

مقام الشيخ مصطفى الولهان
حضرنا صلاة الجمعة في مسجد الشيخ مصطفى الولهان، وقبل أن يقيم المؤذن الصلاة، ألقى إمام المسجد خطبة بمناسبة ذكرى مرور أربعين سنة على وفاة المرحوم الشيخ مصطفى الولهان، قال فيها:
"بعد الصلاة على خاتم النبيين، سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمعين، أقول إن هذا المسجد سُمِّي بهذا الاسم نسبة إلى الشيخ الجليل القَدْر مصطفى الولهان، رحمه الله وأسكنه في جنات النعيم، إذ أنه كان قبل أربعين سنة يجوب الطرقات في القرية، ويفتش الأوراق التي يجدها ملقاة على الطريق هنا أو هناك، ويتفحص سطورها، فإذا وجد فيها كلمة الله جل جلاله، أو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يجمعها في كيس قماش أبيض معلق بكتفه، إلى أن يأتي المساء فنجده يتجه إلى زاوية خلف المسجد، ويحرق الأوراق التي جمعها، وذلك خوف أن يدوس أحدهم عليها، أو يلوثها آخر. وقال أحد مريديه:
"كنت صغيراً يومها وأنا أشاهده يفرزها، ويعمل منها حجابات، ويقدمها لمن تطلبها من النساء المظلومات، أو الرجال المعسوري الحال، وذلك من أجل فك عثرات الكرام، الذين يدعو لهم، فيدفعون له بعض فتات الخبز والطعام، أو النقود البسيطة كمقابل، أو بدون مقابل."
قلب الإمام صفحة خطبته، وعَدّل تثبيت نظارته، ثم تابعَ يقرأ من الصفحة الثانية، قائلاً:
"كنا ونحن صغاراً نصلي المغرب، فنجد الشيخ مصطفى الولهان يصلي في الصف الأول مع المصلين، ويقال إنه يبقى بعد صلاة المغرب جالساً متهجداً في المسجد، وداعياً الله أن يهدي العباد، وأن يرزق الناس المحتاجين قوت يومهم.. ويبقى يتمتم هكذا، أو يشرح للمريدين المُتحلِّقين حوله، إلى أن يأتي موعد صلاة العشاء..
وهكذا مضت السنوات، إلى أن ناهز الشيخ مصطفى حوالي السبعين من العمر، فتوفي برحمة الله ورسوله، إذ قال الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنهم وأرضاهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، والقليل من يتجاوز ذلك."
انقلبت الدنيا حول جثة المرحوم، مما جعل المريدين يسرعون بتغسيله وتعطيره بالمسك والبخور، ثم كفّنوه في ثلاث لفافات من القماش الأبيض، ووضعوه على نقّالة خشبية معمول بها في القرية، وساروا به في جنازة مهيبة، ازدحم حولها وخلفها كل المريدين، وكان الناس الساكنون في طريق الجنازة يتقافزون من بيوتهم صغاراً وكباراً، فيشاركون في حمل النعش، ليكسبوا حسنات مرافقة المرحوم.. واستمر الموكب هادراً ببركات الله وهديه، إلى أن وصلوا مقبرة القرية، حيث حاولوا الانحراف به نحو اليمين ليدخلوها، فلم يتجاوب التابوت معهم، إذ أخذت أخشابه وحدها تُطقطق بأصوات لم نسمع من خشب نعش مثله من قبل.. وصار النعش يحرِفُ مسيرة الجنازة، والناس يحاولون تثبيته، وهو يمانع، إلى أن قال كبير المريدين:
"اتركوا النعش يسير كما يوجِّهُكُم، وما عليكم إلا أن تتبعوه." فامتثلوا لكلام الشيخ، وساروا متكاتفين حول الجنازة وخلفها، ولكن النعش خرج بهم من مقبرة القرية، واتجه مبتعداً عنها في طريق ترابي، أوصلهم إلى مكان خالٍ، فاستمروا يحملونه إلى هناك من غير توجيه.. لقد فهموا أنهم يتجهون بالجنازة مُجبرين إلى حيث يريد الوليّ المرحوم بإذن الله، الشيخ مصطفى الولهان، إلى أن أوصلهم إلى زاوية غير بعيدة من القرية، فتوقف النعش وأبى المسير.. قال أحدهم: "إنه مسقط رأسه، حيث كانت له أرض هناك".. حاول الجمع الغفير تحريك النعش الذي صار بوزن الرصاص، فشعروا أنه أثقل من وزنه الطبيعي بل وأثقل من قدرتهم على حمله، فاضطروا إلى إنزاله على الأرض حيث حفروا له حفرة هناك، ولحّدوه في قبر اعتقد الجميع أنه كان مكتوباً له..
وبعد الدفن أبّنوه هناك، وقرأوا على جثته آيات من الذكر الحكيم، ومن ثم قام شيخ خطيب مفوّه منهم، فصاح مُحدِّثاً بخطاب طويل، ذكر فيه سيرة حياة المرحوم، ومناقبه الحسنة، ومدى تعاطفه من المظلومات والمحتاجين.. ولم ينس الشيخ الخطيب أن يُذكِّرنا بعذاب القبر، وذكر مواصفات الأفاعي أم قرون، والأفاعي أم جرس، التي تنقضُّ على الميت في قبره، إذا كان شريراً، وأن يصف لنا جنات النعيم التي تنتظره إذا كان خيِّراً.. وذكر الحور العين اللواتي ستَحْفُفنَ بالتُّقاةِ المحسنين منهم، حيث أن نكاح المؤمن مع كل حورية من الحور العين يستمر متواصلاً في النكحة الواحدة سبعين عاماً، ولم ينس الخطيب المفوّه وهو يمسح وجهه بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم، فيردد القوم خلفه نفس النداء، وتقليد مسح اللحى، أن يؤكد لنا أن كل عام من أعوام الآخرة يعادل سبعين ألف سنة مما تعدون.. وقال إنه بعد انتهاء المؤمن التقيِّ من الحورية السبعينية الأولى، يجد الحورية الثانية تقف غير بعيدة عنه وهي تبكي وتقول له راجية: " أسرع يا عبد الله، لقد مضى عليّ وقت طويل وأنا أنتظرك." فلا يملك عبد الله إلا أن يقوم بواجبه خير قيام.. معنى ذلك أن هناك خيراً عظيماً ينتظر المؤمن في الجنّة، لا يمكن حصره، ولا تصوُّره.
وبعد انتهاء المراسم، عادوا محزونين غير قادرين على التصرف من بعده، وكان تقديرهم لهذا الشيخ الجليل قد اضطرهم لبناء قفص حديدي حول ضريحه.. صبغوه باللون الأخضر، ومع الأيام، نصبوا شاهدين رخاميين للقبر، وبلّطوا الضريح والساحات المحيطة ببلاط الرخام الأبيض، وبنوا بناءً حجرياً نظيفاً على أرض واسعة حوله، وكسوا الضريح بقماش مخملي أخضر، واستمروا يضيفون ويُجمِّلون، وصار المريدون يزورونه ليتبركوا ببركاته، واستمروا ينغلون حوله.. ومع الزمن ازداد توارد المظلومين والمأسورين الخاشعين بالإيمان بزيارة هذا الضريح .. وعلى ظل هُداه، سعوا في كل مكان، فاستطاعوا جمع نقود كافية، تبرع بها كثيرون فشيدوا بها مسجداً طويلاً عريضاً، جعلوه مقاماً مهيباً تبرز من فوقه قبة خضراء عالية، صار دُرّة في المنطقة كلها، كتبوا عليه: مقام الشيخ مصطفى الولهان. وهو المسجد الذي ما نزال نصلي فيه اليوم، على بركة الله ورسوله."
وختم الإمام حديثه المذهل هذا بقوله للمؤذن:
"أقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذِكْرُ الله أكبر." فصاح المؤذن بإقامة الصلاة.