الأحد ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

تأملات في الوجود والرحيل

قراءة في قصيدة «الشاهد» للشاعر جان دمو

النص: الشاهد

الشاعر: جان دمو

وحدك البهجة /الق الكون في

و الموت و سادة للضد.
يا عرف الريح، مذ العبور ادق جسدي
بصمته لليتامى، وابارك الزيت بمخاض،
الرحيل عائلة، و النار.
مذبوح شجر الضوء، ملء البدء صليت
و اشعلت الماء في صمتي، هو النهار
لو يمر اللهب تجليا
لو يورق البحر هدأة
لو تبحر الروح
لو تمطر
لو.
الان، بعطر مبارك انهض، بشجر
حاضر أتوحد فيك،
و اعلن.
النافذة مفتوحة،
القلب مفتوح.
السماء، ايضا، مفتوحة.
و هناك، في مكان ما بعيدا، تدور حرب.
حرب الكل ضد الكل
حرب اللا احد ضد لااحد
حرب اللاحرب “.
و اودع الورقة في الكتاب

منذ أن بدأ الإنسان ينصت إلى صوته الداخلي، كان الشعر صدى هذا الإنصات العميق، المرآة التي يرى فيها كينونته تتكوّن في اللغة. الشعر ليس قولًا جميلًا ولا زخرفًا بلاغيًا فحسب، بل هو فعلٌ وجودي يربط الكلمة بالدهشة، والمعنى باللامعنى، والروح بالعالم. إنه المساحة التي يلتقي فيها الوعي بالحلم، حيث تتحول اللغة إلى كائنٍ حيّ ينبض بما يتجاوز التوصيف إلى الكشف. فالشاعر، في جوهر فعله، لا يكتب ما يعرفه، بل ما يتلمّسه في العتمة. إنّه الشاهد على ما لا يُرى، والعابر على حافة الصمت حيث تتقاطع الحقيقة بالخيال، والغياب بالحضور. هكذا يصبح الشعر تأملًا مستمرًا في الوجود والرحيل، في البداية والنهاية، في سؤال: من نحن أمام اتساع المجهول؟

في هذا الأفق من الرؤية، تبرز قصيدة «الشاهد» للشاعر جان دمو كأحد النصوص التي تنفتح على تجربة وجودية مشبعة بالقلق والتأمل. بلغةٍ مكثفة ومجزّأة، يبني دمو عالمًا شعريًا يتجاوز الواقعي نحو الكوني، ويستحضر فكرة الموت والغياب لا بوصفها نهاية، بل بوصفها شرطًا من شروط الوجود نفسه. فالعنوان «الشاهد» لا يُحيل فقط إلى من يرى أو يصف، بل إلى من يحيا التجربة ويقف على تخومها: الشاهد هو من عبر النار وعاد ليحكي رمادها. إنّه الذات التي تراقب العالم من نقطة العبور بين الحياة والموت.

في افتتاح القصيدة نقرأ:

«وحدكِ البهجة/ القطبُ الكونِ في

والموتُ وسادةٌ للضدّ».

يبدأ النص من ثنائية تجمع المتنافرات: البهجة في مقابل الموت، والكون في مقابل الضد. لكن دمو لا يضع هذه الأضداد في صراع، بل في حالة من التواشج والتكامل. فالموت ليس نفيًا للوجود، بل امتداد له في وجهٍ آخر. هذه الجدلية الوجودية تذكّرنا بفكرة الفناء كشرطٍ للخلود، والانطفاء كطريقٍ للضوء، وهي ثيمات تتكرر في شعر جان دمو بوصفه شاعرًا وجوديًا يرى في اللغة وسيلة لاكتناه معنى الحياة وسط العدم.

وحين يقول:

«يا عرف الريح، مذ العبور أدقّ جسدي
بصمته لليتامى، وأبارك الزيت بمخاض»

فهو يستحضر صورة العبور بوصفها تجربة ولادة جديدة، إذ يصبح الجسد هنا أداة للشهادة على الألم الجماعي، على يتم الإنسان أمام قدره، فيقدّم ذاته قربانًا رمزيًا عبر اللغة. الزيت هنا ليس مجرد مادة طقسية، بل رمز للنقاء والضوء الداخلي، وكأن الشاعر يبارك هذا المخاض المؤلم للرحيل والتحول.

الرحيل في النص ليس مفارقة جسدية فحسب، بل حالة وجودية متجذّرة في الكينونة:

«الرحيلُ عائلةٌ، والنارُ».

