من السماء إلى الأرض
- 1-
يهامسني هذا المساء الخريفي القارس في دلال، ينفخ في شراييني الكلمى نفثاته الساحرة، أنتشي كما أني تجرعت نخب المدام، وأمتطي صهوة الخيال بعيدا عن خزرات تمزق نسيج الفراغ، بعيدا عن كيان يشتهي السكون حورية هي الحسن الزاحف من فردوس الكلمات..
إني انزويت في ركن وضيع من الحافلة المدرسية الهرمة، التي تقلنا كل يوم أربع مرات، من البيت إلى المدرسة، ومن المدرسة إلى البيت! وهي تحرق تحت وطأة عجلاتها المشحوذة في كل مرة أكثر من 16 كيلومتر، في صمت.. وضعت رأسي على زجاج الشرفة، لأعلن انفصالي عن رحم الكينونة، صوفي المزاج.. يدق أوتاد خبائه في الذاكرة، يبذر حبات تطرفه في خفاء، ويردد أني لا أعرف عدا أشياء لا تُعرف!
إني أسبر ثنايا هذا الدجى الخريفي الفسيح، والحافلة تشق بنا طريقها نحو نقطة البدء، التي تنطلق منها كل يوم، باستثناء أيام العطل التي كلما تكاثرت، اعترى وجوهنا الشاحبة ما يشبه الانشراح، أقلد كل الطيور، أرقص رقصتي في النوى، كي لا يراني أحد، فأضحك من سذاجتي البيضاء، وأتهم ذاتي بالغباء، وابتسم إخفاء لامتعاضي الممتد.
غيرت ردائي لألج جبة الحلاج، غير متأله، بل شاعرا تكتسح فوهات الشداه أغواره، وينقر التشاؤم أجداثه المهجورة، فوار يخيم على جدران الفراغ، أنات حروف تصرخ، تتحدى، زمن للتحدي هذا، أنا هبة الرجاء، فمن أين أروي خلاياي الظمأى، متى تطفق سيمفونيتي، فالجمهور يترقب، وأنا... في ذاتي تشتهي جراثيم الفضول قد الانتحار، وهو يغتسل من جنابة الموت، يرتدي فستانه الوردي، يمسك خنجر الخليل، يقصد فنائي في غرور، أنتفض، أصيح في ارتياع، وصناجات الذعر تدوي بين أعطافي المنهوكة، فينعكس صداها عبر أجرافي الرمادية، أصرخ، لم أصغ لصراخي، ولا لصيحات طفل كان يلهو في حقولي، وينظم من زهر الأقاحي شكل الدعابة.
أموس تذوي، هالني رسمها المهتري، كأطمار معتوه يفترش مهملات الأثرياء، وأنا أعد.. أستعرض شذرات من تاريخي المنحول، وشطآن ذاتي يتحسس لذتها موج أبيقوري، تيأس من بحرها الأزرق، تلعنه في السر، وألعن في الجهر صمتي، انزياحي عن أنثى، ترسم على قسماتها الأرجوانية جغرافيا الشبق العربي، تبعث من مؤقيها النجلاوين لمحات هي الرجاء، والرجاء هي، أسطر البداية، أستوحي من "جميل" خطوطا، لأحيك جسري إليها، وأقول أني بدأت، فيردد صوت جدتي المبحوح: الأخ يغدر، والدهر يقهر.. والحب يكبر، يكبر في الذوات فتضيق، وفي الملامح فيذهب البريق.
على سطح زجاج الشرفة أنا.. بشكلي المتهدل، بشحوب صوفي يغرم نفسه.. ويحب الله، وأحب (؟) ولا آبه بهدير الحافلة التي تمزق سكينة الليل، ولا بأجساد التلاميذ المتهالكة، التي تملأ فضاءها المزدحم، وقد أضناها يوم حافل، بخشونة المقاعد، وثقل المحافظ والكتب، وواجبات المدرسين التي تشبه أوامر رجال الشرطة!
- 2 -
عبر زجاج الشرفة، فضاء متألق يستهويني لجلوس أريحي تحت البدر السارح في قصيدة عنوانها السماء، أخلد امتداد السكون العنيد، الذي تنغصه من فينة لأخرى، قهقهات التلاميذ المشبعة برائحة المراهقة المرهقة، والوجد المثخن بالجراح تهزني صواعقه إليك، أنت الجالسة قبالتي، وهي تهب على أهداب جفنيك الساحرين، تغبرين عن حاسة مني، كلما باغتني الليل وهو محفوف بالاغتراب، أو غرد الحزن في مملكتي مواله العتيق، فاعتزل الصخب، وأزاول صمتي.
أستفيق من أوهامي، عقلي حروف استفهام، على ذاتي ينسج عنكبوت الاغتراب، وفوق نطقي تكتظ أجناس من الكلمات، وفي غفوتي أبصر "لونجا" تروي عربيدا ريفيا من لعابها، وأضيق.. فأزمع على طعنه باحتجاجي، لكن يد أمي تمتد إلى عاتقي، فألتفت وأنا أرمق سماء البيت، أرى صورة شيخ وهو يرتدي جلبابا أبيض، يجلله بالمهابة، فأدرك أنه جدي، أرى أشياء عديدة، كل واحد منها يحمل ذكرى مخزونة في سراديب اللاوعي، أرى كتبا، أرى... أفكر ولا تفسير، أحرك رواسبي الجاثية، فأعي حينئذ أنه طيف وما بعده الصحو..
برودة المقعد الخشبي تسري في دمي، تغازل كياني النحيل، ونظري يشق بجناحيه بكارة الفضاء اللا متناهي، هذه نجوم مترامية.. هذه سحب تتسابق.. هذه تضاريس "تمسمان" الشامخة شموخ الريف.. هذه شناخيب تتمايل وإيقاع ذاتي.. أنسى وجودي على حافة الكتمان، أزيغ، أجري مجرى آخر، يقذفني الآن نحو قاع المجهول، أكاد أغرق، وبأعجوبة، أنقذ قلبي من مخالب الافتراس، فأقول أني جربت، فأنا ذو تجربة!
إني أتيت، فأوراق الليل تساقطت على أرجائي، تحدثني لا أفقه ما أنفث، إنني افتقدت كل اللهجات، بحثت عن لساني إذ هو، هو.. تلمست خفقات ذهني إذ هي، هي.. تساءلت في انطواء عما جرى، إني أنساني انبثاقها الأنثوي أنا، لغتي امحت، وحتى الحروف انهوت من أغصان الأبجدية، فتمزق ستر الشوق في أليافي.
تخطو أمامي، ألاحقها في ظمأ أخرس، تسحبني من حيزي، أستلذها رغيفا من شهوة، وأنشد لو أني أحل في بسمتها الوردية، أو تغمرني عبرتها الممزوجة بملح الشبق، ألتفت، صاحبي "سيزيف" يربت على كتفي الأيسر، أستاء وأكرر ما قالته الشمس وهي تغطس في عرض البحر، وأمشي تارة منصتا، وأخرى هاذيا!
نورس يغادرني، وأبي يغادر الفردوس، أمي بجواره تمسح رسوم الانشراح التي لم تستمر، تجفف خيبتها المرة، تتمزق كوامني من هول النكسة، تضطرم حشائشي الخفية، نار في الأحداق، وشرارة في الأعماق.. يا مهجتي، نبالي فتتها صرف الدهر، "لونجا" تستخدم المسدس، أتوارى خلف الكلمات، كلما طفقت فوهة أو صاحت فوهات.
- 3-
بالدموع الخفية ودعتك يا وطني، وحتى الهموم جمعتها في حقيبتي، وشطبت اسمي من كل الجدران، إني فضلت أن أنوء، ألا أرى من حياني، وألا يعلم أحد أني اخترت الجفاء عنوانا، وأن قاتلتي أنثى من صنف بشر.
ما فتئت أنخرط في فضاء الحافلة، أمل هذا الليل الذي كلما آنت لحظة الرواح، في انجذاباته أضيع، وبين سطوره يغني شرودي، فأغيب عن جثماني، وأتيه في خواء الخواء، ألمح "لونجا" من جديد، وهي ترفل في مرقص الكلمات، تعكسها المرايا حرفا عذريا، تهتز أشياؤها في خشوع، فتتدلى من شرفاتي أعلاق الرغبة، تتمايل في غنج حلو، ترشف ولا تثمل، أفارق دمي، أنسلخ، و... ما يزال هدير الحافلة يتسلق أنحائي، تعاتب بمقلتيها الثملتين شخصي، الذي ينزاح عنها، تغتالني لأفيق من سهوي المزمن، أفتح ذاتي المذبلة، أرمقها أمامي، خلفي.. تتفاقم في خيالي الهواجس والاستفهامات، ها.. ها الآن ينطبق عليك فكا الشراك، لتغدو سجين رؤاها، وتختم أجواءك بالشمع الأحمر، لتحاصر أديرتك غربان الشؤم، ولا خلاص مما أنت فيه، فالكون ينهار إذا ما أماطت الأنثى عن عريها أو سرها، والكل يخلد الليالي الحمراء، وحتى الخطيب في عهدنا تناسى الحقيقة!
– عاهتي أنني لا أرفل.
– وأنا عاهتي أنني أرفل، وبهذا الفعل أحقق قسما من وجودي.
– عذرا، فالأذواق تختلف..
– لكن، الحقيقة لا تختلف، حتى أن الإنسان في حقيقته واحد.
– غير أنه في تصوره متعدد.
– وإن تعدد التصور، توحد في ماهيته.
– ....................................
يا نوارس الصمت التي ترين على كبدي المعنى، خففي الوطء، وبددي لحنك الحزين، فنار الشجن تلتهم كهوف ذاتي، وعرافة القرية ذات الخصلات المطلية بالحناء، تجلدني كل ليلة بأمحوضة لا تنسى، وما يعرفه الصحاب عني، ليس ما تمليه مشعوذتي من دروس عشقية، أو ما يساورني وأنا ثملان، يا نوارس الصمت، لا تخطي في محضر الغيب سيرتي المشؤومة، وتقولي لشيخ الحومة، أني المعتوه الذي فتن نساء القبيلة، أني المخاتل الذي اختطف بنت السلطان من مزبلة القصر!
– دعيني أمضي لحالي..
– وماهية حالك يا صغيري؟
– أمي تدعو كل فجر، ليبارك الله في فلذة كبدها، ويحفظه من ويلاتك!
– ماذا..؟
أجل، يا عبرتي الخجلة من التدلي، يا مهجتي التي يقتصها لحن الهزار من جذور الجذور، صرت صغيرا في زعمها، تصارحه بخدعة من نار، وتقول أنها فاكهة من أشجانه، ولا تدري أنها محرمة، وأن قافلة الدهر استقتها إلى رحابه، فشيدت خيمتها بجواره معتقدة أنه الجدير بها.
– إني ما اعتقدتك هكذا، تطلبين الطموح طلابا.
– إني اكتمل ذوباني فيك.
– والطامة الكبرى أني لم أحس بعد!
– أنت في كآبتك يسقط الملايين، أنت شيطان إنسي!
– إنسي شيطاني!
– إن الصروح التي أسرفت في بنائها قسطا من عمري، تتهاوى الآن.
– ولا أراها.
– إني أراها وحدي.
– وأين هي؟
– إنها في ذاتي.
– نرجسية أنت، تلفظين كلاما فلسفيا، وفي الحين لست فيلسوفة!
– بل فيلسوفة نفسي!
- 4 -
تهاتفني من خلف القناع ولا أراها، تتجول رفقة الدجى، تسامر جنوني حين أتطرف، وأتقلد خطى أفلاطون في سموه، وتقول، فيحسبها الجالس جنبي موجا ليليا.. بين تضاريس الوجود أدرك هويتها، وفي تجاويف السماء ألمح قدها الفاتن، فتسحرني، وتخلبني نكهته فأترنح، وأذوب على زجاج النافذة، الذي هو متكأ رأسي منذ حين، لأراها تتراقص في بؤبؤي عيني، وفوق أنوار "تفرسيت" المتموجة..
– فيم تتأمل؟
– في ذاتي في هذا الخلق المنظوم.
الكينونة في تقلب زئبقي، توفق في صورتها بين ألوان قوس قزح، فيظهر على ثراها من هو راض، ومن هو مثلي يسند قلبه بعد تمرد وإجهاد، إلى جدار الصمت، ليردف الكائنات أعلى.. أسفل.. أ..
تنتصب "لونجا"، يذكرني قوامها الممشوق بصيف الشاطئ، تتسلل نحو أحشائي لتحل في، أنحتها تمثالا، وأرجو لمس راحتها البضة في الخفاء، حتى لا تراني أو أراها! إن لفحة من لفحات الخريف تفيض على مبسمها الفواح، فأحدج فيها وجهي العبوس، وهو يبسم، وطموحي المشروخ، وهو يتألق، ثم تختفي وراء أسوار المبنى، فينهار طموحي، وألتقطه بسرعة، فأكتشف أني الهائم من دون دليل.. فأزجر شخصي المذهول وأبكته.
يلتفت من إغفاءته المعهودة، أتطلع نحو الفوق، رؤوس تمتد، عيون تسترق النظرات في نهم، يحضرني "الحجاج"، وهو يستل من الغمد منجلا فضيا، ويشرع في .. أتطلع ثانية.. أنجذب لوجه أنثوي يحدجني، ينخرني شيء ما من الداخل، فتذوي أعشاب الرغبة في عمقي، ويفتر شغفي شيئا فشيئا، أتقوقع حول سري، وأهيم في فلاة الكتمان، مثل صوفي يطلق لذاذات النفس اللوامة، ليتخذ الخربة النائية صومعة له، أو مثل عاجز لا يطيق على اقتطاف فاكهة العشق، من كرمة تظلل سائر القلوب، ويردد ما قاله الذئب العجوز؛ أن نكهتها مرة!
- 5 -
ما انفك الليل يضاجع أشيائي المقرورة، ويشحن سكونه البارد في دمائي، تأتي "لونجا" من غير أن أدري، تشدو في متاهتي الموشومة باليتم أهزوجتها السارية، تعزف على حفيف الأوراق، أضع نبضات قلبي على لحنها الشجي، وأفيض نشاطا، ويكون صحو، ويكون تماس، ويكون حلول.
إنك تمشقين في كل لحظة نفسي، أجنح إليك، ألاحق في مجازفة سحرك الوهاج، وأرسم قدك المتراقص وفق إيقاع ذاتي، فوق زجاج الحافلة، وفي عيني.
من شمالك، يأتيني هزال هذا الشوق، فيفقدني حتى ما ورثته من وعي، أحرق الخريطة، وما عليها من مدن، بجمرة كالتي في أعماقي، وأرشف قهوتي من قدح فارغ، ويثملني لونك القزحي، وفاكهة فيك تتجسد..
أنت، حين يتلاشى وجودك في الخفاء، أكسر قيثارتي التي بها أنحتك لحنا خالدا، وأمزق فواصل السمفونية، فألقي بذاتي في عين الصمت، لأعلن عزلتي أو أهجرك.
ترصدني عيون الليل في تحير، ينهار فراغي، ويغيض الأسى، فأخجل من نفسي، فيتمرآى وجهي على الزجاج، ثم ابتسم.. لما أدرك أن الرحلة قد انتهت، وأننا على مشارف الوصول إلى بيوتنا الدافئة، أنتصب، فأحذو حذو النازلين من الحافلة، نازلا من السماء إلى الأرض!
(*) استمرت هذه الرحلة الواقعية والنفسية سبع سنوات كاملة!