الأحد ٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧

من أجل بتراء واحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة

بقلم : د.سلطان المعاني

الأرض البكر، بتلالها وأوديتها، حلم العارف، تجسيد الرؤى، اشتياق المغامر، عناد الحجر الممعن بالانتظار، جارة باير، مربض قوافل الإبل في طرقات وادي السرحان، ريح الصهباء في مضارب بني مرة، أخت "إرم ذات العماد" وحارستها، مستودع الذاكرة من ثمود إلى ضجعم، "نزهة المشتاق" في اختراق آفاقها، وجهتنا في رحلة الكشف عن النقش القديم.

سلسلة الشراة ... هي قصة الأرض المكللة بالغار .. والتي تماهت دماً في شرايين فارسها النبطي، فكانت معشوقته التي طرزها قلائد شعر له, وقدّمها أنثاه الجميلة فصارت ندىً لوداي رم، وواجهات البتراء... ونبراساً لدروب الحرير والبخور, وهي العصية الجسورة بخيلها وفوارسها، والسهم الذي شقّ عباب الغيم, لحظة لامست جفنيه ريح الصّبا، فصارت حجارتها ونقوشها مستودع سرّها وسيرتها, وضمير أمتها، حيث لم تستطع الإمبراطوريات العظيمة، بجيوشها الجرّارة، أن تمحو سطراً واحداً من ملحمتها على حجر صلدٍ أو ظاهر رجم في رأس النقب والحسمى والراجف والخزعلي، مثلما تستطيع انتزاع ملايين الكتب والمخطوطات من رفوفها وإلقائها في مياه النهر.

شرقي الجفر.. الأرض المسكونة بالوديان والشعاب، شرايين الوادي الكبير وأوردته الممتدة على المدى من الحجاز، حتى مشرق الشمس ومغربها، في أودية شرقي الجفر ... وادي الغرة... حدرج... آبار بني مرة... العاذرية... وأم الظواين.
هضاب الحماد، امتداد الأفق في كل الأركان، التقاء الأسودين، أرض انشطار الشظايا وقدح الشرر، الأرض التي طاب لأربابها اسم الصوان، سيمياء الأرض دهشة المستكشف لخشومها، ضلوعها البارزة، تصدعاتها بضيق المكان.

هي قبلة العاشق رغم يباب الأرض وشح المطر، ورغم هروب المجرى وهو يركض إلى القاع، وإلى البعيد حيث اللا مستقر .
بادية معان ... ظمأ شجيرات العجرم، والقيصوم، إلحاح المستغيث، ورعونة الاحتياج، مستودع الآبار المكفورة، ولهاث الإبل العطشى في مواردها التي أضاعت عناوينها، فلا أثر، ولا بقايا أثاف ... لولا وشاية الرجوم.

بادية معان ... مولد السهام الصوانية، مناجل المزارعين الأوائل، ميدان طراد الخيل، مربض الضعائن، فمنذ استقام عود البشر، كانت واحة الجفر بكل كهولتها وهيبتها تشهد على أولئك الذين جابوا المكان في العصور الحجرية.

هناك في بوادي الجنوب ... صلابة الصخر والحجر، والسواعد التي زركشته، وأسست له ذاكرته، فاستحال سفر الأسفار، وسيد الأسرار، وإرث أجداد نقشوا أسمائهم، بكل اكتمال الكينونة، وإنكار الذات.

هناك على امتداد تاريخ البادية الأردنية الجنوبية، بإرثها الحضاري الواسع, عبر عصورها المتعاقبة, وباستقراء حثيث لجغرافيتها ومجموع العلائق المتشابكة, من رعي, وتجارة, وزراعة, وصهر للمعادن، وعبقرية حرف، ووجدان فياض, وشموخٍ بقدسية ذراتها, وهي ترنو إلى الآفاق والحقب البعيدة كأنها تسعى لفك رموز الخلق والتكوين أو كأنما بدت نادمة على رفض الأمانة وخجلى من النظر إلا للبعيد البعيد.

ولقد كرست النقوش العربية الشمالية والنبطية, تاريخاً طويلاً لحركة دائبة في منطقتنا, ووشت بالكثير الكثير من أسرارها لاستكناه مكوناتها الثرة والطافحة بمجد العصور الممتدة إلى ما قبل القرن الثاني قبل الميلاد, مما يحتاج إلى بحث مستفيض، ووقوفٍ طويل لإحصاء ومحاكمة هذا الكم الهائل من النقوش والنصوص والأثر، وبما تختزله حجارتها من عوالم ظلت صفحة مطوية آلاف السنين لأجيالها الحاضرة, ولتلك التي لم تأت بعد, بتناغم مذهل لاتجاهاتها، مشكّلة في ما بعد أعظم أسطورة بنتها تلك الأكف السمراء والأجساد النحيلة، والكثير من الجوع والعطش، الأمر الذي ساهم بأن ترفع دولة الأنباط العربية وتيرتها بقوة وتعمل على صون تلك المقومات لها حتى تملأ الأسماع وتغازل القلوب وتترك لنا حنيناً لا ينضب للحارث الثالث، علاوة على ما استطاعت هذه الدولة أن تحققه من دورٍ ريادي بالإبقاء على حركة التجارة المارة عبر المنطقة، ضمن مستوى عالٍ من الأمن في كافة مناطق نفوذها، والذي إمتد في كل الأرجاء والفضاءات، قلبها الأردن، وأذرعتها في سيناء والحجاز وحوران وسواحل البحر المتوسط في فلسطين.

وتبقى معان.. مستودع الأسرار والبوح معا، تشكلت فيها توليفة الحروف، كوفية، وحجازية، وشامية. هناك ... تتحدر الروح على بواباتها، بأنسامها الندية، وطغيان موسيقاها، وقد داهمتك دهشة الحرف الثمودي التبوكي ستة قرون، أفقيا، رأسيا، دائريا، ليطبق عليك جهاتك الأربعة.

ويضل المرء وهو يدخل مناطق الحمّاد والحرّات مسكوناً بهاجس الاستكشاف وروح الفضول, والحقيقة بهذا الجانب هي البادية الأردنية كحاضنٍ ورؤى باستكشاف ذاته دون تآمر مسبق بين حميمية تلك الرجوم المترامية على المسافات وقد ظنها الباحث قليلاً ولكنها كعلامات طريق للتنقل والتجارة أو لإيجاد ضالته في نفسه من خلال تلك الرجوم التي كما لو كانت محروسة بالشمس ومسيجةً بالعظمة حين تقع عيناه على نص لم يقرأه أحدٌ بعد كاتبة إلا هو, إذاً هي اللحظة الأولى للوجدانية بين الحاضر والغائب: وبين الإنسان والحجر.

بادبة معان .. وأنت أسيرها ... أسير ألقها وعنفوانها ... أسير لون الرمادي في تربتها المسكونة بالغار على قممها وسفوحها... المضمخة بدم شهدائها وقد خبٌت خيولهم في ميادين مؤاب ... وباير ... وقاع الجفر ... وفي ركني معان ... الشامي والحجازي ... وقد عقدوا العزم أن تظل السيف الذي ما نبا ... والقناة التي لا تلين.

معان وقد تماهت في القريب البعيد ... وفي الحاضر الغائب ... في سويداء العين واختلاج الحنايا ... هي معان ... دون غيرها ... موطن الأجداد مذ كانت ... على مفرق المجد ... كما الأمس والحاضر ... وقف ابنها فروة الجذامي ... وهو يقرأ على أهلها سورة الإباء، وهو المهيب في حضرة المكان... الذي أسكنه أهله قوة الروح وشريان الحياة.

معان... إيقاع القلب المسكون بالرفعة والقوة والآفاق ... وهج الشمس ... شبم السيوف... سنان الرماح ... اقتراب الجنة ... "طيبة وبارد شرابها"، حدو عيس الهواشم ... وقدح الموريات ... وصبح المغيرات.

بقلم : د.سلطان المعاني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى