لا يدًا ستُلوّحُ لك بعد اليوم..!
ما كنت ُ أتصوّر أنّ تلك اليد الراقصة مع جنون القيظ المُترَعَة بحكمة الشمس...هي التي ستفتح لي باب مملكة الرجال لأول مرّة في حياتي...! تلك اليد السمراء الممتلئة التي تلوّح لي تحت أشعة الشمس العنيدة كل صباح....تلك اليد التي ما إن أراها من بعيد حتى أنفلت بسرعة راكضا متوجّها إلى بيتنا..كانت تلك رحلة طفولتي الغافية في غمام الذكريات..
في ذلك الصيف كانت أمي ترسلني كل صباح لأحمل فطور أخي الأكبر الذي كان ينهض مبكرا كل صباح ليلتحق بالعمل في إحدى حضائر البناء عند مدخل قريتنا... كان فطورا بسيطا هو عبارة عن رغيف خبز به بيضة وبعض الخضار المقلي تلفّه أمي في ورقة جريدة، و كانت توصي أخي أن لا يعود إلى عمله بعد تسلّم فطوره إلا بعد أن يطمئنّ عليّ فيُشيّعني بنظراته على طول الطريق الرئيسي الذي تكثر به الشاحنات الثقيلة و أظلّ أتّبع الظل مُجانبًا بنايات المنازل المتواضعة اتقاءً للشمس الحارقة نازلاً منحدرا و حين أصل إلى مفترق الطريق أعلى التلة، عند ذلك ألتفت فيكون أخي قد شيّعني بناظريه لعشر دقائق ثم يلوّح لي بيده في الناحية المقابلة من التلّة فأردُّ عليه التحيّة ثم أركض في الطريق الجانبي إلى بيتنا.
لم تكن الرحلة تعجبني لأنني مللتُ من معاملتي مثل طفل صغير فما كنتُ بحاجة إلى وقوف أخي كل ذلك الوقت حتى أصل إلى مفترق الطرق و لكن تعليمات أمي كانت صارمة و أخي الأكبر ينفّذها بتشفٍّ كبير..!!
كان أخي رغم نجاحه في دراسته مشاغبا من الطراز الأول، كان أمهر شبّان القرية في العراك و المصارعة بلْ أبرعهم في كل الألعاب: اصطياد العصافير بالفخ في بساتين القرية، البحث عن الكمأ في البريّة، قطف نبات الهليون من بين الأشواك، لعبة الخذروف بالخيط، غير أن اللعبة التي لا يجاريه فيها أحد و التي اشتهر بها في القرية كلها هي الرشق بالحجارة فحين يرمي الواحدة في السماء تطلق دويًّا عجيبا بل إنه كان مختصا في كسر مصابيح الشوارع خاصة مصابيح الحارات المجاورة التي تفوز على حارتنا في لعبة كرة القدم....كل ذلك زاد من إعجابي به و أنا طفل صغير.
"اذكرْ لي كل ما تراه إن كنت تحبني...كل شيء....لأنني أخاف على أخيك الأكبر.." تلك كانت وصيّتها السريّة لي، فكنت دائما أنقل لها ما يفعله أخي في الشارع و ذلك ما جعل أخي يُمعن في إشعاري بأنني غرٌّ صغير بل إنه دائما يتجاهلني و يرفض أن أصاحبه في ألعابه مع أصدقائه الكبار في الحارة فكنت ُ دائما أقف عند باب بيتنا أراقبه من بعيد... كنت مشتَّتًا بينهما فأمّي تريدني أن أراقبه فلا أخرج إلى الشارع إلا معه خوفا عليّ لأنني صغير وهو لا يريدني أن أكون معه خوفا مني لأنني أفضحه عندها لأني طفل صغير!! و هكذا انبنتْ علاقتي به على مزيج غريب من الإعجاب والكره والتشفّي و التجاهل فحين أذكر لأمي بعضًا مما كان يفعله في الحارة ينتقم مني بطريقتين: الأولى أنه لا يتركني أسير بجانبه أبدا فيسير أمامي شامخا يكلّم هذا ويسلّم على هذا ويضحك مع ذاك، أتوقّف حين يتوقف و أسير حين يسير، أما الثانية فكانت بأن يمنعني من أن أساعده في حمل أرغفة الخبز الساخنة من مخبز الحارة المجاورة، كنت أترجّاه ولكنه يرفض و حتى حين أخبر أمي و أسألها عن جدوى الذهاب معه، تسكت ثم تقول لي "أنت صغير و أخوك يخاف عليك..لن أتركك تخرج إلى الشارع بمفردك..و إن ذهب بمفرده لا أعرف ماذا يمكن ان يفعل!" كنتُ أدرك أنها متضايقة من هذا التنافر بيننا فقد كان يجمعنا شيء واحد وهو حبنا الجارف لأمّنا....
