السبت ٢٦ تموز (يوليو) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

ظل لم يغادر المكان

كل شيء حوله كان ساكنًا، حتى الصباح بدا مترددًا في إشراقته الرمادية، ها هو يتسلل عبر أطراف الغياب، كأنه يخشى أن يوقظ شيئًا مات منذ زمن.

في الخارج، كانت الأمهات يصرخن بأسماء أبنائهن، بأصوات مرتعشة تنادي من خلف غفوة طويلة للضمير. بدا الحيّ وكأنه يلفظ آخر أنفاسه. الوجوه مألوفة، لكن الأرواح منهكة، والصراخ الذي ملأ الأزقة لم يكن يشبه أي صراخ. ولم يكن هناك عويل يسبقه، ولا شيء ربما يأتي بعده.

في هذه الأيام الرمادية، غاب الراحل كما يغيب الصوت في خرير الماء، دون أثر. كانت الضحكات تطلّ من بين الشفاه، لكن بطعمٍ مرّ، بطعمٍ يُشبه اليأس. الأسرار خرجت من مكامنها القديمة، كأن النوافذ المهجورة فُتحت دفعة واحدة، فانسكبت منها حكايات طويلة تسللت من الشقوق مثل الغبار.

أتذكر أنه وُلد في صباحٍ هادئ، وكان وجهه كافيًا ليجعل الأمنيات تهبط من السماء وتقبل خديه. كبر قليلًا، وخرج للعب الكرة مع أقرانه، لكنه عاد إلى الفراش بساقٍ مكسورة، كانت أولى خيباته.

قال صديقي يتذكر هو الآخر عند العشرين، تزوّج من فتاة الحيّ الجميلة، تلك التي ظنّ الجميع أنها فأل خير. لكنها رحلت بعد أيامٍ قليلة من شهر العسل. الموت لم ينتظر حتى يجفّ الفرح من جدران البيت.

مرت السنوات، وتجاوز الستين. تغيّرت الوجوه من حوله: الساسة، القادة، وكل من اعتلوا المنصات، لكن الحروب التي غاصوا في بطولاتها بقيت كما هي، تجدد أطرافًا محاربة أخرى. وقد شارك فيها بصمت، كأن الدفاع عن الوطن صار قدره الوحيد. انحنى ظهره، وخفَت بريق ذاكرته كما تنطفئ شمعة في غرفة مغلقة.

حين توقفت أنفاسه، لم يصرخ أحد بالبكاء كما هي عادة الرجال المصاحبين له اثناء وصول موتاهم إلى المقبرة، ولم يُرفع صوت في وداعه. مضى بجثمانه نحو مقبرة العائلة في صمتٍ يشبه المطر حين يهمد فجأة. حتى الطائر الذي لازمه طوال حياته، بدا تائهًا. نسي الطريق، وفقد ذاكرته، وأخذ ينقر بمنقاره جسدًا ذابلًا، كأنه يبحث عن فتات من الحنين، أو أثر من الماضي.

أخذه بالقرب من قبر العروس الذي تحول إلى مأوى للنمل والبعوض، وقبر الأم لم تبقَ منه سوى رائحة ترابٍ باهتة، بالكاد تُميَّز.

ختم أحدهم حين قيده إلى المأوى الأخير أن الموت لم يغيبه، ربما لا يكون الموت هو النهاية... وربما لا يكون الذبول سوى شكلٍ آخر من أشكال الحياة التي عشناها معًا.

(*) قصة من مجموعة "نقوش الظل" القصصية، المخطوطة. كُتبت في سنوات متفرقة، وقد نُشر بعضها في عدد من المنصات المهتمة بالشأن الأدبي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى