

أيامٌ بلا ذاكرة
اقترب المساء، وحين هدأت الأصوات في الحيّ القديم، كان سالم، الستينيّ، يجلس عند نافذة غرفته المطلة على حديقةٍ مهجورة. وضع فنجان الشاي أمامه، وغاب في صورٍ تتوهّج فجأة في رأسه: وجه أمّه وهي تناديه من خلف شجرة توت، نهر صغير يعبره بحذر، كلب الجيران ينبح في المطر... كل شيءٍ من طفولته يعود بوضوحٍ مذهل، كأنه حدث البارحة.
حاول أن يمتدّ بذاكرته نحو شبابه. اتكأ على مسندٍ مرتفعٍ، وأغمض عينيه، لكنّه لم يرَ إلا فراغًا رماديًّا، كصفحةٍ مبلّلةٍ مُحيت كلماتها. لا يتذكّر الجامعة، ولا وجوه الأصدقاء، ولا حتى ملامح يوم زواجه.
ذهب إلى صديقه القديم نادر. جلس أمامه، وقال بصوتٍ متردّدٍ كأنه يسمع نفسه لأوّل مرة:
ـ أرى طفولتي كأنها تُعاد أمامي فيلمًا واضحًا، ولا أرى شبابي إلا ظلالًا مشوّشة... لماذا؟
ظلّ نادر صامتًا لحظة، ثم صرخ سالم فجأة، كأنّ السؤال خرج من جرحٍ قديم:
ـ أتعرف لماذا يا نادر؟!
ابتسم نادر بتردّدٍ غامض، وقال:
ـ ربما لأننا نَحِنّ إلى الطفولة أكثر.
هزّ سالم رأسه بعدم اقتناع، دون أن يقول شيئًا. كان يشعر أن في الأمر شيئًا آخر، شيئًا لا يُقال.
عاد إلى الحيّ يحاول أن يلصق نظراته فوق الجدران، علّ هذه الأحداث تقوده إلى ذكريات الشباب. كرّر النظر بحنينٍ؛ البيوت مائلةٌ كأنها تتكئ على ذاكرتها، والطرقات أضيق مما تذكّر. وعند زقاقٍ مهدَّمٍ توقّف فجأة. ثَمّة صرخةٌ بعيدةٌ فتحت ستار ذاكرته، صوتُ ارتطامٍ، يدٌ تسحبه نحوه، متوجّعًا بعض الشيء.
تجمّد، ثم تدفّقت الصورة كما لو أُزيل عنها الغبار: في صباه، كان هناك سقوطٌ... صديقٌ هوى من سطح المدرسة. دمٌ، وصوتُ حشدٍ، ثم عتمة. في اليوم ذاته، فقد وعيه لأيام، وحين استيقظ، كان شيءٌ ما قد تبعثر داخله. ذاكرته انقسمت إلى ما قبل الحادث، وما بعده.
حين عاد إلى نادر، أخبره بما رآه. أصغى نادر بصمتٍ مريب، ثم قال بهدوءٍ يشبه الاعتراف:
ـ كنتَ دائمًا تذكر الطفولة لأنك بقيتَ فيها... أمّا نحن، فخرجنا منها منذ زمنٍ طويل.
نظر إليه سالم طويلًا، وفي عينيه كان شيءٌ ينطفئ ببطء. عندها أدرك أن شبابه الذي نسيه، لم يكن منسيًّا فحسب، بل لم يُعشه أصلًا. لقد عبره جسده فقط، بينما روحه ظلّت هناك، عند شجرة التوت... تنتظر أن يناديها أحد.