

فوبيا
كان يعيش في قلعةٍ لا تُرى، قلعةٍ مشيّدةٍ من الخوف وحده.
جدرانها من الظنّ، أبوابها من الهواجس، وسقوفها من صدًى يتهامس بين الحواس.
لم يكن في القلعة حجرٌ واحدٌ من العالم الواقعي، ومع ذلك كانت أكثر صلابةً من الحديد.
الهواء فيها كثيفٌ كالغبار، والضوء فيها يرتدّ عن جدرانٍ وهميّةٍ كأنها مرايا الخوف نفسه.
كان يستيقظ كلّ صباحٍ على صوتٍ غير موجود، يُنصت إلى صمتٍ لا يتوقّف، ويتفحّص وجوه الأشياء كمن ينتظر أن تهاجمه.
صوتُ الريح عند النافذة نذير، ظلُّ الشجرة مؤامرة، وخطوةُ النملة على الرصيف احتمالٌ لزلزالٍ قادم.
كانت حياتُه سلسلةً من الهروب إلى الداخل، هروبًا من كلّ شيءٍ إلى لا شيء، حتى صار نفسه الغريب الذي يخشاه.
الابن، الذي وُلد في هذا الجوّ المعلّق بين الذعر والجمود، لم يعرف أن يضحك بطمأنينة، ولا أن يخطو بلا إذن.
تعلّم أن يسير بخفّةٍ كي لا يُثير قلق أبيه، وأن يتحدث بصوتٍ خفيضٍ حتى لا تُستفزّ الجدران.
وحين يحلم، كان يخاف أن يراه الأب في نومه، فيُوبّخه على الجرأة.
لقد نشأ كصدى، لا كإنسان، يعيش على ضوءٍ ضئيلٍ يتسلّل من شقوقٍ صغيرةٍ في جدارٍ نفسيٍّ لا ينكسر.
في الطرف الآخر من الزقاق، كان هناك رجلٌ يُدعى أبو حكمت الضحّاك، يلقّبه الناس بالحرّ.
يضحك كما لو أن العالمَ نسمة، ويتحدّث كما لو أن الوقتَ لعبة، ويسير بخفّةٍ لا تعرف التردّد.
كان يطلّ أحيانًا من بعيدٍ على بيت الأب والابن، يبتسم كمن يرى شيئًا لا يراه أحد.
لم يكن يتكلّم كثيرًا، لكنّ حضوره كان كالماء: يتسلّل، ويترك في النفوس أثرًا لا يُمحى.
ذات مساءٍ، بينما كان الأب يغلق النوافذ بإصرارٍ كمن يُحصّن نفسه من الكارثة، رأى ابنه يقف أمامه وفي عينيه سؤالٌ غامض:
ـ "أبي، لماذا نخاف من الهواء؟"
لم يُجِب. فقط ارتجفت يده.
في تلك اللحظة، سمع الاثنان ضحكةً بعيدة، كأنها صادرةٌ من الأزقة أو من الماضي. ضحكةٌ خافتةٌ، لكنها واضحةٌ كوميض البرق: كانت ضحكة أبي حكمت.
تردّدت الضحكة في صدر الابن مثل نبضٍ جديد.
ومنذ تلك الليلة، بدأ يخرج خفيةً عند الفجر، يتشمّم هواء الحيّ، يلمس حجارة الجدار، ينظر إلى السماء، وكأنما يتعلّم من الصفر كيف يكون حيًّا.
في كلّ مرةٍ يعود، كان الخوف يحاصره عند الباب، والأب يرمقه بعينين كمرآتين تعكسان القلق وحده.
لكن شيئًا في قلب الابن كان يتغيّر، شيءٌ لا يُرى، كأنّ الخوف يفقد سلطانه عليه ببطءٍ لا يُدركه الأب.
أما الأم، فكانت صامتةً أكثر من اللازم. تجلس عند الركن، تُصلح قطعة قماشٍ باردةٍ بيدٍ تعرف أكثر ممّا تقول.
وحين ينام الأب، تهمس للابن دون أن ترفع نظرها:
ـ "الخوف مخلوقٌ يا ولدي... وكل مخلوقٍ له موتٌ ينتظره."
كانت كلماتها تُفتح في صدره كنافذةٍ نحو عالمٍ آخر.
في الأيام التالية، بدأ الأب يشعر بتصدّعٍ في قلعته.
الظلال لم تعد تخيفه، بل تُشبهه. الريح لم تعد تهدّد، بل تهمس له بأصواتٍ يعرفها.
ولمّا رأى ابنه يقف أمام الباب المفتوح دون خوف، لم يصرخ، لم يمنعه، فقط ظلّ يراقبه بصمتٍ عميقٍ كأنما يشهد انقراضَ كائنٍ داخله.
في المساء، عاد أبو حكمت الضحّاك يمرّ بالزقاق.
نظر إلى النافذة التي ظلّت مغلقةً لسنوات، فرآها مفتوحةً، يتسرّب منها ضوءٌ خفيف.
ابتسم، ثم واصل سيره في صمتٍ شفيفٍ كالموسيقى.
تلك الليلة، حلم الأب بأنّه يسير في متاهةٍ من الدخان، تتهاوى جدرانها حوله ببطءٍ.
سمع ضحكةً بعيدة، فتبسّم، ولأول مرةٍ، لم يستيقظ مفزوعًا.
حين بزغ الصبح، كان الابن يجلس في الساحة، ينظر إلى الأفق.
الخوف ما زال هناك، لكنه بدا أصغر، كظلٍّ يتحرّك في الزوايا دون أن يجرؤ على البقاء في الضوء.
أغمض الابن عينيه وقال في سرّه:
"الفوبيا... ليست عدوًّا، بل مرآةُ من نحن حين ننسى أن نعيش."