دموع القمر
نفضت عنها الدثار وقامت وقت السحر إلي وضوئها، أخذت مكانها بين المصلين من أسرتها الذين اعتادوا جميعاً قيام الليل، وقفت بجوار أختها الكبرى واستمعت إلي صوت أبيها وهو يتلو القرآن فخشع قلبها وانسالت الدموع علي وجنتيها الجميلتين. أنهت الأسرة صلاتها قبيل طلوع الفجر، وانصرف الأب إلي المسجد ليلحق بصلاة الجماعة، ولم ينس قبل الخروج منح الصغيرة ابتسامة رضا وحنان.
عاد الأب من المسجد ليجد الجميع في انتظاره ليراجعوا عليه ما قد أتموا من حفظ القرآن، وكانت هي بارعة هذا الصباح، لم تخطيء في آية واحدة، فدعي لها الأب وسعادة ماسية تزغرد فوق شفتيه، وتلهو فوق شاطئ عينيه وهو يقول: بارك الله فيك يا قمر، ها قد أوشكت علي ختم القرآن وأنت لم تتجاوزي الثالثة عشرة بعد، بارك الله فيك يا (قمر)، لا تتصورين فرحتي بك وبأخواتك، فكل أملي في هذه الحياة هو إعدادكن لتكن جيلا عظيما لعلكم تساهمون في نصرة أمتنا المنكوبة. أومأت(قمر) برأسها ولم تتكلم بل اكتفت بابتسامة رقيقة كالورد الندي وقت الصبح.
تناولت الأسرة البسيطة طعام الإفطار، وبدأ الجميع في ارتداء الثياب، ولبست قمر ثياب المدرسة ثم انصرفت خارجة من البيت ولم تنس قبل خروجها إسدال النقاب علي محياها البريء، رأتها أمها فابتسمت وهي تتذكر كيف أصبحت (قمر) فتاة علي وشك الشباب، وهي التي كانت منذ أمد ليس بالبعيد طفلة صغيرة تتسلي بالدمى والتراب، وتطارد الفراش المزركش لونه، وتلعب مع نديداتها مبتهجة مغمورة بالحبور، وهي تطلق ضحكاتها الرقيقة في أجواء الفضاء الفسيح.
دخلت (قمر)إلي الصف، وانكبت علي الدراسة بنهم وشغف، ولكم كانت فرحتها والمعلمات يمتدحن سلوكها ومستواها العلمي، ولم لا وهي التي تردد دائما أنها تريد أن تكون عالمة ترفع من شأن بلادها وأمتها عاليا؟ وبينما هن في الصف دلفت وكيلة المعهد مسرعة وعلي وجهها توتر بالغ، ثم أسرت إلي المعلمة بشيء، ولما كان صوتها مرتفعا بعض الشيء سمعت بعض البنات كلامها وعلمن سبب هذا التوتر، وهو زيارة مسئول كبير جدا لتفقد أحوال المعهد التابع لإداراته، ما كادت (قمر) تسمع بهذه الزيارة حتى غمرتها فرحة بالغة، فأسرعت بإسدال النقاب علي وجهها، وتداعت علي عقلها الأفكار، ها سوف يدخل الشيخ الكبير إلي الصف فيراني منتقبة فيسر بي، ولسوف يمتدح صنيعي، وربما يلقي محاضرة تربوية علي الطالبات يحثهن فيها علي التمسك بالعفة خاصة وهو يعلم ما نمر به من حالة استهتار وتخلي عن الأخلاق، وهكذا ظلت تتخيل رد فعل ذلك الشيخ الفاضل، وتمادي بها التفكير حتى ظنت أنه سوف يأخذها في حضنه الأبوي الدافئ ليعزز سلوكها ولم لا وهو رجل التربية والعلم والدين؟
انتزعها من أفكارها صوت الشيخ عندما دلف إلي الصف فترك كل ما يمكن أن يعلق عليه من طاولات متكسرة، وسبورة أكل عليها الدهر وشرب، وفتيات في عمر الزهور تجلسن و علي وجههن كآبة حمل أثقال وأعباء الزمن، ترك كل ذلك واتجه نحو قمر بمنتهي الانفعال، و بدلا من أن يمد يده الحانية ليربت علي كتفها، مدها لينزع عنها نقابها، وانطلق لسانه بالزجر والردع، محطما كل ما تعلمته من قيم، ومطيحا بكل ما قد بنته من آمال.
انصرف الشيخ بعد أن أدمعت عيني (قمر)، فأسرعت المعلمات يمسحن دموعها اللؤلؤية الجارفة التي تهاطلت كأنواء غزيرة من مقلتيها، فلقد كان كلام الشيخ بمثابة الرمح الذي صوب نحو قلبها فأشجاه وأدماه، ورددت هي في فضاء نفسها الذي اجتاحه غبار الحزن، وهدرت فيه أمواج الألم:هل ما فعلته حرام أم عيب؟ إني لم أفعل ذلك إلا ابتغاء مرضاة الله، ولما انتهي اليوم الدراسي انصرفت الطالبات ومعهن (قمر) التي كانت لا تزال دموعها تترقرق علي أرضية الصف.