حى على الصلاة
قبيل الفجر، وقبل أن تبسط الشمس أجنحة ضيائها على سطح العتمة، وتتبارى الديكة فى ستر عوار الصمت الأبدى لظلمة الليل بذلك الصياح الذى يتزاوج شرعياً فى أحضان النهار، قبل كل ذلك خرج هو، بجلباب حاكته إيادى الطليان منذ نصف قرن وأطلقت عليه البفتة، ولكن الجلباب أبى إلا أن يعب من كل ذرات الأتربة ونسمات الغبار التى تحررت بفعل حركة السائرين فى تلك القرية الصغيرة، أسند شاله الصوف على منكبيه، وضع عمته على رأسه، لفها مرة وأعاد اللف ثانيةً، فلكم أوقعتها من قبل دوامة الريح من فوق المئذنة العالية، تقدم بخطى المجاهدين ضد قوى الظلام، وأى ظلام كان فى تلك الليلة, وقفت رجليه عن الخطى، وأمتد صوته بخطى أسرع كثيراً وهو ينادى: يا مقدس جرجس استيقظ.
وجرجس هذا كان جاره الذى اعتاد هو على إيقاظه معه فى طريقه للمسجد، رافعاً الآذان للصلاة الأولى. ولئن أهل تلك القرية قديمًا اعتادوا -على اختلاف عقائدهم- أن يتشاركوا كل شئ، وإن توقف التشارك هذا الآن، ليس لضغينة ما لا سمح الله، بل لم يعد فى الأنفس شئٌ باقى لم يتشاركاه بعد. لذا هم تشاركوا قطعة أرض، كانت تلك فى منتصف القرية, أقتسماها، بنى فريق فى شمالها كنيسةً والآخر فى يمينها بنى مسجداً، منذ ذلك الحين اعتاد هو لفقده البصر -وليس هذا هو التعليل الصحيح بالنسبة له- أن يصطحب جاره جرجس الذى يعول بدوره الكنيسة المجاورة لمسجده، ويذهب فجراً معه ليرن جرس الكنيسة معلنا بدء الصلاة.
لسنوات سارا معاً فى ذلك الطريق من منزليهما فى طرف القرية حتى البقعة المقدسة فى قلب القرية، تجاذبا أطراف الحديث حتى لفّيا الحديثَ كله على أطرافهم، تهامسا فى كل شئ حتى فاض الجو بهمسهم، إلا أن فى ذلك الفجر شد هو بقوة على كتف جرجس، وبعد أن أنتزع كحات ثقيلة بدت وكأنها خارجة من مقبرة أمتلئت بمشيعيين جنازة أحدهم للتو، قال: حاسس أنى بودع يا مقدس جرجس، بس أنا مش خايف من الموت، بس مين اللى هيآذن من بعدى، من اللى هيدعوا الناس للصلاة.
كانت تلك جملة إعتيادية فى حواره، يقولها فى كل فجر، حتى لظن جرجس أنها فاتحة كلام ولا أكثر، لذا يردف جرجس بابتسامة وديعة مثل شخصه: انا موجود. فتنطلق ضحكة منه تمتد لأوراق الشجر فيخفت حثيثها ولضفادع الترعة فينقطع نقرها وهو يقول: مؤذن واسمه جرجس.
يستودعه جرجس أمام باب المسجد ويتركه ويتجه شمالاً، يخلع هو حذاءه، ويخفيه فى بؤرة مميزة له، يتحسس طريقه صعودًا إلى قمة المئذنة، وما أن يصل حتى تعانقه النسمات الرقراقة ترحيبًا، لكنه لا يعطى فرصة لجبهته على التعرف ورد الترحاب، فهو هنا فى مهمة عظيمة الشأن ولأمر جلل، من ثمّ يتجشأ ويدفن كحته المتعالية فى أعماق صدره، يستدعى كل ملكاته العلوية، تدعبس يده على نقش فى حواف المئذنة، يعدل نفسه فى هذا الإتجاه، يمد بعينيه بعيدًا فى هذه القبلة، لا يبحث عما يراه، بل هو يعاين بصليقته البيت الذى وإن شُيد من أديم الأرض إلا أنه صُبّ سماوياً فى لبنته، والحجر الذى تكور من كلس الأرض، جلمودٌ صلدٌ إلا أنه قلب الأرض الأكثر رقة واحساسًا، فكل القلوب تتحجر ولا شك ولكن تبقى بعضها أكثر قداسة من بعض.
ضبط ميقاته، تنحنح كابسًا ما استطاع من أنفاس وبدأت أوتار حنجرته فى جلبة تهتز: "الله أكبر"، ترتعش كل خلاجاته فى تلك اللحظة، يشعر إن ذات الله تنتظر من على قبة السماء إعلانه هو بالتكبير من قبة المئذنة، يكرر هذا المقطع ثلاث أخر، فلابد أن يستيقظ الجميع قبل أن يباغتهم وهو يشهد "أن لا إله إلا الله" و "أن محمداً رسول الله". بدأ الإعلان تدريجى فى الحديث عن الله فهو بصيغة المفاضلة "أكبر"، ولك أن تضع ما تشاء من بعدها، هنا تقنع بصورة الإله، ولكن بعدها يفضى بك الأمر للتسليم بإن هذه الصورة لا تقبل المفاضلة فلا إله إلا الله.
خرج صوته فى كنف الصمت وعاد إليه فى جلبة استيقاظ المصلين، ظل هاجسه الأعمق هو أن يتوقف صوته فى تلك اللحظة، كانت عينه هو تفترش العالم كله، وعين واحدة كانت عليه إنها عين جرجس الذى صعد فى مهل، ووقف فى عمود مشابه للمئذنة فى كنيسته، لكنه لا يستخدم أحباله الصوتية فى الدعاء للصلاة ولكم أحب ذلك، فقط يشد أحبال طويلة مفتولة فى بأس تحرك هى بدورها قمعين كبيرين يرتطما ببعضهما، فيخرج صوت يتهادى وراء صوته بالشهادتين أنتشارا، مؤكداً على استيقاظ الجميع، يصمت صوت جرس الكنيسة وكأن صرخته هو بـ "حى على الصلاة" قد أنتهرته، فيتبعها هو بـ"حى على الفلاح"، وكأنه يرد على سؤال الزنادقة ما الذى يريده هذا الإله ورسوله؟ فقط شيئين صلاةً وفلاحاً، هنا يحف جرجس أحبال جرسه ليخرج الرنة الثانية، وللمرة الثانية يأتى صوته بقوة ليخرس صوت الرنين هذا بالتكبير الأخير، تبقت له جملة واحدة من الآذان وهى الإعلان الأعظم والأخير "لا إله إلا الله" هو المقطع الوحيد الذى يتكرر مرة واحدة، ولماذا يردده ثانيةً، فقد صار الآن هو الحقيقة الوحيدة المطلقة فى الأذهان. لكن يبدو أن ذلك الفجر لن يسمع صوت تلك الحقيقة أبداً منه.
فى عينيى جرجس رُسم هذا المشهد؛ الجسد الضخم فجأة تهاوى، سقط من على المئذنة، تدحرج على درجات السلم، نسى أحدهم أن يكنسها فعب الجلباب البفتة منها كعادته ذرات ترابها ونسمات غبارها ولكن كانت تلك مرته الأخيرة وعبه الأخير كذلك.
لحظات من صمت جسده الضخم وصوته المرهف حتى رنين الجرس توقف كأنه يقدم العزاء صمتًا، بدت القرية مكفهرة الصدى، رحبة على ضيقها، تمالكتها صنوف الغوغائية والاضطراب، ولكنها متألقة على صفحة المشهد من بعيد، كان جرجس ممسكًا بأحبال الجرس وهو يرى المشهد، ترك تلك الأحبال، فتحركت أحبال حنجرته فى صيحتها الأولى والأخيرة:
"لا إلــــــــــــــــه إلا اللَّـــــــــــــــــــه".