طائرُ الرخّ يغادر عشَّه إلى الأبد
أجملُ النظرات هي التي تحلّق بقلبك في خيلاءْ و تُخاتل عقلك في شجنْ ....نظراتٍ لا نفهمها و لا ننْفذ إليها إلا بعد فوات الأوان !!
و أروع الانتظارات هي تلك التي تترقب فيها كائنا لا تعرفه !!
“في المرة القادمة … في المرة القادمة سأبقى مدة أطول ..." هذا ما قلته لنفسي و أنا أجمع أدباشي كي أغادر بيتنا و أرحل لأستقلّ الطائرة إلى العاصمة ، كانت حركاتي متردِّدة ، ثقيلة ...لقد أمضيت أسبوعا كاملا بجانب أبي و أمي تلك التي غمرتها السعادة رغم تثاقل خطاها التي ظلت ترسم في الرواق مع كل حركة أصواتا من السعادة باهتة كالسنين ، صارخة كرائحة أديم الأرض بعد نزول المطرْ !
بقيت بضع دقائق فقط و قريبتي تنتظرني بسيارتها في الخارج حين حملت حقيبتي و هممت بالخروج بعد أن ودَّعتُ أبي و أمي و عندما شرعت في تجاوز عتبة الباب شعرت بنظرات تشدني إلى المكان ...نظرات تلسع ظهري ، توقفت والتفتُّ إلى الوراء ، كان أبي لا يزال يودّعني و يُشيّعُني بنظراتٍ صاخبة هادئة ..نظراتٍ عميقة صافية بعينيْ طائر خرافي ، كان قد رسم صورته في مخيلتي بكلماتٍ احتضنت طفولتي البعيدة ....و حكاياتٍ راقصتْ نومي على فراشي الصغير في ليالي الشتاء الطويلة .... وحين انتبه إلى توقفي أشاح بوجهه عني هاربا بنظراته إلى الخواء ....هي المرة الأولى التي أعجز فيها عن فهم أبي ...لطالما فهمته و احتضنت أفكاره حتى بعد أن هرب بخيلائه إلى الصمت و أقعد الكرسي المتحرك تحليقه الشامخ المنتفض أبدا ذلك العرش الذي لا يجلس عليه سوى ملوك أسقطهم جنون الحب وهوَس الذكريات و سُخْف الزمنْ !!
كان سرِّي الدفين منذ الطفولة فصورته دائما تغطي الغيم في سمائي ، صورة الرخ العظيم بعينين ثاقبتين و أنف متعال و جناحين ترسمان زرقة السماء و تنحتان جمال الأرض ...!
في المرة القادمة سأسأله دون تردد لأفهم كل شيء ...لن أترك الحيرة تعبث بي ....
...صورة الرخّ كانت سرِّي الصغير الذي واريتُه في قلبي كحلمٍ دافئ و لكنه حين تمطّى في أعماقي كذكرى حارقة بحتُ به لأختي الكبرى التي ضحكت عليّ يومها و أمسكت وجنتيّ الورديتين براحتها ثم عانقت أحلامي الصغيرة بعينين لامعتين ...مازال نظره معلَّقا بي كحلم طفل ليلة العيد ...فعدتُ إليه ، عانقتُه ، ألهب هو عنقي بأدعية صامتة و ربت على كتفي بيد مرتعشة حنية .... هرعتُ إلى الباب بعد ذلك أخفي انهياري و حملت حقيبتي ورحلت ، لم أشأْ أن ألتفت إليه مرة أخرى حتى لا يرى ضعفي الذي طالما علمني أن أمزقه لأبدو عارمة كالشجر عاتية كرياح الخريف ...!
على طوال الطريق في السيارة و حتى في الطائرة ظلت تلك النظرة الغامضة تبعثرني بل تجعل العجز يُشلّ عقلي الأخرس...وجهه الأبيض و هو يرنو إليّ ما زال ماثلا أمامي مرسوما بل معلَّقا على بلّور النافذة ...حلاقته لم تعجبني هذه المرة لطالما كان يحلق ذقنه دون الحاجة إلى مرآة ..كان يفعل ذلك بكل رشاقة ..أظنه تعوَّد على ذلك من أيام مشاركته في حرب تحرير مدينة بنزرت ...هذه المرة لم تعجبني حلاقته ...و لذلك حملت معي آلة حلاقته الثانية..سأشتري له شفرات حلاقة أنجليزية حديثة ...حتى يظلّ ذقنه أملس ورديًّا كما عهدته دوما ، حين عدتُ إليه هذه المرة جلبتُ له معي غطاء قطنيا خفيفا يَقِيه من البرد و علبة شكلاطه خالية من السكر يحبها كثيرا هي شبيهة بتلك التي كان يشتريها لي و أنا طفلة صغيرة ...لكن الشفرات لم أفكر فيها ...هذه المرة لم تعجبني لا حلاقته و لا نظراته .....ما الذي كان يريد أن يقوله لي ....؟ أحسست أنه كان يصرخ في صمت صاخب ...تُرى ما الكلمات التي كانت تصطخب وراء ستار تلك النظرة اللزجة ؟؟!
أغمضت عيني و قد كنت متأكدة أنه في المرة القادمة سيكون أجمل ...!!
تذكرتُ ما كان يفعله من أجلي مذْ كنت طفلة : غناؤه الصباحي بلغة فرنسية مضحكة يهدهدني لأنهض في الصباح للذهاب إلى المدرسة ...يداه القويتان تغرسان شجرة الزيتون في حديقة بيتنا الخلفية ...اعتداده بطوله الفارع وهو يمدّ جناحيه ليقطف لي حبة تين من الشجرة العتيقة التي تحمي ظهر بيتنا ......ابتسامته البيضاء صباح الأحد حين تراقص أصابعه فنجان القهوة مع أمي يحتسيانها في خشوع عند ظل شجرة المشمش العتيقة الوارفة ...مذاق الحَبّ الذي يضعه في جيب سترته كلما عاد من عمله مساءً ....صوته يرتل القرآن مصليا في دعة وهو منغمس في ظلمة الفجر ....كنت أفهم نظراته الصافية دون أن ينطق كلمة واحدة ....المرة الوحيدة التي كان يبتلعه فيها الصمت هو حين كان يوصلني في هدوء إلى مقر عملي بسيارته التي تخترق بساتين الرمان و النخيل على طول الوادي الأفعواني ، بعد إحالته على المعاش و الذي صادف تخرّجي من الجامعة .....لقد أصبح عاجزا عن التحليق كنت أشعر بفخره بي و هو يراني آخر بناته أكبُر...و أُحس بحزنه النائم و هو يرى بيته يخلو من بناته و أولاده سنة بعد أخرى...كلما حاصره الفراغ ازداد انزواء وتيبست أجنحته العاتية ...في السنوات الأخيرة أصبح أكثر صمتا و حكمةً و لكني كنت أفهمه حتى حين وقفت أمامه ذات صباح ولم ينتبه إليّ و اكتشفت يومها ضعف بصره وتداخل الصور أمامه ...فأخذته مع أختي الكبرى إلى الطبيب ليجتث ماء مزمنا كان نائما في عينيه ، حتى في تلك اللحظة كنت أفهمه و أعرف أن أبي أعتى من كل الأوجاع !!
في المرة القادمة سآخذه للطبيب ليفحصه بشكل دقيق ....وسأبقى إلى جانبه مدة أطول.... و سيجيبني عن كل أسئلتي.... و سيكون أجمل بلحية ملساء و نظرة قريرة ...و سأعانقه و أقول له :
أحبك يا أحمل طائرٍ يجلس على عرشْ !!
تحسستُ جيب حقيبتي الخارجي باحثة عن آلة الحلاقة ...وجدتُها ...سعدتُ بها...متأكدة المرة القادمة سيكون أجمل ..!!
هذه المرة أحسستُني عاجزة عن فهمه ...رحلتُ.....تركت تونس كلها و لكن طفولة قلبي تركتها نائمة تحت جناحيه كالملائكة ..أما عنفوان عقلي فقد خبا و ازداد عجزه حتى حين راجعتُ في مخيلتي طلباته الغريبة في الأيام الأخيرة قبل أن أرحل و ذلك حين طلب مني أن آخذه إلى بيت جدي المهجور وسط المدينة أو حتى عندما رجاني أن أدفع كرسيه نحو الباب الخارجي ليتأمل الشارع و كأنه ينتظر شخصامّا ...أخذتني الحيرة و عجز عقلي عن الفهم :
في المرة القادمة .....سأسأله :
لمَ كان ينظر إليّ هكذا ...؟ ومن كان ينتظر ؟؟
بعد أسبوع من رحيلي عن تونس ...سأدرك أن كل تلك الإجابات كانت غافية في ثنايا قلبي و لكنّ القدر شاء أن يحوّلني بكل البساطة من عاشقة حالمة إلى سخريةٍ مريرة !......بعد أسبوع ستأتيني الإجابة من صوت أختي الكبرى عبر الهاتف تخنق شكّي ...كانت كلماتها تحزّ قلبي و تتركه يتيما بلا أجنحة ...
في ذلك الفجر الشتوي البارد عرفت لمَ كان أبي ينظر إليّ بتلك الطريقة و عرفت أيضا من كان ينتظر ..عرفت كل ذلك من عبارة أختي المترددة المختنقة..فهمتُ ذلك حين قالت لي بصوت منتفضٍ :
أختي الصغيرة ...طائر الرخّ غادر عشّه إلى الأبد !!
توقف كل شيء في لحظة ...لم يبقَ سوى نشيج أختي يهزّ الهاتف في شجن ....انتفض قلبي كعصفور ذبيحْ و عقلي يشدّني و يصرخ في الخواء الذي أشلّني ...يصرخ و يصيح ويبكي قائلا :
" في المرّة القادمة ... في المرّة القادمة لن يكون هناك مرّة قادمة ! "