السبت ٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٣
بقلم خالد عزب

استعادة بصيرة طه حسين بطريقة مختلفة

يستهل عمار علي حسن كتابه "بصيرة حاضرة .. طه حسين من ست زوايا"، الذي صدر هذا العام في خمسمائة وست صفحات من القطع فوق المتوسط، بمقدمة يسرد في مطلعها حكايته مع كتاب "الأيام" حين تسلمه في أول السنة الدراسية للصف الأول الثانوي، وكيف كان ينظر بإجلال إلى تمثال عميد الأدب العربي الذي يقف شامخا بالقرب من مدرسة كان عمار تلميذا فيها، حيث يعود مسقط رأسه على محافظة المنيا من أعمال صعيد مصر، وهي المحافظة التي ينتمي إليها العميد. ثم يمد الخيط عبر الزمن حتى يرى تمثال طه في مدخل كلية الآداب، جامعة القاهرة، وينظر إليه بإكبار أيضا حين ذهب إلى الكلية قبل سنوات لإلقاء محاضرة عن الأدب والحرية.

بعد هذا المطلع الذاتي ينقلنا عمار في المقدمة، ومن بعدها متن الكتاب كله، إلى دراسة عميد الأدب العربي من مختلف الجوانب، حيث لم يكتف بإحضار مشروعه الفكري والأدبي ووضعه تحت مشرط الفحص والدرس والتحليل، بل يقترب من عميد الأدب العربي كإنسان وفاعل اجتماعي، مارس أدواراً عديدة في الحياة، وأدى حاصل جمع نصه وشخصه إلى إنتاج ظاهرة، علا شأنها، ووصل خبرها إلى الشرق والغرب، ولا يزال الاهتمام بها جاريا وساريا.

ومن يطالع الكتاب الذي صدر عن مزكز أبوظبي لللغة العربية يتبين له أن الكاتب قد هضم مختلف أعمال طه حسين، وأغلب ما كُتب عنه، ليراه بشموله وتمامه من زوايا ست هي: المنهج، والنص، والذات، والصورة، والموقف، والأفق.

وأراد عمار في ثنايا عمله أن يقيس أثر طه حسين في حياتنا الفكرية والأدبية المعاصرة، وذلك عبر إجراءات محددة هي:

1 ـ معرفة حجم وقيمة ما كتب ويُكتب عن طه حسين حاليا من شهادات وذكريات ومقالات ودراسات وكتب وأطروحات جامعية، وما يقام عنه من ندوات ومؤتمرات.

2 ـ مدى قدرة ما تركه طه حسين على الاستجابة للتحديات الراهنة، أو الإجابة على أسئلة زماننا، واستمراره في أداء هذا الدور في المستقبل المنظور.

3 ـ ما تحمله خصائص أسلوبه من قدرة على إفادة الجيل الحالي من الكتاب والباحثين، حيث إلهاب الخيال، وإحكام الصياغة، والتعبير عن المعنى بشكل جليَّ، لا غموض فيه، ولا إعوجاج، حتى لو جاء متدثرا بأردية ناصعة من البلاغة.

4 ـ ما يمكن أن تمدنا به آراء طه حسين وتجربته العملية ومواقفه من رؤى وطرائق تساعدنا على النهوض بالتعليم والثقافة في واقعنا المعيش.

5 ـ ما وقع فيه طه حسين من أخطاء أو مزالق، ويجب علينا أن نتجنبها، بقدر ما نتجنب ارتكاب مبالغة إيجابية أو سلبية، في التعامل معه هو شخصيا، موزعة بين "تدنيس" و"تقديس"، كعادتنا في النظر إلى الماضي، وهي مسألة رفضها طه نفسه، وكان منهجه قائما بالأساس على مساءلتها ونقدها، ثم أعادتها في ثوب عقلاني واضح.

6 ـ ما حدث من تطور لطه حسين في مجال السرد والنقد والدراسات التاريخية وتأريخ الأدب، وما حدث بعده، سواء في النظريات والأطر التفسيرية، أو في مناهج تناول النص والفكر والاقترابات العلمية، التي تجعله ماثلا للأفهام.

ويقول عمار في مقدمة كتابه " وفق هذا التصور سأتعامل هنا مع فكر طه حسين وأدبه على أنه شيء حاضر ومستمر، وهذه مسألة تبدو مستقرة وظاهرة لا مجاملة فيها ولا تجوز، فهو نفسه كان يرى أن القديم يجب أن يظل متداولا ما دام نفعه قائما. لذا فإن ما ترك الرجل من تاريخ المعرفة أو العلم، لم ينقض بعد، ولا يبدو أنه سيكون كذلك، إن لم يكن لمنهجه المتماسك، فلنصه المختلف".

