

في رثاء سيدة الطرب المغاربي نعيمة سميح

في ليلةٍ تناثرت فيها النجوم كحبات اللؤلؤ على بساط السماء المخملي، تسللت أنغامُ نعيمة من ثنايا الزمن، تعبرُ أثيرَ الذكرياتِ كفراشةٍ تبحثُ عن زهرةِ الخلود. ياك أجرحي، تهمسُ الرياحُ في آذانِ الصمت، فتتراقصُ الأشجارُ على إيقاعِ الحنين.
في دروبِ الدار البيضاء، حيثُ الحجارةُ تروي حكاياتِ العابرين، كانت خطواتُها نغمًا، وصوتُها بلسماً لجراحِ الأرواحِ التائهة. جاري يا جاري، نادتْ، فاستفاقتِ القلوبُ من سباتِها، وتهادتْ الأحلامُ على أجنحةِ الأمل.
أمري لله، قالتْ، فانشقَّ البحرُ عن لؤلؤةٍ نادرة، تضيءُ عتمةَ الليالي الحالكة. في عينيها، انعكستْ ألوانُ الطيفِ، ترسمُ قوسَ قزحٍ على صفحاتِ العمرِ المنصرم. أحلى صورة، نقشَتْها بأناملِ الإبداعِ على جدرانِ الذاكرةِ الجماعية.
البحارةُ في عرضِ المحيطِ، يرددون أغانيها، فتتراقصُ الأمواجُ طربًا، والنوارسُ تحملُ رسائلَ الشوقِ إلى مرافئِ الحنين. راح، تنهدَ القمرُ، فانسابتْ دموعُه فضةً تزينُ جدائلَ الليلِ الطويل.
نحمدو ربي ونشكروه، ترنيمةُ الصباحاتِ النديةِ، تُزهرُ في بساتينِ القلوبِ الظامئة. على غفلة، تسللتْ إلى أعماقِنا، كنسمةِ ربيعٍ تحملُ عبيرَ الزهورِ البرية. غاب علي الهلال، فاستحالتِ السماءُ مرآةً تعكسُ وجوهَ العاشقينَ المنتظرين.
واقف على بابكم، همسَ الليلُ للنهارِ، فتشابكتْ أيديهما في رقصةِ الفجرِ البهي. جريت وجاريت، حكايةُ الروحِ التي لا تعرفُ القيودَ، تنطلقُ نحوَ آفاقِ الحريةِ المجهولة. القمرُ راح، فاستفاقتِ النجومُ من سباتها، تروي حكاياتِ العشقِ السرمدي.
توبة، نداءُ القلبِ العائدِ إلى مرافيءِ الصفاءِ والنقاءِ الأول. شكون يعمر هالدار، تساءلتِ الجدرانُ الصامتةُ، فأجابتها أصداءُ الذكرياتِ العابقةِ. يا حبابي، لحنُ اللقاءِ بعد الفراقِ، يعزفهُ الزمنُ على أوتارِ الشوقِ المتجدد.
عيرتني بالشيب، ضحكةُ العمرِ التي تخبئُ في طياتِها حكمةَ الأيامِ الغابرة. الخاتمُ، دائرةُ الحياةِ التي لا تنتهي، تتلاقى فيها البداياتُ والنهاياتُ في تناغمٍ أبدي. في فيلم الدنيا نغم، كانتِ البطلةُ التي نسجتْ خيوطَ الحلمِ على نولِ الواقعِ المتشابك.
يا نعيمة، يا سيدةَ الطربِ المغربي، يا شلالَ الصوتِ المتدفقِ من ينابيعِ الروحِ، رحلتِ جسدًا، وبقيتِ روحًا تسكنُ فينا، تغني للفرحِ والحزنِ، للحياةِ والموتِ. في كلِّ زاويةٍ من هذا الوطنِ، سنسمعُ صدى صوتِكِ، يرددُ ألحانَ الحبِّ والأملِ.
يا لمرارةِ الوداعِ الذي لا يتقنُ فنَّ التوقيت!
هل كانتِ السماءُ تصغي حين انكسرَ اللحنُ في حلقِ الطير؟
هل كانتِ الرياحُ تُرتّبُ مزاميرَ الحزنِ،
بينما الأيدي تُصفّقُ لنساءِ العالمِ؟
أيتها الأغنيةُ التي لا تموت،
كيف ينطفئُ الوردُ في الفجرِ
بينما العيونُ مزروعةٌ في بهجةِ الأناشيد؟
يا قلبَ الدارِ الذي كانَ لا يعرفُ النوافذَ المغلقة،
كيف سقطتِ من قصيدةِ الحياةِ كورقةِ خريفٍ مرتبكة؟
في اليومِ الذي تزينُهُ الشُرفاتُ بأكاليلِ النساء،
انحنى القدرُ كقوسٍ مثقلٍ بالسواد،
وسقطَ اسمُها من أفواهِ الرُعاةِ
حينَ كانتِ الأرضُ تحتفي بأمهاتها.
يا لصمتِ الليلِ حينَ فقدَ قمرَه،
يا لصوتِ العودِ حينَ جفَّ وترُه،
كيف تاهَ نشيدُها في دروبِ الخلودِ
بينما تواصلُ النساءُ غناءَ الشجاعة؟
أيتها المدينةُ العتيقة،
افرشي الليلَ بالورود،
عُلّقي القناديلَ على شرفاتِ الهواءِ،
لعلَّ الطيرَ يعودُ بالغناءِ
من حيثُ يختبئُ النسيانُ.
يا لسوءِ الأقدارِ،
حينَ تصمتُ المطربةُ
بينما الأغاني تستمرُّ في الصعودِ إلى السماء.
رحم الله الفنانة نعيمة سميح، وأسكنها فسيح جناته.