الرحيل إذًا ليس فعلًا فرديًا، بل قدرًا جماعيًا يضمّ الكائنات في مصير واحد. والنار، التي قد تُرى كعذاب، هي في الوقت نفسه طهارة وتحول؛ فهي الممرّ الذي يعبر عبره الوجود من شكله المادي إلى جوهره المتجدّد.

الصور الشعرية التي ينسجها دمو تشتغل على أقطاب متقابلة: الصمت والماء، الضوء والنار، النهار واللهب. وكل عنصر منها يحيل إلى بُعد من أبعاد التجربة الإنسانية، وإلى صراع داخلي بين الرغبة في الخلاص والخوف من الفناء. وحين يقول:

«مذبوحٌ شجرُ الضوء، ملءَ البدءِ صلّيتُ
وأشعلتُ الماء في صمتي»

فهو يعكس جدلية العدم والإشراق. فالضوء مذبوح لكنه باقٍ، والماء—الذي هو رمز الحياة—يتحوّل إلى نار داخل الصمت. هنا يتحوّل الصمت من غياب إلى حضور، من انقطاع إلى فعلٍ شعري خلاق، وكأن اللغة لا تُنطق بل تتوهّج من الداخل.

ثم يتوقف الشاعر عند سلسلة من الاحتمالات المفتوحة التي تبدأ بـ«لو»، وهي من أكثر المقاطع دلالة في النص:

«لو يمرّ اللهب تجلّيًا،
لو يورق البحر هدأةً،
لو تبحر الروح،
لو تمطر،
لو.»

هذه التكرارات لا تعبّر عن رغبة بسيطة، بل عن حالة انتظار كوني. إن «لو» هنا ليست أداة تمنٍّ، بل مفصل بين الممكن والمستحيل، بين الواقع والحلم، بين ما يحدث وما يُتخيّل حدوثه. إنها المساحة التي يتنفس فيها الشعر كاحتمال دائم للحياة.

ثم يأتي التحوّل الجوهري في النص حين يقول:

«الآن، بعطرٍ مباركٍ أنهض، بشجرٍ

حاضرٍ أتوحّد فيك، وأعلن.»

بعد سلسلة الاحتمالات المعلّقة، تأتي لحظة الفعل والإعلان. هذه النقلة الزمنية من «لو» إلى «الآن» تمثل انبعاثًا جديدًا، تجاوزًا للحيرة والانتظار، نحو وعيٍ متحقق بالحاضر. «بعطر مبارك» إشارة إلى تطهّر داخلي، إلى نوعٍ من الولادة الروحية التي تخرج من رحم العدم نحو يقينٍ ما. والتوحّد بالشجر الحاضر هو انصهار بالوجود المادي ككل، في لحظة وحدة تتجاوز الانفصال بين الذات والعالم. إنها لحظة من وحدة الوجود الصوفية، حيث كل ما في الكون متصل ومتآخٍ في كينونة واحدة.

ثم تأتي الخاتمة التي تفتح النص على المفارقة القصوى:

«النافذة مفتوحة،
القلب مفتوح،
السماء أيضًا مفتوحة،
وهناك، في مكان ما بعيد، تدور حرب.»

هذه الصورة الختامية ترسم توازياً بين الانفتاح الداخلي والخارجي، بين الروح والكون، لكنها لا تخلو من وعيٍ مأساوي: فبينما تنفتح النوافذ على الضوء، تظل الحرب دائرة في مكان ما. الحرب هنا ليست فقط حرب البشر، بل حرب الكائن ضد ذاته، حرب المعنى ضد الفناء. إنها عودة الشاعر إلى وعي الشهادة؛ فبعد أن أعلن نهضته، يعود ليشهد مجددًا على الألم الإنساني المستمر، وكأن مهمة الشاعر أن ينهض لا لينجو وحده، بل ليبصر الكارثة بوعيٍ أشد صفاءً.

هكذا، في قصيدة «الشاهد»، لا يكون الشعر وسيلة للهروب من العالم، بل وسيلة لملامسته في أعمق وجوهه، في تناقضاته وخرابه وجماله. جان دمو لا يكتب عن الوجود، بل يكتبه. يجعل من اللغة مرآةً للقلق الإنساني، ومن الصورة الشعرية مساحةً لتجلّي الروح وهي تتأمل مصيرها. لذلك يمكن القول إن القصيدة ليست تأملًا في الموت بقدر ما هي تأملًا في الحياة التي لا تكتمل إلا بفهم الرحيل كجزءٍ منها. في النهاية، الشاعر هو الشاهد الذي يترك ورقته في الكتاب، لا لينهي الكلام، بل ليواصل القارئ شهادته هو الآخر، كلٌّ من موقعه في الوجود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى