي لم أتعرف عليها لشدة تشويهها لشكلي، في المربع المطلوب، وأدفع الرسوم المطلوبة حسب الأصول، وبعد كل هذا التعب والمعاناة، التي يسمونها بالعربي"وعثاء السفر"-لعنة الله على كلمة (وعثاء) كم أكرهها- لا يبقى عليّ إلا أن أختم جواز سفري وأخرج بسرعة لأدخل الشام العريقة، فعمّان الحبيبة برمشة عين، وهكذا تنتهي مغامرة رحلتي الأوروآسيوية بسلام!
وعلى الحاجز الأمامي لقاعة القادمين، أعبىء ورقة معلوماتي وأضعها في جواز سفري، وأسلمها، ثم أجلس أنتظر بعض الوقت الذي يطول مداه..أستغرب التأخير، فأراقب المسافرين الذين يأتون، فيضع كل منهم عشر ليرات رشوة داخل جوازه مع ورقة المعلومات، فيختمها موظف الأمن، ويعيد الجواز إلى صاحبه بكل احترام، ومع السلامة! أشعر أنني من لخمة السفر قد أخطأت، إذ أنني لم أضع رأسي بين هذه الرؤوس، أقصد عشر ورقاتي بين هذه الأوراق، وأرتاح من هم الانتظار والإحراج. قد يكون هذا هو السبب!
أجلس نصف ساعة أخرى أنتظر..روح، فلتكن ساعة! الجواز، وآخرته سيعود! أحاول أن أستعين بأبو الصبر؛ أيوب، فيروغ مني أيوب ولا ينفعني في هذه المواقع. أنتبه إلى أن أيوب قد مات وشبع موتاً هنا بسبب صبره. أملُّ الانتظار الطويل. أعود للأمني الجالس يختم الجوازات ويتحدث مع رفيقه بهدوء وهو يدخن، فأقول له: "يا أخي منذ ساعة أعطيتك جواز سفري، ولم يعد بعد!" فينهرني الضابط باستفساراته:
"انت شو اسمك؟" "من أي بلد جنابك؟" "أي، انتظر لك شوي، بيجيك!" أعود فأنتظر، ساعة أخرى، حتى لم يبق سائق في قاعة جوازات الحدود، إلا ودفع (الخاوة) فختم جوازه ومضى منذ زمن! أجلس ألوم نفسي على غلطتي التي ارتكبتها لعدم معرفتي بأصول الدخول، وذلك بضرورة وضع ورقات عشر في الجواز تدفع عنك البلاء، وتمنع عنك النكد، وتحميك من الحسد، ومن عين ما تصلي على النبي! أمشي في القاعة ذهاباً وإياباً، لأحرك رجليّ المعقّدتين لطول الجلوس خلف المقود من بلاد أوروبا. وبعد اختناقي من التأخير، أنطلق نحو ضابط الأمن، كالزمبرك المعدني المنفلت، وأقول له بصوت عال: "يا أخي، إما أن تعيد لي جواز سفري مختوماً بالموافقة على المرور إلى بلادي، أو تختمه بالرفض!" يشاهدني محتداً، فيقول لي ببرود وكأس الشاي بيده اليسرى، والسيجارة باليد اليمنى: "في شوية معلومات ناقصة عنك، بيدققوها! إيه، انتظر لك شوي، بيجيك!"
"ما هي المعلومات الناقصة التي تريدها مني؟ هل ستختم جوازي، أم تمنعني من المرور، فأعود إلى أوروبا؟" لا يجيبني الضابط! يا أخي تجاهلَني، وبقي صامتاً ينظر إلى جوازات الناس الواقفين! وفجأة يخرج عليّ رجل من خلف الحاجز الأمني، ولكن بملابس مدنية طبعاً، فيقترب مني وكأنه يعرفني حق المعرفة، ويديرني من كتفي بلطف وكأنه صديق قديم، ويتجه معي إلى جانب القاعة، ويقول لي متعاطفاً بكل براءة وبرود: "أخي، هدول جماعتك بصراحة مو مصليين على النبي! باين عليهم حاطين روسهم بالحيط! إذا بدك تاخذ جوازك، ادفع لي عشرين ليرة، وأنا أجيب لك الجواز!" استغرب طلبه الذي لم أستجب له طبعاً، ليس لأن الرشى حرام، ولكن لأن التأخير قد تم وانتهى، وهل من تأخير بعد كل هذا؟ ثم إن المارة يدفعون عشر ليرات فقط رشوة، فكيف أرشو بعشرين ليرة؟ ثِق أنني لن أدفع له ما دمت قد دفعت كل الرسوم القانونية المفروضة! يشاهدني الوسيط أتجاهله، وأقف صامتاً بحقد، فيقول لي وهو يبتعد ملتفتاً برأسه نحوي: "إي شو أعمل لك؟ بعد هيك، ذنبك على جنبك!" أجلس أنتظر مهزوماً وأنا أحدث نفسي المهزومة بغيظ:
"ترى لماذا يقبضون هذه الرُّشى على باب الهوى، وعلى كل باب هوى أمني؟ وهل تقبل الدولة أن يكون وجهها مرتشياً؟ وهل الأمنى المرتشي يعرف أن الراشي والمرتشي في النار؟ وهل الأمني الذي يقبض لجيبه الخاص يبقى أميناً على سياج هذا الوطن؟ ألا تعرف الدولة أن هذا الأمني الذي يقف على وجه الحدود هو واجهة الوطن وسياجه، وأنه إذا باع ضميره بالرُّشى الصغيرة، فإنه لن يتردد في بيع وطنه كله بالرشى الأكبر؟ وهل من يقبض عشر ليراتك فيُدخلك، لا يقبض مائة ألف ليرة، فيُدخل لغيرك الممنوعات والمخدرات، وقد يقبض ملايين الليرات، فيدخل إلى بلدك النفايات النووية، التي ستدمر البيئة؟"
أشعر برعب كبير وأنا أتخيل هذا "الأمني المرتشي" يعمل ضد "الأمن الوطني" وأن هذه الرُّشى تسمح بتهريب الممنوعات، كل الممنوعات، وخاصة الأسلحة، التي ستصل إلى أيدي الناقمين على هذا الفساد، وقد تصل إلى الإرهابيين الخارجين على القانون فتجدهم ينقضُّون على البلاد والعباد، ليضعوا لهم موطىء قدم في قلب الوطن العربي، وقد يصل السلاح إلى أيدي المعارضين لهذا الوضع الذي يُجبر كل تاجر، وحتى من يريد فتح محل فلافل، على أن يدفع رشوة عظمى لمن سيعطيه تصريحاً بالعمل، وإلى الحاقدين على احتكار وكالات الشركات الكبرى، لتبقى حصرياً للمقربين، فتباع بأسعار غير خاضعة للمنافسة، إلى أن يُنظِّم المظلومون أنفسهم، فيُصدِّرون البيان رقم واحد بالثورة التي ستدمر نظام الحكم، وقد تدمر في طريق زلزالها حضارة البلد وبنيتها التحتية كلها! لماذا لا تعرف الدولة أن الرُّشى هي السبب في تدمير ذاتها!
أفيق من تخيلاتي بعد توهان طويل، فأعود أصرخ في وجه الموظف الأمني، مطالباً بحل قضية هذا الجواز المستعصي! لا يجيبني الأمني كما سبق، ولكنني أشعر أنني سأواجَه بأمر جلل هذه المرّة! هل تتخيّل أنهم سيضربونني أو سيُعنِّفونني؟ أبداً والله! إنهم أهدأ مني بكثير، لالتقاط فتات عيشهم، إذ يتقدم الضابط الذي يقف خلف الحاجز المكتبي نحوي، فيبلغني خبراً صادماً لم أتوقعه أبداً. يقول بصوت منخفض وهو يجحظني بشاربيه المتلمظين-وهو يشير بقلمه إلى الخلف، لأذهب إلى الجناح الآخر-:
"جنابك مطلوب للمخابرات!"
لماذا هذا التفخيم الملغوم ب"جنابك"؟ لم يتوقع جنابي(اللي بيوجعني) هذه النهاية، ولكنني أتغالظ متجاوزاً حد السكين، إذ أقول للضابط بصوت مرتفع: "مخابرات، مخابرات!"
تمرُّ عليّ لحظات أجهِّز فيها نفسي للبهدلة والإهانة..كان زميلنا "جعارة" الشقي في المدرسة الابتدائية، يقول لنا إن دَهنَ أكُفِّنا بدم الحراذين يُخدِّرها، فيقينا من وجع ضربات عصا المعلم، فلا نُجَعِّر، ولهذا سميناه "جعارة". ولكن هل توجد دماء حراذين تدهن جسدي كله، وإلى الأبد يا "جعارة"، فلا أتألم في زنازينهم؟
أستقوي على العذاب بالله، ثم أدخل من باب جانبي باتجاه الموت! أفهم أن العملية ليست مخابرات ولا ما يخبرون! كل القصة وما فيها، مسألة (الخاوة) التي لم تدفع! ماذا تقول؟ حيونة! وإلا، لو انتبهت يا جحش لهذا الخطأ الفاحش، لكنت قد رشوت، وحشوت جوازك بالمعلوم، فلن تضطر للدخول إلى هذا الجحر المخابراتي، الذي لا قرار له.
كنا نقرأها هكذا: "الراشي والمرتشي في النار!" قد تكون تلك النار المؤجلة أرحم من هذه المعجلة، وقد تكون تلك المؤجلة كالمَهر المؤجل، غير مؤكدة الدفع! كان جارنا أبو اشتيوي الله يجازيه يقول: "النار تعبير مجازي لا يتم تنفيذه، ذلك لأن الله غفور رحيم!" كنا نستغرب قوله غير المقبول طبعاً، ولكن النار هنا مؤكدة التنفيذ! ما هذه الورطة التي وقعت فيها؟ انت تستاهل! لماذا لم تدفع بالتي هي أحسن...؟
أدخل برجليّ المرتجفتين مرعوباً إلى غرفة مَخْفِيّة خلف الحاجز، وهنا أقف وأسناني تُطقطِق، أمام ضابط أمني يجلس وهو يدخن ويتحدث بهدوء مع زميله، وكأن قضية الليرات العشر التي طربقت الدنيا، وقلبت حدود باب الهوى، لا تؤثر فيه أبداً، وكأنه يقول لي: "على كندرتي، أنت، وليراتك العشر"، فيلتفتُ إليّ بطرف عينيه وكأنه يعرف قصتي(من طقطق لسلام عليكو) ومن دون أن يسألني شيئاً، يحوّلني بالإشارة إلى محقق هناك!
أقف مستسلماً أمام شاب يجلس خلف مكتبه بملابس مدنية، فيواجهني بالأسئلة السابقة نفسها، ويحقق معي عدة دقائق؛
اسمك؟
من أي بلد أنت؟
من أي قرية أنت؟
كم عدد إخوانك؟
كم عدد أخواتك؟
كم عدد أهلك؟ اذكر لي أسماءهم فرداً فردا.
هل الوالد والوالدة أحياء يرزقون، أم...؟ هل تسكن معهم، أم...؟
ماهي دراستك؟ في أي جامعة درست؟
هل تعمل مع الدولة، أم في القطّاع الخاص؟
هل سبق لك أن سُجنت بقضية ما؟
من أي بلاد أجنبية أتيت؟
ما هي علاقتك بألمانيا؟ هل معك عنوانات لأناس في ألمانيا؟
ما هو نوع سيارتك؟ وما هي سنة الصنع؟
هل تحمل أية مواد ممنوعة مخدرات أسلحة منشورات مطبوعات؟
من أي حزب أنت؟ من أي تنظيم أنت؟
يا عمّي أنا ليس لي أحزاب ولا تنظيمات. لم أقل له طبعاً أن الأحزاب العربية كلها...! لم يستفد شيئاً مني، وبالفعل فلقد كنت صادقاً معه. يقوم فيخرج معي إلى سيارتي في ساحة الجمارك..(العمى! كل هذا على شان عشر ليرات؟) ينظر يميناً ويساراً، ويتلفت نحوي باستهبال، لعله يقبض في الطريق عشرين ليرة على انفراد، ويفوز بالخاوة، التي لا يتمرد عليها لابِسُ لباسٍ في كل الحدود، ولكنها سكَّرَت معي هذه المرّة، (تنَّحتُ) كما يُتنِّح الحمار الحرون. إه! هذا ما حصل! وبعد حوار وأخذ ورَدّ مع موظف الجمارك، راحا يفتّشان معاً كُلّ ما في السيارة من أمتعة، فلا يجدان معي شيئاً، سوى حافظة بلاستيكية كنت قد كتبت على غلافها "صور ألمانية" فكانت هذه الصور هي المشجب الذي يعلقون عليه مبرر اعتقالي، بل يعلقون جسدي كله عليه! يقول لي المحقق وهو يُقلِّب صفحاتها:
"ما هذه الصورة؟
وأين التقطت هذه الصورة؟
ومن هؤلاء الذين يقفون معك في هذه الصورة؟
هل تتعامل مع جواسيس في ألمانيا؟
من هذه الجميلة الشقراء التي تجلس إلى جوارك في هذه الصورة؟ ومن هذا الشاب الأوروبي الذي يتحدث معك في هذه الصورة؟
ومِن، إلى، عن، على، في، الباء، الكاف، اللام؟" يُقلِّب كل الصور، وهو يسألني عن مناسبة كل صورة، وأنا أجيبه باختصار..يتعب المحقق من تقليب الصور فيقول لي:
"سنعطيك دفتراً وقلماً لتكتب عليه قصص صورك هذه كلها، وتفاصيل سفرياتك المشبوهة كاملة، خاصة أثناء تجوالك في بلاد ألمانيا، ونحن نحذرك من أن تخبىء عنا شيئاً، حتى غرامياتك ومجونك الذي يظهر جلياً في بعض الصور."
يضع لي أحدهم كرسياً خيزرانياً قديماً، إحدى أرجله تُقلقِل لقصرها عن الأخريات، وقاعدته شبك بوص مهترىء، أمام طاولة خشبية صغيرة بُنِّية مُشخّطة مربعة، في زنزانة انفرادية ملاصقة لمكتب المخابرات، ثم يأمرني بالدخول..يطبق باب الحديد خلفي بخبطة قوية، فأجلس كالفأر في قفص المصيدة، لأكتب قصة كل صورة، ومناسبة تصويرها.. وبعد مضي وقت من الكتابة، أنسى نفسي، فأشعر أنني انسجم مستمتعاً باستعادة ذكرياتي، وأن قريحتي تنفتح لكتابة القصص، ولكن تحت إرهاب الحدود!
بعد ساعتين انتهي من الكتابة، وأعطيه المخطوط، فيأخذ مذكراتي المضحكة المبكية، ويطّلع عليها من دون قراءة متمعنة، ثم ينقعني ساعتين إضافيتين في زنزانتي الانفرادية، لأقف مرعوباً أنتظر ما سيصدر بعدها من قرارات مهلكة، ولكنه يعود فيفتح عليّ، ويعيدني إلى حضرة الضابط، الذي ينظر إليّ بغُلب، وقد نفد لديه صبر أيوب على هذه الليرات العشر، فيقول لمساعده: "ولك يا أخي ارمي له هالجواز، خليه ينقلع ويحِلّ عنا!"
يرمى المحقق الدفتر في عيني، ويقول لي:
"إي أخي، آسفين! مجرد تشابه أسماء!"
أتلقف الدفتر الطائر وأنا أزيح عيني عن أجنحته المرفرفة، فآخذ جوازي، وأخرج من (باب الهوى) "مُسوَدّ الوجه"!
هو الوجه في الحقيقة لا يسودُّ، ولكنك تخرج من هذه الدوامة وأنت (منعمي ضوّك) لا ترى ما هو أمامك، ولا من هم حولك، وكأن الدنيا سوداء مظلمة في وجهك، فيقولون خطأً: "مُسوَدّ الوجه!"
(تمت الرواية)