ذلك الصيف ظلّ خوف أمي يعذّبني ويُتلفني تجاهل أخي فمازال أخي يلوّح لي بيده كل صباح و يحمل الخبز وحده في المساء و أنا وراءه أتلاشى صاغرًا حزيناً...
حتى أتى ذلك اليوم الذي سيقلب كياني كمطر ربيعٍ يحترق! فعند المغرب تقريبا انطلقنا نحو المخبز كعادتنا و حين اقتربنا وجدناه مكتظا كالعادة فرمى أخي بنفسه وسط الجموع و طفق يتخلل و يدفع و يتملّص ويتمدّد بكل مهارة و بعد بضع دقائق وجدته يخرج بثلاثة أرغفة فرنسية طويلة يمسكها بأطراف أصابعه لشدة سخونتها و عندما كنت أهمّ باتباعه صاغرا كالعادة..تفاجأتُ به يلقي بالأرغفة بين يديّ و يبتعد عني بخطوات خفيفة حين لمحت أربعة فتيان يحيطون به و بيدهم عصي، تراجع هو إلى الخلف ليكون الجدار خلفه، كان رابعهم يهمّ بوضع عرجونيْ تمر على الأرض استعدادا للعراك، لكن بحركة خاطفة انتزع أخي العرجونين من الأرض وأخذ يلوّح بهما في الهواء في حين كانوا هم يحاولون الاقتراب منه لكن دون جدوى،أخذتْ الجموع تنتبه للّذي يحدث و لكنها اكتفت بالتفرّج، أخي يعضّ على شفتيه بحزم و هم في بهتة من أمرهم، كانت حلقتهم كلما ضاقت حوله كلما تسارعت حركات يديه فيتباعدون....أخذني الخوف و اخترقتني الحيرة و لم أدر ماذا أفعل كي أساعد أخي و ما كنت أعرف سبب العراك هل هو ثأر قديم أم هناك شيء آخر و بينما كانت الأفكار تعترك في داخلي..انتبهت إليه يناديني بأعلى صوته نوري...نورالدين.." نظرتُ إليه متوثِّبا عندما رأيت عرجون التمر يطير في الهواء حاملا معه كلماته الحادة: نوري...خذه إلى البيت..اجري و ما تلتفت وراءك..هيا..هيا..بسرعة "وضعتُ رغيفيْن تحت إبطيّ لم أهتمّ بالثالث الذي سقط على الأرض، التقفتُ العرجون ثم أطبقتُ عليه بكفيّ و بنظرة عاجلة رأيت أخي يلكم أقرب واحد إليه بيُمناه المتحرّرة، في حين ظل الثلاثة محتارين بينه وبيني و لا أدري في تلك اللحظة كيف استدرتُ بسرعة البرق و أخذتُ أركض و أركض و أركض بأقوى سرعة لديّ..أطلقتُ ساقيّ للريح و أنا ممسك بالعرجون و مرفقاي ملتحمان بجسدي حتى لا يسقط الرغيفان...كنتُ أركض كالمقيد وأنا مثقل بذلك الحمل... و لكني فعلت كما قال لي أخي لم التفت ورائي كنتُ أتصور أنه لو التفتُّ ورائي سأقع على وجهي..شعرت بألم خفيف في قدمي الحافيتين و أحسست بحرارة الخبز تُحرق لحمي و لكني عزمت على أن لا أخذله هذه المرة... حتى العرق الذي كان ينزف من كفيّ و أنا أمسك بالعرجون لم يثنني عن عزمي...و أخيرا لاح لي باب بيتنا فتخلّلني شيء من السعادة....و أخيرا وصلتُ بيتنا فدخلت السقيفة وارتميت على الأرضية ألهث..
