السبت ٣٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٤
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

مريم السّوداء

أكره القطط...وفصل الخريف..... و مريم السّوداء......!!!

في صغري كنت دائما أرسم ملائكة بيضاء بالطباشير على أبواب بيتنا الخشبية الخضراء...كائنات خيالية....ملائكة بيضاء بأجنحة تطير في سماء زرقاء صافية....و كان جدّي يثني على تلك الرسوم مبتسما..

إلى أن رأيت مريم السوداء أول مرة......لكم كرهت تلك المرأة السوداء المرعبة، المريعة!! مريم السوداء.....كانت عظيمة الجسد عريضة المنكبين فارعة الطول، بشعر أجعد منكوش كنباتات شوكية، قاتمة السواد إلا عيناها اللتين يكسوهما بياض غريب و رغم ذلك المنظر الغريب إلا أنها كانت دائما ترسم ابتسامة بلهاء، و الذي زاد من كرهي لها أن كل أفراد أسرتي الكبار كانوا يجبرونني أنا وأخوتي على مناداتها بـــ"أمي مريم"رغم أن لونها يؤكد أنها لا يمكن أن تكون قريبة لي، و هي تكره من يناديها خالتي و تقول له بكل ثقة وحدة"قول أمي مريم...أمي مريم"و أنا كنت دائما أغيظها بأن أناديها خالتي!، كنت صغيرا في بيت جدّي.. و لم أستطع و أنا في مثل ذلك السن أن أفهم وظيفة مريم السوداء في بيتنا، و الذي كان يزيد من استغرابي أن كل الخادمات يأتين في أوقات متباعدة إلى بيتنا ليؤدين أعمالا محددة مثل غسيل الزرابي أو توضيب حشايا الصوف أو إعداد طعام البسيس ثم يذهبن، إلا مريم السوداء فإنها كانت تأتي كل فصل خريف، و رغم أنني أدرك جيدا أنها إنما تأتي لتخزن التمر في الخوابئ و كذلك لتعصر الزيتون على الطريقة التقليدية كل ذلك أعرفه، ولكن المشهد المسرحي الذي دائما يتكرر أمامي و أنا صغير و زاد في نقمتي عليها أنها حين تكون في بيتنا ما إن تسمع صوت سيارة جدّي العتيقة و هو يدخلها إلى المرآب حتى تقف لتنتظر من أي باب سيدخل، هل من الباب الصغير الذي يمرّ على مكتبه أو من الباب الكبير ( بالخوخة )، تترك ما في يدها و لا يهمها من في البيت أو ماذا يفعلون، تقف في باب السقيفة منتظرة إياه كالتمثال، وما إن تراه حتى تشرع في الحركة والكلام بكل أعضاء جسدها، ترتعش والسعادة تغمرها، أما جدي فيبتسم لها ابتسامة عريضة، ثم تقوم بنزع معطفه عنه و تطويه بعناية و تظل تتبعه حتى يصل غرفته و تعيد نفس الحوار الذي يدور بينهما دائما:

سيدي مرحبا يا سيدي...اشنية احوالك يا سيدي...
ويمشي جدّي أمامها بخطوات واثقة وهو يردّد نفس الإجابة:
قولي بابا يا مريم بنتي..قولي بابا...و انت لاباس راجلك لاباس و اولادك ؟؟
الحمد لله يا سيدي....

ذلك المشهد كان يتكرر أمام أعين كل أفراد العائلة الذين يسلمون عليه بشكل عادي، فقط جدّتي تنسحب لتلتحق به في غرفته الداخلية، تلك المرأة السوداء كانت تبدو لي أيضا سرّا غريبا لأنها إذا رأيتها في بيت جدّي غير فصل الخريف فاعلم أن جدّي مريض، تأتي لتساعد جدّتي في العناية به، كانت تنام في الغرفة الوسطى فإذا سعل أو عطس أو همهم تقف عند باب غرفة نومه في حالة استعداد وتقول بصوت خافت:

سيدي تحب حاجة سيدي...

ولا تعود إلى النوم إلا إذا أجابها جدّي، وقد تحمل له ماء أو تذهب للمطبخ لتغلي له شراب الأعشاب الذ ي يحبه. أما هي فلا تعود إلى النوم إلا إذا سمعنا جدّي يقول لها:

مريم يا بنتي امشي ارقد..امشي ارتاح.

رغم كل ذلك لم أفهم سر تعلق جدّي بتلك المرأة السوداء ولا سر إخلاصها في خدمته بكل ذلك التفاني بل إن حيرتي ونفوري من تلك المرأة تزايد نظرا لما حصل في ذلك اليوم الخريفي البارد، كانت مريم السوداء في السقيفة تجلس على كرسي خشبي صغير وأمامها القالب الحجري الضخم تدفعه بيسراها و الذي سرعان ما يندفع إلى فوق ثم يعود إليها في حركة بطيئة على أرضية حجرية صلبة في شكل نصف دائرة، و ما إن يرتفع القالب الحجري الضخم حتى ترمي بيمناها حفنة من الزيتون و هكذا تتوالى الحركات بتناسق عجيب و قوة هائلة من زنديها العاريين القويين، و من الناحية الأخرى أسفل الأرضية يجري زيت الزيتون في ساقية صغيرة سائلا ذهبيا قاتما ينسكب في كبرياء داخل إناء فخاري. وكان جدي كل سنة يأخذ محصول الزيتون إلى معصرة في ولاية صفاقس ولكن يُبقي بعض الأكياس ليعصرها بطريقة تقليدية، أما مريم السوداء فحين تكون في السقيفة تبدو كآلة تعمل بجد وصمت وربما تبتسم لنا فتتحرك بسرعة رغم ضخامة جسمها الذي يبدو لماعا و هو ينز عرقا، وبعد ساعة تتوقف لتفصل النوى عن قشور الزيتون المعصور الذي تراكم تحت الحجر، بعد ذلك تذهب للمطبخ لتأتي بقصعة خشبيّة ضخمة تعجن فيها الدقيق والماء وقشور الزيتون فتكوّن عجينة ضخمة تظل تعركها بقوة ثم تتركها و تذهب لتشعل النار وتعد الحمّاص الطيني الذي ستعدّ عليه خبز الكسرة. بعد ذلك ترجع إلى الزيتون تعصره و حين يقترب الظهر تكون مريم السوداء قد بدأت بإعداد الخبز فتوزع علينا قليلا نحن الصغار و تمنع الكبار من تذوقه قبل جدّي، أما هي فإنها تنضاف حركة ثالثة إلى حركتها الآلية الأولى: اليسرى ترفع الحجر واليمنى ترمي حفنة الزيتون ثم نفس اليد ترمي بقضمة خبز حار عطر في فمها بعد أن تغمسه في الزيت ذلك كان دأبها كل يوم.

في ذلك اليوم الخريفي البارد و قد اقترب الظهر جاءت عمتي فاطمة لتزورنا و سلمت على مريم السوداء وهي في خضم عملها تعمل وتأكل وتعد الخبز انتظارا لجدي وبعد تبادل سلام مقتضب قالت عمتي لجدّتي و هي تنظر إلى مريم بازدراء:
ما هذه الجاروشة.!!!.ستأكل الخبز كله...ربما لن نتغدى اليوم..

وما إن سمعت مريم السوداء كلامها حتى جحظت عيناها و قامت من مكانها وهي تنتفض وتشهق بالبكاء و اندفعت تركض نحو غرفة الأولاد الداخلية، دخلت عمتي البيت وكأن شيئا لم يكن. لكن جدّتي وأمي ركضتا نحو مريم السوداء الذي أخذ بكاؤها يتزايد بل كنا ونحن في السقيفة نستمع لها تبكي بحرقة و هي تقول:

والله لولا خوفي من سيدي كنت روحت...أنا جاروشة...أنا جاروشة!!!!

بعد لحظات قليلة سمعنا صوت السيارة تدخل المرآب فوجم الجميع و ساد الصمت القاتل، دخل جدّي من باب مكتبه الصغير فوجد الفوضى أمامه، العجين والنار ورائحة الخبز، فتّش بعينيه طويلا ثم التفت إلى جدّتي التي كانت تقف في وسط الحوش وسألها مستغربا:

أين ابنتي مريم ؟؟

سكتت جدّتي و قد لبسها الوجوم ولم تجد ما تقوله، في تلك اللحظة خرجت مريم السوداء من إحدى الغرف وهي تمسح دموعها، فاقترب منها جدّي وسألها:

ما بك؟
لا شيء سيدي...
أجيبيني ماذا حصل؟

صمتت قليلا ثم قالت:

ابنتك..ابنتك فاطمة..عيرتني بأني جاروشة و..و قالت لي..قالت لي أني لن أترك لكم شيئا على الغداء..
احمر وجه جدّي غضبا ثم قال:

فاطمة...فاطمة ماذا تفعل هنا ؟؟أين هي؟

خرجت عمتي من غرفة جانبية يلفّها الخوف و ما إن رآها جدي حتى صرخ في وجهها:

غداك ؟؟!! والله بريما هذا الكلام بريما...... غداك تأكلينه في بيت زوجك... اخرج روّح..عودي إلى بيت زوجك.
انسلّت عمتي بخطى خفيفة مذعورة إلى الباب الخارجي في حين اتجه هو إلى غرفته الداخلية دون أن يلتفت إلى أحد، و حين كان يهمّ بأن يفتح الباب التفت إلينا وقال بهدوء:

 مريم حضّري الغداء يعيّش بنتي...

لم أنس تلك الحادثة و لم يتقبل عقلي الصغير كيف لجدّي أن يطرد ابنته من أجل تلك السوداء التي ازداد حنقي عليها، إلى درجة أنني رفضت أن أجلس لأتغدّى معهم في ذلك اليوم على الطاولة فقد أشفقت على عمتي المسكينة.

و الآن وقد مر ّ على موت جدي سنوات، لم يعد أحد يذكر جدّي... جدّي ذلك الوارف كنخل الجنوب المترع بأديم الأرض الصامت كصخب الأهازيج ووجع الحكايات،لا يأتي أحد حتى أقرباؤنا..لا أحد يأتي حتى ليعود جدتي الوحيدة، لا أحد سوى مريم السّوداء كانت في كل جمعة بعد أدائها صلاة تدخل بيتنا بخطى ثقيلة وقد كسرها الزمن، ثم تتوجه إلى غرفة جدّي و تتعلق بالشباك الحديدي الأسود و هي تشهق ببكاء مرير يحز ّصمت البيت المقفر و هي تقول بصوت مختنق يهتزّ له جسمها الذي هزل:

يا سيدي يا غالي بعد ك الدنيا خالية...يا سيدي الله يرحمك يا سيدي يا غالي..

ثم تفتح راحتيها داعية له، بعد ذلك تقترب من جدّتي التي تكون قد أعدت لها كرسيها الخشبي الصغير، تجلس وهي تمسح دموعها، تشرب كأس الشاي الأخضر بالنعناع، ثم تقوم مودّعة دون أن تقول كلمة، تجرّ ساقيها الهزيلتين ونظراتها تودّع كل زاوية، كلّ ركن من البيت، و لا تنسى في كل مرة أن تمرّر أصابع يدها المرتعشة على مقبض باب مكتبه الداخلي..!!

قالت جدّتي إنه في ليلة عاصفة ماطرة، أيام الاستعمار الفرنسي وقبل الحرب الكبرى، أتى بها جدّي يمسك بها وكانت طفلة صغيرة ترتعد من الخوف والبرد و قد لفّها في برنسه الأبيض الذي كان ملطّخا بالدّماء و في يمناه كان يمسك بارودته، كان قد ذهب في الصباح الباكر إلى منطقة نفزاوة و قبائل المرازيق غير بعيد عن حدود الجزائر ليشتري صناديق التمر ككل سنة...في تلك الليلة الماطرة التي عوت فيها الريح كالذئاب الجائعة، طلب مني أن أخبّأها في غرفة نومنا، لم أسأله عنها ولا عن قصتها...ظلت مريم في البيت فترة طويلة وحين كبرت بنى لها بيتا صغيرا في مزرعة الزيتون عند أطراف القرية وزوّجها من رجل أسود كان يعمل عنده مراقبا للعمّال هناك...

حين سكتت جدتي، ظللت ساهما لحظات طويلة أتأمل الأبواب الخشبية الخضراء التي بهت لونها و قد امّحت منها رسوم الملائكة!!.....تداخلت الأفكار في ذهني و شعرت مرارة الحزن تتلفني:

لكم كنت مخطئا في صغري فالملائكة يمكن أن تكون سوداء أيضا...!!!

جدّي كان على حق فأمي مريم كانت هي ابنته الحقيقية....!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى