ظلمة الحيز ومرارة المأساة
يبدو عالم كمال الرياحي الروائي متجذّرا في واقعه إلى درجة التماهي وقد برز ذلك واضحا منذ روايته الأولى «المشرط»، لقد بدت رؤيته للعالم والوجود متماهية مع المعيش اليومي الذي تمثله فئة المهمَّشين والمَقْصِيّين رغم تَمظهر بعض التجليات التخييلية ولكن هذا العالم الروائي تكامَل و توضَّح في الغوريلا رؤيةً واضحة متكاملة للإنسان والوجود وكأن ملامح هذه الرؤية هي أشبه بلعبة «بازل» تتكون أحجارها شيئا فشيئا لتجعل القارئ يجول في الحيز ويلاحق الحدث ليكتشف المسكوت عنه المتواري خلف لغة مشحونة متقنة.
لقد تناولت عديد الدراسات النقدية الناحية الدلالية الأكثر حضورا في الرواية أعني بذلك صورة المهمَّشين وأبعادها السياسية غير أن الذي يجعل الرواية علامة فارقة في الحركة الأدبية التونسية المعاصرة ليس جدة الحدث أو طرافة الموضوع فحسب بل إن ما ميزها هو تنوع الأدوات السيميائية الفنية التي وُظفت لكشف وتكثيف الدلالة مما أجبر العنصر الميتاسردي على البروز في نهاية الرواية وكأنه كان على مدى الأحداث يحرك شخوصه وسارِدِيه من وراء حجاب أو بالأحرى من وراء حيّز هذا الحيز الذي بدا في الظاهر متواريا في فعله السردي ولكنه حاد عن دلالاته الكلاسيكية بان أصبح فاعلا رئيسا في شحذ المعاني وإصابة الحاف منها.
لقد سعى الرياحي إلى بناء روايته على تحدٍّ فني كبير ألا وهو تحويل المهمَّشين إلى أبطال فتحوّل شارع الحبيب بورقيبة من مجرد فضاء روائي عادي -هو أشبه بسركٍ فرجوي يصوّر صعود «غوريلا» برج ساعة عملاقة- إلى حيز سردي روائي يروي قصة ثورة، في هذا السياق يؤكد جوليان غريماس على أن: «تشكيل الفضاء الروائي من الكلمات أساسا يجعله يتضمن كل المشاعر والتصورات المكانية التي تستطيع اللغة التعبير عنها» ولا بد من التأكيد في منطلق دراستنا على أن المكان يشير إلى حيزمّا يحيط بنا ونطلق عليه اسما وهذا المكان لابد أن يتسم بصفات محددة و محسوسة برغم أنه أصلا تجريد أو فكرة عقلية مجردة تساهم في توتير الحبكة وتبئير السرد بشكل مباشر أو خفيّ. من هنا جاءت أهمية دراسة الفضاء السردي في رواية الغوريلا حيث أصبح الوصف المكاني مساهما بشكل كبير في تشغيل الديناميكية الحكائية، مما يزيد من بلاغة التعبير عن الموقف السردي بالمعنى الذي ذهب إليه جيرار جينات حين أكد على أهمية البعد الوصفي التأملي التفسيري لوصف الحيز و الشخوص.
تشكّلات الحيّز الروائي:
أ – البناء السياقي:
في رواية الغوريلا يتكون الحيز الروائي من أماكن مختلفة في شكلها ودلالتها فالرواية تنفتح على مكان عام مفتوح هو شارع الحبيب بورقيبة و هو نفس الحيز الذي تنغلق عليه تقريبا، مما يؤكد على أن المكان الروائي دائريّ في شكله العام. لا يختلف بناء الرواية المكاني عن البناء المعماري للعاصمة تونس فإذا كانت المدينة (المبنى من حجر) متكونة من شارع رئيسي وأحياء خلفية وسجون وإصلاحيات و معسكرات فإن الرواية (المبنى من كلمات) متكونة من حيز رئيسي و أماكن حافة تؤسس للوحات مختلفة وأطُر متباينة تبرز التماهي بين اللغة والصورة و في هذا الصدد تتنزل قولة رولان بارت " عالم المدلولات مرتبط باللغة فحسب كمكوِّن للصورة ". كما تميز الحيز الروائي
بالتضمين فيبدو شارع الحبيب بورقيبة وكأنه الحيز الإطار الذي يضم جملة من الأماكن المختلفة فالشارع يضم الأحياء والأحياء تضم المواقف والمواقف تحيل على الشقة، سلسلة من الأماكن التي تترابط على شكل الدُّمى الروسية و مع كل مكان جديد يكشف لنا الرياحي بكل شحٍّ فني احترافي سرا جديدا من أسرار شخوصه.
