الجمعة ٥ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم رافي مصالحة

مغترب في قلب وطنه

كانت نسمات كانون تلفحُ وجهي بضراوةٍ كأنّها تهمّ أن تقتصّ من لحمي في ساعات الصّبح المبكرة وأنا أنتظر من يشغلني في ذلك اليوم لقاء زهيد الأجر في ساحة شهاب الدين في قلب الناصرة التي ابتدأت تصحو من سبات ليلة قارسة البرد قضيتها في بيت مهجورٍ، بلا غطاءٍ وبلا لقمةٍ تُسكن الضّجيج الذي ما انفكّ ينبعث من أمعائي الخاويه, ليس ببعيد عن جلبة المدينة النابضة بالحياه. بدأ اليوم يتهادى متثاقلاً وكأنّ معوليّ السّاعة يحفران للنهار لحْدهُ بتأنّ ٍ مُريب ٍ، والمشغّل لم يأتِ بعد...

وعلى الرّصيف المقابل لساحة المسجد نماذجُ أخرى كثيرة لمآس ٍ تشبهني الى حدّ كبير تسللت من بلاد الحكايات الحزينه باحثة عن فتاتٍ تسدّ رمق زغب حواصلٍ مكثت تنتظر وراء الأفق البعيد، حيث تقبع في خارطة النسيان في ركن سمته البشرية "قطاع غزه".

أن أعمل أو لا أعمل مسألة مرهونة بالحظّ ، فمنذ ثلاثة أيّام وأنا أنتظر من «يختارني» من بين مئات البؤساء الذين افترشوا الرصيف وهم ينتظرون، مثلي تماما، لأيّ مجهولٍ قد تلوح سبّابتهُ فجأةً خِلال شبّاك سيّارتهِ مشيراً لمن يَحتاجهُ لهدم ِ حائطٍ، أو ينظف ساحة أو مبنىً، أو يساعد في مشاقّ بناءٍ أو نقل أثاث أو أيّ عمل ٍ قد يعود بيسير ِ المال ِ، والتنافس على الفرصة التي قد تظهر ليس بالسهل ولكثرتما انتحى نحو القتال والصّراع الدامي.

لن أنسى ذلك الشيخ الذي نقلني قبل أسبوع ٍ إلى بيت قيد البناء كي أنظف ما تراكم فيه من أكوام النفايات. كان ملتحيا ً، لا يلهج لسانه الا بالتسبيح والذكر، وإيقاع نغمات مسبحته الطويلة يداعب مسامع كل من يحدثه، واذا ما علا صوت الآذان، هرول الى المسجد بخطىً أثارت ضحكي لمّا ذكّرتني بخطوات من يسير في الماء وهو يحترص ألا يصيبها البلل !. كان العمل مضنيا ً. بعد ساعات من جمع الركام خارت بعده قواي، طلبت أجري من ذلك الشيخ الزاهد، إلا أنّه طردني، وأهانني بشتىّ بحور الإهانات وأوزانها، وهدّدني بان يشتكيني للشّرطه، فتركته وأنا أجاهد مستجمعا قواي كي أصل البيت المهجور لأغطّ في سبات حتى اليوم التالي، وأنا في صيام ٍ لا ينمّ عن تقوى، بل عن قلة الحيله وضعف الوسيله.
وبينما كنت انتظر، بدأت تتبادر الى ذهني ملامح صغاري الذين تركتهم في الشجعيه. محمد الذي برغم الوجه الملائكي الذي اطل به على الدنيا ساعة ولادته، فقد جاء ومعه أتى داء السكّري.

وفاطمه.... ليس في الدنيا فاطمة كفاطمتي. كيف أنسى عودتها من المدرسة وهي تكاد تحلق كفراشة الغابات، الى بيتنا، بيت الصفيح المتآكل، لكنه بيت دافيء يغمره الحب والرضا، وعلى الحصيرة العتيقه تكتب واجبها المدرسيّ وهالة من البراءة ترتسم حولها حتى تأوي الى فرشتها وهي تلتحف بقطعة قماش هي ما تبقى مما كان يوما لحافاً.

«يا غزاوي يا ابن الكلب !!». كانت تلك الصّرخة هي ما قطع عبق الذكريات. والصفعة الشديدة على وجهي لكأنما أعادتني الى واقع ٍ يبدو أنني قد أمعنت في الابتعادِ عنه. نظرتُ حولي، واذا به شرطي يلبس البزة الزرقاء، داهمني كما يداهم الباشق فريسته، وصفدني في يديّ بغلظة ٍ وهو يتفنّن في توجيه الصفعات الى وجهي. كانت ملامحه العربيه تنطق بعكس ما اجتهد في إظهاره. كان عربياً رغم أنفه.

ترى، هل أستحقّ ان أسمّى «ابن كلب»؟ ومنذ متى صارت «غزاويتي» عاراً أو مأخذاً؟. كيف سأشرح لهذا الشرطيّ أنني ابنُ شهيد سقط عام 82 وهو يذود عن نهر البداوي وهو منتصبٌ يأبى الإنحناء أمام بطش جيش إسرائيل. كيف أكونُ ابن كلب وقد أتيت لأعمل، لا لأستجدي الناس ولا لأتسول؟ اذا كنت انا ابن كلب ، وابي قد مات بشرفٍ لأجل قضيةٍ عادلةٍ، لم يكن خائناً ولا متخاذلا، فأخبرني من فضلك – بشرف بزتك الأنيقة ! – من أنت ومن قد يكون أبوك؟!.

لقد عشت الإنتفاضة وجابهت الجنود المدجّجة بأحدث السّلاح. سجنوني, وعذبوني، ثم عادوا وزجوا بي في السجن مرة ثانيه وثالثه. لقد تعمّدت بمياه النضال المضمّخةِ بعطر عشق الأرض على أحسن الوجوه. مررت التجربة بكبرياء وعزه وفخر ليس له حدود. يوما ما، سيتسنّى لي (وليس لك !!) أن أحكي لأبنائي ولأحفادي عن مغامرة النّضال والشّرف. وأقول لهم بأني واحد من الآلاف اللذين دفعوا الضريبة نحو الوطن, بينما مئات الآلاف من الديدان المتسلّقة ما زالت تتهرب من مستحقاتها، وهكذا ضاع الوطن.

إسمح لي أيّها الشّرطيّ أن أخبرك أنك مسكين. لست المذنب في أنك تكاد تنتزع ملامحك العربية الفاضحة من قسمات وجهك ومن لكنة لسانك. لست المذنب في أنّي تركت غزّة لابحث عن عمل. لقد راح الوطن الى ضياع منذ وقع بين براثن السماسره اللذين جاهدوا باسم الوطن دون ان يطلقوا رصاصه. وحاربوا دون ان يُخدش لهم جنب. وناضلوا بلا قطرة دم, وكدّوا بلا قطرة عرق قد تبللُ جباههم. لقد مات حلم الوطن منذ سقط آلاف الشهداء من المسحوقين الجياع في المخيمات ، وعلى موائد المفاوضات الحافلة بالدسم تاجَرَ القادةُ بدمائهم بتجارة بخسة خاسره، دراهم معدودات.

لقد بدأتُ أصحو على ضياع فلسطين وأنا أنصتُ لنحيبِ أمّي الباكية على مأساتها بعد استشهاد ابي وعلى حياة الذلّ والكفاف التي عاشتها عائلتي إزاء بذخ القيادة التي باتت تعانق قتلة والدي في العشيّ والإبكار وهمّها مضاعفة رصيدها في بنوك سويسرا واسرائيل الى ما شاء الله ان تتعاظم.

والأبطال صاروا أشباحاً. والشّهداء أوهاماً ضاعت بين أسطر التاريخ المجحف الذي لا يرأف بدم المحارب المخلص ويترك بين طياته مساحات واسعة لمن يجيد فنّ «الإستبسال» الزائف ليسطر الوقائع كيفما يشاء.

لقد تبخّر حلم الوطن عندما بدأ أمثال فضيلة الشيخ الملتحي المسبّح بانتهاج وسائل افتراس المعوزين الضعفاء غير عابئين بانسانيتهم. صار الخداع والزيف هو النهج الدارج، والإتجار بالمبادئ لغة التعامل بين الناس بحيث صار للمبدأ تسعيرة تعلو وتهبط وفق متطلبات السوق.

وبينما سارت بنا سيارة الشرطة بتأن ٍ نحو مخفر شرطة "المسكوبيه" وسط زحام مدينة زاخرة بالاحداث، وددت لو ينصتُ إليّ هذا الشّرطيُ الذي تبلدت ملامحه الجّامده جمود شوارع الناصرة التي يتدفق فيها الزمنُ تاركاً آثار حقبٍ ولت وأياماً نفقت على الأرصفةِ القديمه. وددت لو ينتبه الى أنّي إنسان، لي آلامي، وأفراحي وآمالي. وددت لو يتذكر أن لي من سيوجعه أسري، وأنّ فراخاً تنتظرني في عشّ ٍ بائس ٍ في قلب غزه لآتيها بكفاف خبزها.

توقفت السيارة. ودخلت جدران «المسكوبيه» الجازعه. وانهالت السّواعد عليّ بالضرب والركل. ليس للألم قوميه. فضربة العربي واللا عربي موجعه. لكن عندما تنظر في عيني ضاربك الذي يحسن سبّك بعربيةٍ طليقه ، تتملّكك حسرة لا تدري كنهها وتخال أنّ للوجع طعم لا أردأ منه البته. وبعد هذه «الاحتفاليّه» الداميه ، هزّت جسمي ضجّة الأبواب الحديديّه التي حصرتني في الزنزانة النتنه والدماء تسيل من وجهي ، ولم أعد أشعر بالألم الذي حلّ مكانه خدرٌ في كلّ مفاصلي.

آه ... لقد نسيت أن أقول للشرطي، لو انه فقط استمع لي للحظةٍ، انه لو شاءت الأقدارُ وأتى غزّة يوماً، إمّا بحثاً عن عمل او لغير ذلك، لاستقبلته في بيتي، بيت الصفيح الدافئ، كما ينبغي للعربيّ أن يستقبل ضيفه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى