هيام
لم تكن هيام تكبر؛ كانت تُسحَب إلى الأمام كما تُسحَب الستائر الثقيلة في بيتٍ لا يريد ليد المعاناة أن تلمسه. وُلدت في فجوةٍ بين زمنين: زمنٌ تقاسمت فيه الأم والأب الغياب، وزمنٌ آخر عاد فيه الاثنان إلى بيتٍ واحد، تاركَين في قلبها فراغًا لا يشبه الطفولة، ولا يعترف بتقادُم الأيام.
كبرت وحدها؛ لا لأن البيت كان خاليًا، بل لأن عمرها كان أطول من سنواتها.
كان كلّ شيء يحدث خارجها:
أصوات الملاعق، صراخ الأطفال الجدد، عودة الأب بطبقٍ من الندم، وابتسامة الأم التي تحاول إصلاح ما لا يُرى.
أما داخلها فكان شيء آخر: غرفة صامتة فيها طاولة دراسة، وقلب يتمرّن مبكرًا على العناية بالآخرين.
صارت الأولى في المدرسة، لا رغبةً في التفوّق، بل لأنها لم تجد طريقةً أخرى لتقول للعالم: "أنا هنا… رغم كل شيء."
وحين وُلد الإخوة الثلاثة، وتَبِعتهم الأختان، لم يطلب أحدٌ من هيام أن تكون أمًّا لهم، لكن الأطفال كانوا يميلون نحوها كما تميل النباتات إلى النافذة. كانوا يعرفون، ببساطة الكائنات الصغيرة، أنها المكان الأكثر دفئًا في البيت.
كانت تعود من عملها منهكة، تمسح على ظهورهم، وتحرص على واجباتهم المدرسية، وتخبّئ خوفها من أن لا يكفي راتبها لحياةٍ تتسع أسرع من جيبها.
لم تكن تضحية.
كانت عادة.
والعادة تتشكّل مثل حجرٍ ينمو في الصدر ببطء، ولا يُكتشَف إلا حين يصبح ثقيلًا.
الذين تقدّموا لخطبتها كانوا يدخلون البيت وفي أذهانهم سؤالٌ واحد:
"هل هذه المرأة لنفسها… أم للجميع؟"
ابتسمت لكل واحدٍ منهم بلباقة، لكنها كانت تعرف أن قلبها مشغول بأشياء لا يصلح تعليقها على جدار غرفة النوم.
كانت تؤمن أن الحياة ستنتظرها قليلًا، وأنها ستلتفت لها حين يشتدّ عود الإخوة.
لكن الحياة، مثل قطارٍ قديم، مرّت سريعًا أمام رصيفها دون أن تتوقف.
كبر الإخوة.
تزوّجوا.
وتوزّعوا على مدنٍ وبيوتٍ وأبوابٍ تُطرَق مساءً.
وبقيت هيام في البيت القديم، تمسّد رأس الأم، وتحمل يد الأب المرتجفة، وتعدّ أيامها كما تُعدّ الأمهاتُ شتلاتِ الريحان في الشرفة: واحدة تذبل، وأخرى تنتعش، وثالثة تنتظر المطر.
في الليل، كانت تفتح نافذتها على شارعٍ لا ينام، ثم تهمس لنفسها: "هل كان يمكن أن تكون حياتي حياةً أخرى؟
هل أنا التي اختارت؟ أم أن الأشياء اختارَتني لأنني الوحيدة التي لم تقل لا؟"
لم تكن تبحث عن إجابة. كانت تبحث عن طريقةٍ لتسمع صوتها بين كل الأصوات التي رعَتها.
وحين يعود الإخوة لزيارتها، يحملون أولادهم وضحكاتهم وترّهات المدن، تنظر إليهم كما تنظر الشجرة إلى ثمارها:
تعرف أنها لم تخسر… لكنها لم تربح أيضًا.
فالحبّ، حين لا يترك مساحةً لصاحبه، يتحوّل إلى امتدادٍ طويل لا يعرف إلى من ينتمي.
وهكذا تتذكّر هيام الآن:
امرأةٌ تحمل تاريخًا صغيرًا لكنه كثيف، تعرف كل شيء عن الآخرين، ولا يعرف عنها أحدٌ إلا أنها الأخت.
الأخت… التي تشبه طريقًا يمضي عليه الجميع، ويبقى هو في مكانه، لا يصل إلى أحد.