إن الحدث القادح الأوّلي في الرواية و هو صعود البطل صالح الغوريلا إلى الساعة وقد وقع ذلك في الحيّز الرئيس مما يؤكد أهمية المدينة كإطار للأفعال السردية و بناء الأحداث، في الطرف المقابل كانت القرية في وجوهها المختلفة حاضرة و لكن ربما في مساحة نصية أقل، و بين المدينة والقرية تتشتت الشخوص وتخوض صراعات عنيفة من أجل البقاء و إثبات الذات و كذلك الثورة على النظام القائم في تجلياته المختلفة الاجتماعية والأخلاقية و السياسية.
تشكلت الرواية من تسعة وثلاثين فصلا إذا حذفنا منها الفصل الأخير و فصلين ورَدا في شكل " خبر عاجل " يمكننا عند ذلك أن نقسم الرواية إلى ثلاثة مقاطع كبرى، كلّ مقطع يتكون من اثنيْ عشر فصلا، سنتتبع في كل مقطع ورود الحيز الحكائي نصيا و بشكل سياقي كما أورده الراوي علما وأنه في كل فصل أخذنا الحيز الأكثر حضورا إذ في بعض الأحيان قد نجد أكثر من مكان:
شارع الحبيب بورقيبة (العاصمة) – المقبرة – أقبية التعذيب في وزارة الداخلية – مرقد الزعيم بورقيبة (مدينة المنستير) -الشقة – الملجأ – قاعة السينما – الشارع- محل التصوير- مرمى الكرة ( أفريقيا) – القرية.
موقف السيارات(العاصمة)- السجن الإيطالي- بيت من جثث- المدينة – شارع بورقيبة- الشارع- مزرعة البطيخ- السجن- القرية – بيت الجط – حي في المدينة – شارع الحبيب بورقيبة.
مزرعة الجط - المدينة – المبولة في المدينة – معسكر التدريب – القرية – مرقد الزعيم بورقيبة – الجبل- القرية – الغابة- شارع الحبيب بورقيبة.
نلاحظ من خلال هذا التشكيل السياقي للحيز الروائي الآتي:
تعاظم دور المدينة فهي الأكثر حضورا نصيا في الرواية، فقد أثّث الرياحي ركحه الروائي من البداية قائلا:
"العاصمة الخالية يشوّش سكونها معتوهها الشهير" فقد ضمت المجنون و القفر و الأشياء "منهوبة الروح" يعني بشكل أوضح: المدينة = جنون+ موت. ولابد من التأكيد هنا على أن المجنون رغم أنه يأخذ صورة المهمَّش في الرواية فإنه يحيل على صورة الحكيم بالمعنى الذي ذهب إليه ميشال فوكو في تأكيده على أن الجنون ماهو إلا معرفة لأن هذه الصورة العبثية كلها تمثل في الواقع عناصر معرفة صعبة و منغلقة وباطنية، فمعتوه المدينة يرى ما لا يراه العقلاء فهو من بداية الرواية يحذر الناس من خطر داهم: "يأخذ المعتوه في إبعاد الناس وتحذيرهم من سم العقارب ثم يبدأ برجم أعدائه " إنه بالضبط ما يقوله المفكر هنري بركسون عن تطور ثقافات الشعوب:" أن نخمّن الحدث يعني أن نتذكر" و كأننا بالرياحي قد قسّم الأدوار في روايته من البداية على الشكل الآتي: المجانين يخمّنون الأحداث و الشخوص تتذكر مآسيها.
القرية رغم انحسارها نصيّا لكنها الأكثر فعلا في الشخوص، تبدو مكانة القرية كحيز متزايدة في الرواية حيث أنها في المقطع الأخير تجاوزت انحسارها إلى نوع من الانتشار جعلها فاعلة رئيسا في الشخوص والأحداث ذلك أن الامتداد الطبيعي للقرية هي الخلاء و البرية إنه انعزال ومصافحة للطبيعة يتخذ شكل طلب الملجأ و الهروب أحيانا و يلبس لباس العنف أحيانا أخرى " كان المعسكر عند الوادي في مكان بين جبلين لا أفق فيه "، فالقرية هي التي شكّلت هوية الشخصيات و بنتْ هياكلهم الشعورية والنفسية إذ ارتبطت بالعنف و خاصة الاغتصاب كما في مشهد الاعتداء على سعدية أخت صالح الغوريلا " قبل سنوات وجده في بيته يركب أخته بالقوة عندما قام عنها وقف أمامه متحديا ثم التفت إلى الفتاة العارية و بصق عليها "، هذه الصورة للقرية في الرواية لا تختلف عن مفهومها الذي حدده الفيلسوف ماكس فبير والذي يتأسّس على معنى المواجهة والمراقبة، المواجهة بمعنى القوة و العنف و المراقبة بمعنى السطوة الجماعية وتراجع إرادة الفرد.
لم يحظ البطل صالح الغوريلا بما كان يرجوه سواء في المدينة أوالقرية بكل مكوناتهما، فإذا كانت القرية قد زرعت فيه شعور المهَّمش المهان الضعيف فإن المدينة قد حوّلته إلى مجرم و مَقصيٍّ ومتهَم في نفس الوقت، كلاهما (المدينة والقرية) قتل فيه إنسانية الإنسان فحوّلتاه إلى غوريلا و لذلك كانت رحلته بين المكانين طلبا لآدميته و بحثا عدميّا عن الحياة، لقد كانت سفَرا من الموت إلى الموت: "ما إن رآه معتوه المدينة حتى أصابه الذعر وهو يردد: " أنت لست حيا أنت ميت عد من حيث أتيت..أدرك نفسه داخل القطار يركض نحو قريته..و ما إن اقتحمها حتى اعترضته جثته عارية.."
ب- البناء الاستبدالي:
نقصد بالتشكل الاستبدالي: الحيز الروائي في وضعيته الأولى قبل أن يخضع لنظام الخطاب، إنه الفضاء السردي في مستوى الحكاية، و لقد رأينا الحيز في الرواية بعيون السارد يعني كما رآه هو، و بالتالي كان لزاما علينا أن نعرف كيف بُني الحيز لنعرف دلالته و لا يمكن معرفة البعد المعرفي إلا بمعرفة حقيقة المكان قبل أن يتشكل جزءا من هيكل الرواية العام، وفي رواية الغوريلا تعدّدت الأماكن ولكنها تكثّفت لتظهر في بداية الرواية ونهايتها مجسَّمة في مكان واحد هو شارع الحبيب بورقيبة الذي جمع بين حدثين مهمَّيْن الأول صعود صالح الغوريلا برج الساعة و الثاني اندلاع شرارة الثورة " تتقدم فجأة مجموعة من الجماهير نحو برج الساعة نتقدم وراءها نصرخ بلسان واحد: قتلة ". لقد شكّل شارع الحبيب بورقيبة ركح الأحداث وواجهة المدينة الجميلة، فهذا الظاهر المكاني الخدّاع يبطن وراءه فضاءات مريرة و مآسٍ مفزعة أكثر فعلا في الحدث و أكثر تأثيرا على الشخوص.
يمكن القول أن البناء الهيكلي للحيز الروائي في مستواه الاستبدالي كان على هذا الشكل:
الملجأ- القرية ( المزرعة + المغارة +البئر )– المدينة – الشارع – أحياء العاصمة – المواقف – السجن – أقبية التعذيب – المقبرة – المعسكر- قاعة السينما – مرقد بورقيبة- محل التصوير- الجبل – المغارة – الغابة – المبولة.
هذه الأماكن حين ننظر فيها مجردة من سياقها الروائي تبدو لنا متساوية لغة و دلالة ولكن إذا طبقنا عليها مبدأ المفكر ادوارد هال القائم على مفهوم التداني والذي يؤكد على أن الاستعمال الفني للمكان هو الذي يحوّل الحيز إلى منتوج ثقافي.هذا المفهوم سيُبرز دور السارد الخفي الذي راتَب الأماكن حتى جعلها متفاوتة الدلالة متباينة الأبعاد.
1-البعد الاجتماعي:
ينقسم الحيز إلى قسمين الأول وهو المركز ويضم العاصمة وشارع الحبيب بورقيبة وكل ما يدور في فلكه من مقاه وميادين وهو مكان جميل و مسطَّر بشكل دقيق تزينه الأضواء و الواجهات الجميلة وهو ينتج شخصيات سويّة تمثل صورة المجتمع الذي يعيش الرفاهة والسعادة و يولّد نموذج المواطن النمطي المرجو الذي كان حضوره باهتا ومنعدما ويقابله من الناحية الأخرى الحيز الأطراف وتمثله القرية والأحياء الخلفية للعاصمة و الغابة والجبل والمعسكر و كل ما يدور في فلكها، وهو حيّز تابِعٌ هامشي هامشية من خرج منه من الشخوص وهي كلها شخوص غير سويّة غير مرغوب في ظهورها ولذلك لابد أن تتوارى إلى مناطق الظل و في ظلمة الأحياء الخلفية للعاصمة، و تضمّ هذه الشخصيات: الغوريلا- شاكيرا- الجط - بوخا – كرطوشة –هبلة. من هنا جاءت الجدليات التي تصطرع في المكان اجتماعيا و أُولاها جدلية المركز والأطراف والتي تَبرز بشكل جليّ من خلال صورة غلاف الرواية نفسها حيث يبدو شارع الحبيب بورقيبة مضاء ومزدانا بالأنوار و منظَّما بمبانيه العالية في حين أن كل ما حول الشارع يلفه السواد والظلمة الحالكة فتلك الأماكن تمثل أماكن مهمشة و مخيفة، إنها الأحياء الخلفية للمدينة و أقبية وزارة الداخلية والبئر والمغارة.
بهذا يمكن القول إن الحيز قد بنى شخوصا فاعلة نموذجية تمثل السلطة و أخرى مهمّشة منحطة، و قدر هذه الأخيرة تكون مختفية متوارية عن الأنظار لأنها مرفوضة من سلطة المجتمع و هذا ما جعلها تتحول إلى عالم الإجرام والإرهاب والفساد إنهم " شعب من المفقودين و المنسيين و من الميئوس من عودتهم " إلى مركز المجتمع، لقد كان صالح الغوريلا بطلا إذ أن صعوده السينمائي إلى برج الساعة مثَّلت صرخة المظلومين فقد أراد أن يصبح ولو لمرة واحدة بطلا ولو كان ذلك مجرد محور لخبر عاجل في قناة تلفزية، أراد البطل أن يؤكد للمدينة أنه موجود كإنسان يفكر و يحس وليس حيوانا أسود وصل به الأمر إلى أن يكون أداة لتحقيق الرغبة الجنسية لسيدات المجتمع المخملي الثريات و لعل الرياحي قد أبدع في اختيار المكان المناسب الذي يبيّن فيه المفارقات التي تصطرع في جسم المجتمع التونسي في نظرته للمواطن الأسود و ذلك في مشهد الحافلة حين كان البطل ذاهبا لحضور جنازة أمه و الذي صادف ذهاب الجمهور لحضور حفلة الفنان مايكل جاكسون في قبة المنزه فنظرة الانبهار للنجم الأمريكي الأسود المُبيضّ مايكل جاكسون معاكسة تماما للنظرة إلى البطل التونسي الأسود المضطهَد إضافة إلى ذلك إذا كان الشباب يضجون بالاحتفال في ذلك اليوم فإن البطل كان منهارا تائها مفلسا و متشظيًّا بين ثلاثة أماكن: السجن والبيت والمقبرة، أما الرابط الذي يجمع بين هذه الأماكن فهو فكرة واحدة وهي الموت " يوم خرج الغوريلا من السجن وصله خبر احتضار والدته وهو يدخل بيته الصغير في أخطر أحياء أريانة الشمالية "، و لذلك لم يبق للغوريلا في النهاية شيء يخسره، لقد جرّب كل شيء، كان بين أمرين إما أن يذهب إلى قبر مظلم بعد أن عانى لسنوات ظلمة بيت الجثث أو أن يصبح بطلا و قد تحقق له ما أراد في نهاية الرواية عندما حُمل على الأعناق شهيدا فحقق أكثر مما كان يتصور: الموت والبطولة و فضْح مجتمع طبقي كاذب يعيش البهتان والادعاء والجهل و التفرقة العنصرية المقيتة، لم يكن صالح مثل أخته سعدية التي آثرت العودة إلى العالم الذي خرجت منه وهو عالم الظلمة "سعدية أخت الغوريلا لم تحتمل أن يراها صالح عارية أمامه فرمت بنفسها في البئر".
وهكذا تعاملت بعض الشخصيات مع المكان تعاملا انهزاميا مثل أخت الغوريلا و بعضها انتقم من المدينة المركز بأن حوّل العنف الذي زُرع فيه منذ الصغر إلى مكان أرحب، يقول كرطوشة أحد فتوات العاصمة " عشرون سنة بعد غزو العاصمة كانت كافية لأحوّل الكبارية الى صورة من صور القرية المذعورة " و هكذا تكتظ الرواية بمعارك و حروب ضارية على مناطق نفوذ، يقول بوخا " لا يعلم الناس المساكين أن الطعنة قبل أن تُجهز عليّ باضت لها باندي جديدا. الملاسين لا تعيش بلا إله يديرها " هذا الصراع الدائر بين مجموعة من " الفتوات" وصلت في كثير من الأحيان حدّ القتل، فالقانون الذي يدير هذه المناطق هو قانون المادة والقوة، هي مناطق خارج الضوء، مناطق خلفية تعاني التهميش و لذلك لا نستغرب أن يبتكر هؤلاء المهمَّشون قيَما اجتماعية خاصة بهم، كل هذا العنف يفسره علماء الاجتماع تفسيرات متباينة ولعل أقربها إلى ما لمحناه في روايتنا ما ذهب إليه إميل دوركهايم Emile Durkheim فقد وجد في أثناء بحثه في التبدّلات الموضوعية لإشكاليات القهر والتسلط في الحياة الاجتماعية أن العنف ظاهرة ثقافية أتت مع رياح التطور الاجتماعي، ومع تحول المجتمعات الإنسانية من مجتمعات بسيطة إلى مجتمعات مركبة.و هذه المجتمعات المركبة المتداخلة هي التي حولت الفضاء الاجتماعي إلى غابة تتقاتل فيها الحيوانات الضارية، يقول "كرطوشة " في نفسه وهو يرى الغوريلا معلَّقا في السماء "ورائي الآن أهم مهمة عليّ أن أجهّز نبالي جيدا....الصيد حرّ الآن." بل إن وحشية المجتمع نجدها مبثوثة في مواطن عديدة من الرواية كما في مشهد اغتصاب حبيبة حيث أن كل الصور الجمالية مرتبطة بالحيوان " عوتْ الذئاب من حولها و حوّم البوم فوق رأسها...وقف أمام سريرها يسيل من عينيه شبق أحمر مثل لعاب كلب مسعور" و لذلك في مجتمع قائم على التفرقة والظلم والفساد يتحوّل الفردُ السوي العبقري القادر على الخلق إلى مجنون غريب تائه مفارق للزمان و المكان " لا أحد رأى مجنون الشارع اليوم...كان يبدو مشروع عالم كبير ينمو بيننا "
البعد السيكولوجي:
إن الفصل بين الجانب الاجتماعي والسيكولوجي هو إجرائي، فلو استندنا إلى التوزيع الهندسي الاجتماعي للجلوس في الأماكن الخاصة والعامة سنجد أنه في الرواية لا وجود لفضاءات حميمية مريحة تجمع بين الشخوص إلا في بعض الأماكن العابرة كالمقاهي، أما الفضاءات الطاغية في الرواية فهي الفضاءات الرسمية التي تدل على الغربة و التنافر بين الشخوص و لعلّ خير مثال على ما ذكرنا مشهد قاعة السينما الذي جمع بين شخصيات أربع هي: الغوريلا و حبيبة وشاكيرا والعجوز وهي شخوص لا تعرف بعضها البعض و لكن يجلسون جنبا إلى جنب لمشاهدة شريط سينمائي هذا في الظاهر و لكن الحقيقة أن كل واحد منهم مسكون بدافع خاص فحبيبة تريد من العجوز المال والغوريلا يريد جسد حبيبة و شاكيرا راغب في الغوريلا فالذي يتحكم في الأربعة هو الرغبة و الافتقار والعوز..لقد كانوا جميعا غرباء في مكان غريب ومظلم.
يبدو الجانب السيكولوجي مرتبطا بالمكان بشكل وثيق و حاضرا أيضا في التأثير في شخصية الفواعل في الرواية و بذلك يرتسم في ذهننا مثلث متكامل تبدو فيه العلاقة جدلية بين العناصر الثلاثة الآتية:
– المكان المغلق الغريب
– الطفولة غير السوية
– السلوك المضطرب
هذا المعنى يتجلى في شخصيتين متقاربتين في التكوين و البناء السيكولوجي برغم الاختلافات البسيطة: الأولى هي البطل صالح الغوريلا الذي اختطفت منه طفولته مذ كان في الملجأ بل ستتعقد وضعيته لأنه تشيّأ إذ لم يرض أحد بتبنيه " كان هو كالمعطف الأسود الخشن في فصل الصيف ما من زبون يريده " هذه الطفولة ستنمّي الشعور بالاختلاف والنقمة عن الآخرين و لكنها ستحوّل الشخصية إلى فئة المهمَّشين "كبول، ولد حرام،
ملقوط،فرخ..." فالبناء النفسي للبطل سيؤدي به إلى العدوانية و العنف والسجن و دخول معسكرات الإرهاب و هي أقصى درجات الخروج على المجتمع. وإذا كان الغوريلا أشبه بمعطف خشن كريه معلَّق في محل لبيع " أولاد الحرام "، فإن الشخصية الثانية شاكيرا كان منعدم التواصل مع هذا المجتمع و خصوصا مع عائلته فكان الحيز الذي سجن نفسه فيه منذ الطفولة هوخلف الخزانة: " كثيرا ما نجدك تختبئ بين الخزانة والحائط في وضع غريب.....كنت أضربك في غياب والدك و أنا منهارة وأبكي قل شيئا يا ابن الكلب.....لا تعلم أمي أن أبي كان يفعل معي نفس الشيء..." وهكذا فإن العنف الذي مورس على الشخصية في الطفولة المبكرة جعله يهرع إلى أماكن مغلقة أكثر أمانا: خلف الخزانة أو أحضان جهاد وهو ما كان يفعله أيضا صالح البطل حين كان ينزوي في مغارة الجبل، ولا ضير أن نشير في هذا السياق إلى أن سيكولوجيا الوحدة والانعزال أو الانفراد والتقوقع تعني الموت المباشر أو غير المباشر وعزل الفرد عن محيطه يؤدي إلى موته العاطفي إن لم يكن الجسدي لأن الطفل مثل الراقص تماما يتطوّر باكتساح الفضاء و اكتشافه و بالتالي لابد من التأكيد في هذا الصدد على أن الخجل ( شاكيرا ) والتقوقع والانعزال (الغوريلا) هي صفات الشخصية « المقموعة » في الصغر من قبل الأهل أو المجتمع المحيط وهي بدورها تمارس العنف (القهر والشدة) على أولادها.. ومن حولها وهكذا..، أو تصاب هذه الشخصية بالإرهاب الاجتماعي » و لهذا من الطبيعي جدا إن لم يكن من من الحتمي أن يجد كل من الغوريلا و شاكيرا نفسيهما في معسكر الإرهاب. ومن الشخصيات التي بينها تماثل في البناء السيكولوجي أيضا: شخصيّتا حبيبة وسعدية فكلتاهما تعرضت للاغتصاب و كلتاهما فقدت أحلامها و وجدت نفسها مهزومة في مجتمع لا يرحم و إذا كانت سعدية قد هربت من الحياة بالانتحار بعد حادثة الاغتصاب فإن حبيبة تحولت إلى عدم و ركبت الفرار إلى عالم آخر فقد " انسحبت إلى العدم و ركبت القطار و تركت القرية إلى الأبد " ولكن هناك اختلاف بسيط فإذا كانت سعدية قد ألقت بنفسها في حيز مظلم ( البئر)هو الموت الذي لم يكن يختلف عما كانت تحياه في القرية من نظرات ازدراء واتهام هو ضرب من الموت البطيء، فإن حبيبة على عكسها تماما بدت أقوى إذ أرادت بهروبها من القرية وماضيها الدامي أن تدخل عالم الأنوار الكاذبة في المدينة و ذلك بعد أن رمت غيرها في البئر، فكانت حياتها سلسلة من الإخفاقات المهينة وذلك يعود إلى الشعور بالعجز والضعف الذي طالما لازمها و الذي برز بشكل واضح في علاقتها بالجط الذي يعتبر حلقة الوصل بين الشخصيتين فهو الذي اغتصب الاثنتين ( سعدية وحبيبة ):" ذكرته حبيبة التي التقاها في قطار وجدة بسعدية كانت مثلها تكنس ضعفها و بعر سني الخيبة عندما امتدت يداه إليها ".
في الرواية جسّم البطل صالح الغوريلا " الهُوَ" حسب الفهم الفرويدي لبناء الشخصية البشرية فهو يجسد الرغبة والغريزة المكبوتة في أشكالها المتعددة و لذلك كان لابد لهذه " الشخصية الهو" ألاّ تبرز إلا في حالتين الأولى الحلم: ليحقق رغبة مكبوتة لدى شخصيات أخرى والثانية: غلطة (هفوة) وعلى هذين الأساسين توزعت حياته، بل إن صالحا الغوريلا كان في لحظة من اللحظات مجرد عضو جنسي يُؤجَّر خلسة لتمتيع النساء المترفات، لقد كان في ذلك تجسيما فريدا للرغبة المحرَّمة. وفي اللحظات التي أراد فيها البطل ابن الحرام (حسب التصنيف المجتمعي ) أن يكون ظاهرا للناس و ينزع عنه لعنة الهو الحرام (حسب التصنيف السيكولوجي) التي تلاحقه منذ الطفولة، في كل مرة أراد أن يقوم بذلك إلا و أفاق على حقيقته المفجعة المأساوية و قد ظهر ذلك مثلا حين طلب الزواج من حبيبة " التي عشقها رضيتْ به عشيقا سرّيًّا و عندما طلب منها الزواج رفضته "
أما شخصية حبيبة و ما عانته خلال مسيرتها الحياتية فتذكرنا بقولة عالم النفس السويسري كارل يونج Karl young: " المرأة الجميلة مصدر للرعب لأنها خيبة أمل عسيرة".
البعد السياسي:
يتجلى البعد السياسي واضحا في الراوية فيظهر بشكل بيّن أحيانا وخفي ضمني في أحيان كثيرة، وقد كان الحيز الروائي مكثِّفا للإشارات السياسية في الرواية، فالعلاقة بين المكان أو البناء والذات البشرية له دلالة سياسية بالأساس نستند في ذلك إلى قولة الزعيم البريطاني ونستون تشرشل حين قال: " إننا نصنع أشكالنا الهندسية التي هي بدورها تُشكّلنا " هذا يؤكد على أن تركيز السارد على وصف الأشياء التي تحيط بالبنايات والطرقات والقرى كان وظيفيا يصل درجة الرزية أحيانا وكان ذلك كله يحيل بشكل من الأشكال على النظام السياسي القائم و من هنا جاء التركيز الوصفي في الرواية على بناء برج الساعة مكان تمثال الرئيس الحبيب بورقيبة للإعلان عن عهد جديد " لم يبق إلا تثبيت الساعة الجديدة التي سيسير على هدي عقاربها العباد والبلاد " ومن وراء برج الساعة يكون شارع الحبيب بورقيبة الركح الذي سيبدو فيه القمع السياسي واضحا من خلال ردة فعل رجال الشرطة على ما أقدم عليه صالح الغوريلا البطل و التي كانت تدل على احترافهم القمع و كبت الحريات " فالصعود إلى أعلى الساعة جرم كبير ومعصية لا تغتفر و ما حدث يومها مسألة تمس الأمن، والشرطة في مأزق " هذا الحيز الذي كان رمزا للقمع من خلال مبنى وزارة الداخلية سيكون علامة انتصار المهمَّشين وهزيمة رموز القمع في الرواية عندما تتحطم الساعة رمزا للنظام الظالم " تتحرك الشاحنة لتسقط رأس الساعة القبيحة. تتطاير عقاربها في كل مكان محدثة هلعا بين المتظاهرين "
الحيز الثاني الذي يبرز بعض مظاهر العسف السياسي في الرواية والذي كانت تعاني منه تونس هو وزارة الداخلية و أحياء العاصمة الخلفية و الشخصية التي كانت تربط بين المكانين هو على كلاب الذي يدل من خلال اسمه على أنه كلب من كلاب الحراسة بعد أن كان يُدعى علي الذيب فقد كان مجرد عاطل عن العمل في حي منسيّ ولكنه سيصبح عصا السلطة الغليظة وجلادها الذي لا يرحم والذي يستعمل " فتوات" الأحياء ليبسط نفوذه على المدينة كلها " علي كلاب ملك الشوارع الخلفية و كل الخرابات لا تتحرك نملة إلا بأمره " بل إن هذه الشخصية التي سيصعد نجمها من مكان متدنٍّ سفليّ وهو أقبية الداخلية إلى شارع الحبيب بورقيبة بعد أن أثبت وفاءه الكلبيّ لزوجة الرئيس في عمليات التعذيب و الذي سيقوم بقتل البطل صالح الغوريلا قد أضحى في وقت من الأوقات: " يرعب الشرطة و الشعب معا فهو عصا العائلة الحاكمة "
لم يكن الظلم السياسي متوقفا على القمع والاضطهاد بل تعداه إلى فساد اقتصادي حين أصبح الاقتصاد التونسي نهبا لعائلات مافيوزية تنخر المجتمع والدولة كالأورام السرطانية و قد تجلى ذلك في شخصية الجط الذي كان تاجرا للمخدرات و بطرونا ( قواد ) في سجن إيطالي ثم يعود إلى تونس لتبييض أمواله الفاسدة عبر مشاريع مشبوهة مع عائلة أصهار الرئيس " اشريت قهوة مش ناخذك معي بعد الصيف و تكون انت العام فيها. معايا الطرابلسية " كما أن مشروع مزرعة البطيخ التي امتلكها ما هي إلا مكان قصيّ عن المدينة يبرز في الحقيقة اليد الطولى لهؤلاء الذين أفسدوا جمالية المكان في البلاد واستباحوا عذريتها ولم يتركوا حيزا في الواقع أو الرواية إلا و شوهوه ووضعوه في المزاد طلبا للربح السريع. والغريب أن الجط مثله مثل علي كلاب غير اسمه بعد أن عاد من إيطاليا و أصبح اسمه تيجاني الطليان أما في البداية فقد كان مجرد " رجل من الذنوب يركب البحر في اتجاه المجهول"
حاول الرياحي في البعد السياسي أن يوظف الأماكن بشكل جيد حتى لا تسقط الرواية في النقد السياسي المباشر فقد جمعت الحكاية بين التسجيلي والتخييلي و خاصة في مشهد الثورة في شارع الحبيب بورقيبة و لئن كان المكان متعددا في الرواية فإنه أشار إلى درجة القمع السياسي والفساد الاقتصادي الذي وصلت إليه تونس.و قد صور ذلك من خلال سمة الهروب من الحيز التي كانت تتلبّس كل الشخوص تقريبا، لقد كانت البطل يرفض ضيق الحيز فحاول الصعود إلى فضاء فني أوسع هو الموت، فلم تكن الرواية سوى مطاردة متوترة ورحلة عبثية خاضها " شعب من المفقودين و المنسيين ومن الميئوس من عودتهم"
البعد الأنطولوجي:
أكد الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر أن الإنسان أو "حالة كون الإنسان إنسانا " هي عبارة لا تشتمل على المعنى المكاني فحسب بل ستشمل أيضا على المعنى الأنطولوجي الذي يتميز بعدم التعيّن، فالإنسان كائن غير ثابت فلا نستطيع أن نحصر بعده الوجودي في مكان بعينه، و هو ما لمسناه في رواية الغوريلا حيث يبدو الفضاء الروائي متغيرا والشخوص متلوِّنة بحسب الحيز الذي توجد فيه و لكن هذا الوجود يتسم بالعبثية أحيانا لأن ملاحظتنا السابقة حول سمة الهروب الغالبة على شخوص الرياحي تذكرنا بنوع من البناء السردي الذي كان يتزعمه الروائي الفذ فرانس كافكا ذاك الذي لا يمكن فهمه إلا من خلال خط الفرار و الانفلات أو الهروب الذي يتبناه وجوديا و إبداعيا، فنلمس في رواية الغوريلا شيئا من التماثل أو التقارب مع رواية المسخ la لكافكا، إنها ملحمة التحوّل المعاكسة ( التحول بالمعنى الذي ذهب إليه كافكا ) فيروي لنا السارد قصة تحوّل المسخ (الغوريلا) إلى بطل و تغيّر العبيد إلى أسياد، و ممّا يؤكد لنا ذلك هذا التداخل العجيب بين الكائنات البشرية والحيوانية في الرواية و الذي يتجلى في فصل كامل بعنوان " أرض الورلان " حيث يتداخل المجاز بالحقيقة، ولئن اختلفت الدلالات العامة بين الروايتين (الغوريلا – المسخ) فإن ما يربط بينهما هو التأكيد على معنى العزل و تأثيره على الإنسان فالفعل الذي تنفتح عليه رواية الغوريلا هو فعلٌ مجنون يسير شيئا فشيئا عبر منحى سردي تبريري ليُتوَّج في نهايته بفعل عاقل هو الفعل الثوري و كأننا بروايتنا رحلة من الجنون إلى العقل، في هذا الصدد يقول فرانز كافكا متحدثا عن الإنسان المعزول في روايته المسخ و كأنه يلامس ملامح الغوريلا " إنها لحياة مزدوجة رهيبة حقًّا لا أظن أن هناك مخرجًا آخر منها سوى الجنون"، و في رواية الغوريلا يقدّم الرياحي بأسلوب مخاتل بطله على أنه " غول الغيلان لن يقبل بميتة الورل أو الحوت الأزرق" الذي سيُحمَل في النهاية على الأعناق شهيدا بطلا، و بذلك فقد شكّل سلوك المهمَّش بفعله الفردي المعزول قوة الفرجة (تسلق غوريلا لبرج ساعة عملاقة ) الذي سيتحوّل إلى فرجة القوة ( ثورة المفعولين على الفاعلين)، فالسرك الذي انفتحت عليه الرواية كان مجرد تزيين تخييلي أو فانتازي -إن شئنا - للمكان، من هنا نخلص إلى القول بأن رمزية الفضاء الروائي في الغوريلا هي التي شكّلت سيميائيته. و خلال رحلتنا مع الشخوص جرّح الرياحي ذاكرتنا وأثار ذائقتنا على طريقة غاستون باشلار حين يقول:" نحن نرى العالم كما نكون".
وبهذا المعنى يمكن القول إن رواية الغوريلا هي مرآة هشمت ذاتنا وكشفت عن وجهنا الآخر القميء، إنها مأساة إنسان و صرخة ذات و حكاية ثورة.