ووزع الكاتب مؤلفه هذا على زوايا ست، ولم يوزعه على فصول كالمعتاد. وفي الزاوية الأولى المتعلقة بالمنهج، ليرى أن طه حسين قد اتبع اقترابا ومنهجا يقوم على "الصرامة العلمية"، وتقليب كل ظاهرة أو حدث على شتى وجوهه، وبناء استراتيجيات ناجعة في الحجاج، ورفع الالتباس عن قضايا شائكة، وعرض مختلف الآراء حوله، وإعلاء قيمة الشك في سبيل الوصول إلى الحقيقة.

كما اعتمد طه حسين طريقة حوارية قامت على التفاعل والمشاركة والحوار، وظهرت معالمها في تعميق وتعزيز أفكاره هو عبر الاستفادة من الانتقادات التي وجهت إليه.

ويرى الكاتب أن منهج طه حسين قام على عدة خصائص هي الحوارية والتعدد، والشك والتثبت، والإفاضة والإحاطة، وتعدد زوايا الرؤية والاهتمام، والتمييز في الدرس بين العلم والدين، بما جعل لمنهجه أثرا يختلف عليه الناس، لكن لا يمكن لمنصف أن ينكر ما جاد به من إيجابيات على التفكير والتدريس والبحث في العالم العربي.

وفي الزاوية الثانية المتعلقة بالنص درس الكاتب أسلوب طه حسين ولغته الشفاهية، بنت الإملاء، التي اعتمدت على آليات التخيل والاسترجاع والتكرار وحضور الموسيقى، وما قام به من تجديد اللغة العربية حجاجيا، وتطويرها بلاغيا. ويرى أن نص طه بكر إذ كان لا يراجعه، ونص مميز يدل على صاحبه بلا عناء ولا عنت، وإيقاعي تحضر فيه الموسيقى، وهو نص تكراري متنوع حافل بالتناص، ويسعى إلى أداء وظيفة، أو ينهض بالمهمة أو الرسالة التي كان يحملها طه حسين على عاتقه.

وتناولت الزاوية الثالثة المرتبطة بالذات نموذج طه حسين كمثقف متكامل، فهو باحث وأديب وناقد ومؤرخ وعالم اجتماع ومترجم وصحفي وسياسي، ارتقى مع توالي إنتاجه ورسوخه، ليصبح مفكرا، بل هناك من يراه فيلسوفا. في الوقت نفسه فهو صاحب الوجوه المتعددة، إذ أنه الأزهري والمدني، والريفي والمديني، وابن الحضارة الشرقية المتحاور بوعي واستقلال مع الحضارة الغربية، يبحث عن الحكمة أنّي وجدها فهو أولى بها. وهذه الثنائيات لا تزال محل أخذ ورد في الثقافة العربية المعاصرة، يضاف إليها بالطبع تلك المقابلة بين البادية والحضر.

ويرى المؤلف إن طه حسين يمكنه أن يقول عن نفسه: أنا الكاتب الحر، ابن عصره، المنذور لمهمة عظيمة، الذي أكتب للناس لكن لا أتملقهم، وأنا نسيج وحده، المعتد بنفسه، رابط الجأش، المتمرد، والمجادل العنيف، الباحث عن المختلف. وأنا أيضا المعترف بأخطائي، المتشائم الذي يسقط في يأس أحيانا، والمغبون من كثيرين. وهذا ليس افتئاتا عليه إنما استخلاص من سيرته المتناثرة، والتي لم يدونها بعد "الأيام".

وفي الزاوية الرابعة المتعلقة بالصورة يعدد صور عميد الأدب العربي، فهو قاهر الظلام، والتلميذ النجيب، والأستاذ البارع، وصاحب المكانة الرفيعة، والمجدد، والمتحايل، والذي صار أسطورة، والمواطن العالمي. في الوقت ذاته هناك محاولات متعددة لخدش هذه الصورة، عبر رميه باتهامات كثيرة، ومحاولات أخرى لتقييمها، كي توضع في المكان الطبيعي المستحق، دون تهوين ولا تهويل. وهنا يرد عمار، بشكل علمي ومنطقي، على كل هذه الاتهامات، التي كانت وراءها دواقع سياسية أو إحن شخصية في كثير من الأحيان.

وفي الزاوية الخامسة التي تفحص موقف طه حسين يرى أنه قد جمع بين التفكير والتعبير والتنظير والتدبير، فصار مفكرا عمليا ومثقفا منتميا، إثر خوضه تجربة حزبية، وأخرى تنفيذية حين تولى وزارة المعارف، وثالثة إدارية حين صار عميدا لكلية الآداب ـ جامعة القاهرة، وحين أنشأ وأدار جامعة الإسكندرية، وكانت له تجربة مهمة في المعهد العالي للدراسات العربية، لجامعة الدول العربية. ثم يتطرق الكاتب إلى موقف عميد الأدب العربي من العدالة الاجتماعية، والحرية والديمقراطية، ومناصرة حقوق المرأة، والسلطة والأحزاب السياسية، والعلاقة بين الشرق والغرب، وبين القديم والجديد في الفكر والأدب.
وأعطى الكاتب الزاوية السادسة عنوان "الأفق"، وتحدث فيها عما تحقق من مشروع طه حسين، وما لا يزال ينتظر، ومصيره هو، نصا ومنهجا وموقفا، وهو الرجل الذي كان يخشى "موت الكاتب" بعد رحيله عن الدنيا، أي ضياع منجزه بعد تحلل جسده، ليصير مجرد ذكرى، تستعاد بين حين وآخر، أو لا يلتفت إليها أحد.

واتبع عمار طريقة مختلفة في اختتام كتابه، من منطلق أنه يرى أن أغلب الباحثين يميلون في خاتمة كتبهم إلى تلخيص ما انتهوا إليه، أو كتابة توصيات أو اقتراحات يرونها ضرورية بخصوص الحدث أو القضية أو المسألة أو الظاهرة التي تصدوا لها، لكني في هذا المقام، سأحاول أن أسلك سبيلا مختلفا، أراه يناسب طه حسين أو يليق به. فالمشروع الذي قدمه عميد الأدب العربي لا يزال محل أخذ ورد بين المفكرين والنقاد الذين أتوا بعده، فيعرضه بعضهم، وينقده آخرون، ويضيف إليهم طامحون، ويقوم نابهون بتهيئته وتبيئته حتى يناسب زماننا.

فالرجل، خصوصا في المنهج الذي أقره ومضت عليه دراساته وتأملاته وفيوضاته الأدبية العامرة بالأفكار، يظل في حاجة إلى مقاربة مغايرة، تتبع مما كان يميل إليه ويألفه ويطالب به من إقرار الحوار حول الفكرة الكلية التي آمن بها، وطرحها، سواء بلا مواربة، أو بطريقة مستترة، وشكلت في مجموعها مشروعه، أو طريقته في طلب التنوير.

والرجل أقر في آخر أيامه، حين نظر إلى كل ما أبدعته قريحته وفاض به وجدانه، بأنه يودع الدنيا بقليل من الأمل وكثير من الألم، ومات دون أن يحقق رغبته في تعديل بعض أطروحاته السابقة، لاسيما حول التعليم والثقافة، وحول المسلك الأكثر فاعلية في الأخذ بيد المجتمع إلى الأمام.

وقد فتح طه حسين قوس النهضة، ولم يغلق بعد، ولن يغلق، ولا يجب أن يحدث له هذا، إذ أن النهوض صيرورة لا تتوقف، وبعض دور المثقف فيها هو ألا يكف عن المشاكلة والمشاغبة والإضافة والإفاضة بما يواكب حياة تتدفق بلا هوادة، وقضايا تتجدد بلا توقف، واحتياجات لا تكف عن الظهور والإلحاح، وتحديات تتوالى وتنادي دوما من عليهم أن يستجيبوا لها.

لهذا لا يجب الاستسلام لوصف طه حسين بأنه "النهضوي الأخير"، فمثل هذا الوصف فيه كثير من القسوة على كل من جاء بعد الرجل، وحاول التفكير في القيم والأفكار التي تقود إلى التقدم، والأساليب التي يجب اتباعها في سبيل بلوعه. وفيه أيضا كثير من الإجحاف بحق كل من بحثوا عن إجابة لسؤال النهضة أو التحديث والحداثة في حياتنا الفكرية والاجتماعية، من أصحاب المشاريع الفكرية الكبرى، سواء تلك التي استنطقت التراث بما يفيد الآن، أو هذه التي حاولت تقريب مجتمعاتنا من معاصرة تضع العرب في الزمن الحديث، عبر الاستفادة مما بلغته الأمم التي ارتقت في التفكير والعلم والفنون، وفي أنماط العيش السوي، الذي يليق بإنسان متحضر.

من أجل هذا عدد عمار ثلاث نقاط رأى أنها تنقص مشروع طه حسين، وهي عدم إعطائه التصوف موضعه في الثقافة الإسلامية، وإغفاله دور الموروث أو المأثور الشعبي في بناء مشروع ثقافي، وعدم وضع منتجنا الثقافي الحديث والمعاصر موضع مقارنة مع الغرب، على غرار ما حدث مع تراث العرب الأقدمين. لكنه لم يقف عند ذكر هذه الأمور التي يفتقد إليها مشروع العميد، بل قدم شرحا وافيا عن أسباب ذلك، مؤكدا أن هذا لا ينقص أبدا من أن طه حسين قد ترك لنا مشروعا عميقا، في الفكر والأدب والإصلاح الاجتماعي، لا تزال عطاياه قائمة بيننا حتى الآن.

ويقول عمار إن طه حسين، مثلا، تحدث عن اتباع خطى الغرب في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، لكنه، وهو الرجل المتفاعل بقوة مع مجتمعه، وجد نفسه لا يلتزم بهذا التصور كليا، حين نظر بإمعان إلى طبيعة مشكلاتنا. لكنه لم يُفصّل في هذه الناحية، أو يضع رؤية شاملة، على هذا الدرب، وذلك يعد من الجوانب التي يفتقر إليها مشروعه النهضوي الكبير، إلى جانب عدم انتباهه إلى روحانية التصوف، وعطاء الموروث الشعبي العامر بالمعاني والقيم وطرائق العيش.

وأخيرا فإن مساءلة مشروع طه حسين، على هذا النحو، لا تقلل من قيمته، فهو كان معنيا، بالدرجة الأولى، بوضع الأسس التي يسير عليها التفكير السليم، مؤمنا بأن "العلم بمدخله لا بموضوعه"، ففتح لمن يأتون بعده أفقا عاليا، وشق دربا واسعا، يمكنهم أن يمضوا فيه باحثين عن طرق أخرى للتنوير، أو مسارات أخرى تتواشج مع التصور العام لعميد الأدب العربي، لاسيما أنه تصور تفاعل مع قضايا الناس، ولم يزعم صاحبه أبدا أنه مكتمل وقطعي، بدليل أنه كان يراجع نفسه، ويحاور غيره، ويسعى إلى الحكمة أينما كانت، وحيثما تجلت.

وكتاب "بصيرة حاضرة" إن كان قد انصب بالأساس على دراسة مشروع طه حسين، فإن عمار علي حسن يكون قد وضع، من خلال الزوايا الست التي رآى من خلالها العميد من شتى جوانبه، يكون قد وضع إطاراً نظرياًـ وحفر مساراً منهجياً متماسكاً، يمكن تطبيقه في أي دراسة عن مفكر أو أديب بارز، ما يعني أنه قد فتح أفقا لأي باحث يتناول أي من المفكرين والأدباء العرب في قابل الأيام، وهنا يقول: "بوسع هذا المنظور أن يمتد أيضا إلى دراسة الأدباء البارزين، مع استبدال بسيط، يتمثل في إحلال المعمار أو البنية بديلا للمنهج، إذ أن الأخير لا غني عنه لأي مفكر أو فيلسوف، بل هو الذي يميزه عن غيره، ويبرهن عما إذا كان قد قدم رؤية متسقة ومتناغمة أم العكس هو الصحيح".

وعلى هامش عرض هذا الكتاب المهم يحق لنا أن نتساءل عن موقف وزارة الثقافة المصرية من عميد الأدب العربي في ظل أن العام الحالي هو عام طه حسين، بمناسبة مرور خمسين سنة على وفاته، وأتساءل في عجب: إن كان هناك قرار لوزارة الثقافة بهذا، فكيف يظل سرا على أغلب المثقفين؟

في العموم، إن كانت الوزارة صادقة، وستكمل فعالياتها الخجولة احتفالا بعميد الأدب العربي، فعليها، أن تنتهج نهجا جادا في التعامل مع الرجل، بعيدا عن الكتابات والكلمات الاحتفائية والاحتفالية، التي شبع هو منها في حياته، ولا تزال تنهمر على عظامه النخرة في قبره، وبعيدا أيضا عن الكتابات التي توزعت على التقديس والتندنيس. فرغم أن طه قد كًتب عنه سيل من الدراسات والكتب والمقالات والأبحاث، فإن أغلبها لم يلمس أعماق الرجل، كمفكر وأديب ومصلح اجتماعي، بل وثائر ورجل دولة، ولم ينتبه إلى كثير من الأساليب المتنوعة في كتاباته، والقيم العليا التي تعكسها، والأفكار الأساسية التي تنتظم من أجلها، والمقاصد الكبرى التي تتغياها.

إن الاحتفاء بطه حسين واجب، لا يخصنا نحن كمصريين فقط، بل يمتد إلى العرب أجمعين، لأن أثره فينا جميعا لا يزال باقيا، ولا جدال في هذا.

نعم، لم ينته أثر طه حسين في حياة العرب، ولا يبدو أنه سينتهي، فالرجل ضرب سهمه في كل اتجاه، وأنتج من الأفكار والآراء والأساليب والطرائق والأذواق بل والتصورات والإجراءات حول التحديات التي واجهت المجتمع في زمنه، وعن القضاياه والمشاغل التي أخذت بعقول الناس ونفوسهم، ما يصلح أن نعود إليه دون انقطاع، نظرا لاستمرار المشكلات قائمة، وبقاء التساؤلات عالقة.

وهذه العودة تمتد من اللغة وبيانها، إلى الأدب وألوانه شعرا ونثرا، ثم الفكر وشؤونه، وكذلك في كيفية النظر إلى المشكلات الاجتماعية الجوهرية حول التعليم والثقافة، وعلاقة الدين بالدولة والديمقراطية، وتمكين المرأة، وحقوق أصحاب الهمم، ناهيك عما يحسب لطه حسين في تطوير منهج البحث والدرس، وفي بناء علاقة عامرة بين الأستاذ وتلاميذه.
من هنا فإن البحث في منجز طه حسين، الذي كان مؤسسة كاملة تمشي على قدمين، ليس بحثا في الماضي، إنما هو جزء من الوقوف على الكثير من معاني الآني، بل والآتي، نظرا لأن نص الرجل وأسلوبه وتصوره وتصرفه، لا يزال قادرا على إفادتنا في مواجهة بعض ما يعترض طريقنا إلى التقدم، وشحذ أذهاننا بالذي يعزز قدرتها على الفهم والإدراك، في العلم والأدب وتصاريف الحياة.

ولا يجب أن يظل الاهتمام بالرجل مقتصرا على عرض أفكاره، أو نقد قصصه ورواياته وأشعاره التي تخلى هو عنها، أو تناول تجربته الحركية في السياسة والإدارة، أو استلهام سيرته الذاتية التي لا تزال مختلفة عما سبقها ولحق بها، أو الوقوف عند طريقته في التدريس وتربية عقول التلاميذ، بل ينطلق من كل هذا إلى قياس أثر الرجل في حياتنا المعاصرة.

وأعتقد أن التصور الذي وضعه عمار في كتابه هذا سيساعد الباحثين مستقبلا على إيجاد بنية أو إطار أو هيكل، أو مقاربة، تمكنهم من دراسة الشخصيات الفكرية والأدبية التي تركت إنتاجا مهما، يستحق المتابعة، لأن فيه دوما ما يفيد.

في النهاية يجب التأكيد أن كتاب "بصيرة حاضرة" ينظر إلى طه حسين من مختلف الجوانب، إذ لا يكتفي بإحضار مشروعه الفكري والأدبي ووضعه تحت مشرط الفحص والدرس والتحليل، بل يقترب من عميد الأدب العربي كإنسان وفاعل اجتماعي، مارس أدواراً عديدة في الحياة، وأدى حاصل جمع نصه وشخصه إلى إنتاج ظاهرة، علا شأنها، ووصل خبرها إلى الشرق والغرب، ولا يزال الاهتمام بها جاريا وساريا.

ولا يفوتني التأكيد أيضا أن المؤلف قد درس مختلف أعمال طه حسين، وأغلب ما كُتب عنه، ليراه بشموله وتمامه من ست زوايا هي: المنهج، والنص، والذات، والصورة، والموقف، والأفق، ثم يأتي على ذكر ما نقص مشروع الرجل، ومنه عدم إعطائه التصوف موضعه في الثقافة الإسلامية، وإغفاله دور الموروث أو المأثور الشعبي في بناء مشروع ثقافي، وعدم وضع منتجنا الثقافي الحديث والمعاصر موضع مقارنة مع الغرب، على غرار ما حدث مع تراث العرب الأقدمين.

إن الكاتب، ومن خلال هذه الزوايا الست، يكون قد وضع إطاراً نظرياًـ وحفر مساراً منهجياً متماسكاً، يمكن تطبيقه في أي دراسة عن مفكر أو أديب بارز.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى