كازان
منذ حوالى شهر
تم الإعلان عن اسم الفائز بجائزة نوبل فى الأدب وهو الأديب البيروفانى كازان، استحقها بجدارة فقد كتب ما يربو من دستة روايات اغدقت العالم كله بمفهوم جديد للرومانسية وألم الفراق. أمعن فى وصف الأنثى وصوّر البطولة شاخصة فى ثوب صُنع بكفاءة يدوية لم تعد معهودة فى زمن الماكينات.
قبل ذلك بعشرين عام
كان الفتى كازان قد أنهى دراسته للتو فى جامعة ليما ببيرو، ومن ثمّ عمل لأحد جرائدها مراسلًا فى باريس، وهناك بدأ يتردد على المقاهي الأدبية، كانت عنده رغبة دفينة لأن يصير كاتبًا، عرف أنه يملك الموهبة، لكن كان الكبرياء ينخر كالسوس فى كل أفكاره، معتد بها يظن إنها صائبة أنّى وضعت وما عداها لهو الخطأ البين، فى ذات مساء اندفع فى جدل مع حفنة من المثقفين الفرنسيين ليثبت لهم أن الأدب الفرنسى برمته سطحى وتافه ولا يقارن بأى حال بالأدب الأسبانى، بدى فى حديثه وكأنه خبير بكلا المجالين، فتجمعت حلقة كبيرة من حوله، كان كلامه رائقًا من ذلك الكلام الذى يلمع فجأة فيلهيك لمعانه عن التبين من عمقه.
بعد أن أنهى المقهى دوامه، انفض الجمع، قام هو شاعرًا بنشوة انتصار خاطفة، فهو وإن لم يقرأ شيئًا غير بعض المقالات هنا وهناك نقدًا للأدب الفرنسى استطاع أن يقنع أولئك - دعاة الأدب- فى عاصمة الأدب أنهم ليسوا من الأدب الحقيقى فى شئ.
كان البرد قارس فى ذلك الشتاء، وقف على ناصية ينتظر أى ركوبة، وهو يفرك يداه وفجأة تسللت يد برقة لتحكم ثنيتها على مرفقه، بدى المشهد لأى ناظر وكأنهم خليلان، انسابت كلماتها سلسبيلًا رغم عن جمود الطبيعة من حوليهما.
"كم كان حديثك رائع، اتسمح لى ان اصطحبك حتى سكنك ونتحدث قليلًا".
يا ألله صار يلقى خطب وصار له معجبون، وأى معجبة كانت، فتاة فرنسية، امتزجت حمرة وجنتيها من البرد القارس مع حمرة شفتيها، وكأنها تقطر نبيذًا، وكأن كروم العنب توقفت عن النمو إلا فى هاتينك.
وهل له إلا أن يوافق، أخذا الأثنان يتمشيان، واجرى حديثًا هو الأغرب كان هو الذى يسأل وأيضًا يجيب على نفسه لا تقطعه إلا نظرة اندهاش أو ابتسامة خفيفة منها، اصطحبها لشقته المتواضعة فى أحد البنايات المتهالكة فى ضواحى باريس، جلسا حتى الصباح، هو يتحدث بنقده للأدب الفرنسى وتعليقه على مدى سماجة الشعر الفرنسى، وهى بحنو ملائكى تسمع ولا تنسى أن ترسم نظرة اندهاشها من الفينة للفينة. حاول أن يستنطقها، ولكنها لم تشاطره النقاش كما شاء ومع ذلك كان مكتفيًا بنظراتها الدافئة فى ذاك البرد القارس. هل أدهشها بكلامه حتى الوجوم؟ أم أنها كانت فقط تهزئ منه بصمتها؟! بقى ذلك السؤال هامدًا فى قاع جمجمته بدون إجابة إلى الآن.
تمنى لو تكون فتاته موهوبة مثله فى الأدب، سيشكلان الثنائى الأروع، وعندما سألها تململت قليلًا وقالت على استحياء إنها تكتب الشعر، ولكن بالطبع لن يعجبك فهو مفعم بكل سماجة الفرنسيين فى اشعارهم، لكنه أصر عليها أن تسمعه بعض ما كتبت، فرددت تلك المقطوعة:
أَى آلاَمٍ لِنُفْسَى قَدْ جَلَبْتُساكتب لَكِّ عَلَى الصَّخْرِ كَيْفَ احببتُساكتب عَلَى رَمْلِ الْبَحْرِحَتَّى يَتَوَقَّفَ المدُ عَنْ مَحْوِ مَا كَتَبْتُ
تلقف كلماتها وكأنها تكتب له قصة حياته، من هنا ودعته، ولكنها وعدته أن تمر عليه غدًا ولكن هذا الغد لم يأتِ أبدًا، جاب بقاع باريس كلها بحثًاً عنها، لكن بلا جدوى، عشقها كم لم يعرف العشق أحد قبلًا, تفجرت عنده رغبة للكتابة، سكب كل معاناته على الورق، نشر روايته الأولى والثانية والثالثة وتوالت رواياته بعدها, استيقظ العالم على معاناة جديدة فى أدب الرومانسية، من يقرأ له يظن أنه عشق لألف سنة، نعم بدت تلك الليلة له كألف سنة، ترك السوس نخر أفكاره، وبدأت كلمات قصيدتها نخرًا من نوع أخر، استلهم منها كل شئ، ظل يردد تلك المقطوعة حبسها فى قلبه، ودَّ يومًا لو ينشرها فى كل الجرائد ويسأل عن صاحبتها ولا يدرى ما الذى منعه, هل الذى كتب عن الحب هكذا عاش حياته محرومًا منه؟ هل الذى دغدغ بوصفه للأنثى كل حواسنا عاش وهو لم يحس أبدًا بها لم يحتضنها حتى أو يُقبلها؟
الآن
دخل الأديب كازان لقاعة التكريم الملكى لتسليم جائزة نوبل, تدافع عليه المعجبون, وبخفة دس أحدهم ورقة فى يده، لم يآبه لها، أعطاها لمساعده، فضها الأخير وقرئها، وهمس مساعده فى أذنه " أنها قصيدة لشاعر فرنسى مشهور يبدو أن أحد المعجبين يعبث معك لمعرفتهم مدى سخطك على الشعر الفرنسى."
كان المساعد يمسك بالورقة شبه مطوية، ومع ذلك استطاع كازان أن يلمح أخر بيتين فى تلك القصيدة وهما:
أَى آلاَمٍ لِنُفْسَى قَدْ جَلَبْتُسأكتب لَكِّ عَلَى الصَّخْرِ كَيْفَ احببتُسأكتب عَلَى رَمْلِ الْبَحْرِحَتَّى يَتَوَقَّفَ المدُ عَنْ مَحْوِ مَا كَتَبْتُ