مأدبة ضائعة
لو رأيتهم وهم يحثون الخطي مسرعين إلي غايتهم، تتقاذفهم قارعة الطريق تارة ذات اليمين وأخري ذات اليسار، وهم لا يبالون بحر قد اشتعل وأطبق علي الأرض فاستحالت الدروب والطرقات مواقد تنفث من فيح الجحيم، فتلهب أجساد المارة القليلين وتجلد ظهورهم بسوط الحر المحرق، لو رأيتهم وهم لا يبالون بذلك كله، هممهم عالية ونفوسهم تأبي العودة، لظننت أنهم نافرين إلي معركة يحسم فيها الحق من الباطل، أو ينصلح بها حال الأرض المعوج، أو ربما حسبتهم يفرون من قسورة يطلبهم حثيثا أينما ولوا وجوههم، ولكن – بل ريب – لن يخطر علي بالك أنهم لا يسرعون إلا تلبية لرغبة بطونهم الفارغة التي صرخت داخلهم فأصمت صوت عقولهم ودفعتهم دفعا إلي الخروج في سبيلها، ممتطين صهو الصعاب ومرتحلين إلي حيث مورد الظمأ ومشبع البطون.
يتقدمهم طويلهم الذي اعوج ظهره من طول المسير وبعد السفر، لديه إصرار عجيب علي الوصول إلي غايته المنشودة ومأربه السامي، وهو في كل ذلك يفخر بأنه هو الذي علم بميعاد هذه المأدبة العظيمة التي سينعمون بها ويجدون ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر، وهو بين الحين والآخر يصف لهم مثل هذه الحفلات التي يقدم فيها الطعام من كل شكل ولون، لحوم ناضجة وصحاف ممتلئة وشراب بارد يروي ظمأ العطاشي ، تري طويلهم هذا يمد الخطي متحفزا كأنه لم يذق طعاما منذ عصور طويلة وقرون مديدة.
يتوسط القوم أصغرهم سنا ولكنه أحفظهم لكتاب الله، غير أنه قد اعتاد أن يقول دائما أن أكثر سور القرآن محبة عنده وأكثرهم تلاوة في بيته هي سورة المائدة، كما أن أكثر الآيات التي يرددها علي التوالي وبالترتيب هي :( ادخلوها بسلام أمنيين) ثم ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) ثم ( وما هم منها بمخرجين).
وهناك خلف الرفاق يسير أثقلهم وزنا وأعظمهم بطنا، يقفز من علي الأرض ويمشي كالأعرج مباعدا بين فخذيه اللذين قد أصابتهما القروح من جهد المسير وشدة الحر، وعلي الرغم من آلام جسام كانت تؤذيه إلا أنه كان لا يبالي، وكان أحرص القوم علي الوصول إلي المائدة لينكب عليها وينسي ما كان يلاقي من آلام، ولم لا هو لا ينقص عن أقرانه مثقال ذرة في شهوة بطنه الكبير، الذي كان ينادي عليه كل هنيهة ويحثه علي مواصلة المسير - غير عابئ بالألم - نحو الغاية المنشودة والأمل الأكبر؟!
ولكن غالبا - إن لم يكن دائما – تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ، المأدبة علي بعد مسيرة ساعات طوال، فكان لزاما عليهم امتطاء صهو فرس مسرع أو بعير مستنفر، ولكن كان ذلك اليوم يوما عسرا أحجمت جميع الظهور أن تحملهم، وأدبرت جميع الركاب مولية دبرها تاركة إياهم يقاسون حسرة خسران المأدبة ، وضياع حلم قد عاشوا علي أمله أياما، وتاقت نفوسهم إليه، وها هم يعودون خائبي الآمال، محطمي القلوب وملتاعي النفوس، فارغي البطون ومجهدي الأبدان، تطاردهم الحسرات وتغشي عيونهم العبرات.