يقتلني التعب...جاءت أمي مرتعبة فسألتني عن أخي و ما الذي حصل..قلت لها و أنا أبتلع اضطرابي:"كنا...كنا نتسابق و قد تغلبتُ عليه..نعم تغلّبتُ عليه..".تفرستْ فيّ غير مصدّقة..لم تقتنع لكنها أشارت باستغراب إلى عرجون التمر الذي تساقط نصفه على طول الطريق فقلت لها "أعطتنا إياه خالتي فقد التقيناها في الطريق على عربتها عائدة من بستانها" لم تسألني عن الرغيف الثالث، نظرتْ إليّ شزرا ثم حملت الرغيفين و ذهبت...ظللتُ أنتظر أخي في السقيفة حتى جاء..كان يتصبّب عرقا...بدا و كأن لديه بقعاً حمراء أسفل عنقه..نظر إلي و عيناه على العرجون ثم سألني: أين الخبز ؟؟ وماذا قلت لها...؟؟
أخبرته بكل شيء...صمت لحظة... لا أدري ربما تفاجأ مما فعلت ثم رسم ابتسامة عريضة على وجهه و أشار إليّ لندخل إليها و ما إن رآها كعادتها تمشي بسرعة وسط البيت تقضي حوائجها حتى قال لها بفرح: " أمي....أرأيت ابنك الصغير لقد تغلّب عليّ في السباق "...نظرتْ إليه نظرة فارغة فواصل: " خالتي تسلّم عليك " لم تهتم أمي بآخر ما قاله و كأنها لم تسمع بل إنها نظرت إلينا نظرة عميقة... نظرة من يبحث فينا عن الحقيقة ثم قالت:
الحمدلله على سلامتكما...
من الغد في الطريق إلى المخبز مشينا جنبا إلى جنب و قبل الوصول إليه ظل يراقب المكان كنتُ أعرف أنه كان يتثبّت من وجود الجماعة إذ ربما هي تترصّده و لكن لم يكن لها أثر..ربما كانت تتصوّر أنه سيأتي بأبناء حارتنا معه.. أنا لم أسأله عن سبب ذاك العراك و هو بدوره لم يقل لي شيئا... الشيء الوحيد الذي قاله لي و هو يضحك: "تعرف يا نوري أكلت من ذلك التمر البارحة.. ألم تلاحظ أنه أحلى تمر يمكن أن يأكله الإنسان.." ثم أردف كلامه بضحكة مُلَعْلِعَة..في طريق العودة أعطاني رغيفا ساخنا لأحمله. وبعد أن مشينا قليلا أخذ يعلّمني كيف يرشق الحجارة بدقّة، قال لي إن سرّ ذلك الدويّ هو في نوع الحجارة التي يختارها و ليس في الحركة...ظللت أجاريه و أقلّده بلا فائدة وهو يقول لي في كل مرة.. "لا عليك ستكبر وتتحسن"..وبعد ذلك وعدني أنه سيعلّمني كيف يمكن أن يكسر مصباح الشارع بحجارة واحدة...قال لي إنّه لا يمكن أن يدرّبني إلا على مصابيح الحارات المجاورة أو بعبارة أخرى الحارات العدوّة..!!
ولكن ما لا أنساه أبدا هو أنه من الغد بعد أن أوصلتُ له فطوره و في طريق العودة حين انتهيتُ إلى مفترق الطرق و هممتُ أن أستدير لأحييه ككل صباح..لم أجد أخي واقفاً على التلة... لم أره..و لم يلوّح لي بيده، في تلك اللحظة عرفتُ أنني أخيرا قد أصبحتُ كبيرا...فانفلتُّ إلى البيت أخفّ من طفولتي و أسعد من كل الرجال...!
وبالرغم من أنني لم أكسر مصباحا واحدا في حياتي و لكني تأكدتُ في تلك اللحظة أنه وحده الصمت الصاخب هو الذي يدخلك مملكة الرجال!!!
لقد تيقّنتُ أيضا أن أمي قد انتبهتْ إلى آثار العراك على رقبة أخي الأكبر و انتبهتْ في المساء التالي إلى أننا ندخل بيتنا جنبا إلى جنب و ليس واحدا بعد واحد ككلّ مرّة، لقد فهمت أنّ هناك أشياء قد أصبحت تجمعني به...أشياء ربما هي أكبر من حبّها!!
ابتسامتُها في ذلك المساء أكدتْ لي أن الأحاسيس الصغيرة هي وحدها التي تُعجزُ قيظ الصيف و رياح الشتاء!!!