«الطريق إلى فيروز» بين المسرح والهوية
في مساء يشبه استعادة زمن ضائع، بدت الرملة مدينةً تعود إلى مقعدها الطبيعي في المشهد الثقافي.
ليس باعتبارها جغرافيا ثابتة، بل مساحة روحية تستيقظ حين تجد من يمنحها منبرًا للحياة.
في المبنى الثقافي، وبرعاية بلدية الرملة، وبدعم ومبادرة عضو البلدية المحامي موسى سابا، التأم المئات من الرملة واللد ويافا في أمسية تجاوزت كونها فعالية مسرحية إلى كونها حدثًا ثقافيًا يعيد تعريف علاقة الناس بالفنّ والهوية.
اعتلت السيدة نيفين كور حنحن المنصّة بحضور آسر، ليست كمقدّمة للبرنامج فحسب، بل كصوتٍ يعرف حساسية المكان واللحظة، ويمنح للأمسية عمقها الإنساني.
أدارت اللقاء بثقة ودفء، وأعادت إلى اللغة وظيفتها الأولى:
أن تجمع الناس لا أن تفرّقهم، وأن تُعيد الإحساس بالانتماء لمن سُلخت عنهم هويتهم قسرًا أو نسيانًا.
مسرحية “الطريق إلى فيروز”… ليست عرضًا، بل رحلة في الذاكرة العربية
قدّم الفنّان نبيل عازر عملًا يذهب أبعد من استعادة الأغنية الرحبانية.
مسرحية “الطريق إلى فيروز” لم تكن استعراضًا لحنينٍ جميل، بل قراءة نقدية–وجدانية لواقع الإنسان العربي بين الضحك والدمع، بين الحاجة إلى الفنّ والحاجة إلى الخلاص.
عازر لا يقلّد الرحابنة؛
بل يفتح نافذة على روحهم:
على الإنسان الذي في أغانيهم،
على البساطة التي تُخفي عمقًا،
وعلى الوجدان الذي يظلّ حيًّا مهما تغيّر الزمن.
شخصيات العرض… تجسيد لمجتمع كامل
المزهريّة
لم تكن غرضًا على الخشبة، بل ذاكرة تقف على قدمين.
رمزٌ لمنمنمات الحياة العربية التي قاومت المحو وظلّت شاهدة على ما تهدّم وما بقي.
حنّا السكران
ضحكةٌ على حافة البكاء،
وصورة رجل هُدم عالمه وظلّ واقفًا كمن يعرف أن السقوط رفاهية لا يملكها الفقراء.
صبحي الجيز
أكثر الشخصيات كثافة وألمًا.
ذلك العامل الذي حوّله زياد الرحباني إلى صوت الصدق المرّ،
يعود على يدي نبيل عازر كجرح حيّ يقف في منتصف المسرح،
يسخر من العالم لأنه يعرف الحقيقة كلها…
ويحملها وحده.
يارا
رائحة الشعر المحكيّ
ولحنٌ يمشي على خيط من الضوء،
تحملها لنا فيروز بصوتٍ صار جزءًا من تكويننا الوجداني.
لنا كردوش… حين تؤدّي أثر فيروز لا صورتها
جاءت لنا كردوش كدهشة ناعمة.
لم تقع في فخّ التقليد،
ولم تتعامل مع شخصية “فيروز” ككتلة مقدّسة،
بل قدّمت الظلّ العاطفي للصوت الرحباني، انعكاسه الداخلي، رخاوة حضوره، وحرارته الكامنة.
كانت تعيد بناء اللحظة من الداخل،
وتقدّم فيروز كما يعيشها الناس:
ذكرى
ولحظة صدق
ومساحة نجاة صغيرة.
الممثلون… سيمفونية بشرية متكاملة
ميسرة مصري، خليل قدّورة، رلى حكيم…
قدّم كلّ منهم أداءً متينًا ينسجم مع الآخر،
فجعلوا من المسرحية جسدًا واحدًا يتحرّك بروح واحدة.
ولكنّ الحضور الأكثر تعدّدًا وإدهاشًا جاء من عواد عواد،
الذي حمل ثلاثة أدوار متناقضة فوق الخشبة،
ونجح في كلّ واحدة منها ببلاغة لافتة:
الأمن
صلابة باردة تُذكّر بالسلطات الصغيرة التي تعيش في حياتنا اليومية.
الوزير
كاريكاتور سياسي ساخر،
ضحكته أقصر من زمن الوعد،
وابتسامته تعكس هشاشة السلطة لا قوتها.
الطبيب النفسي
لم يكن مستقِرًّا،
كان متوتّرًا،
كأنّه هو نفسه بحاجة إلى من يستمع إليه.
جسّد التوتر الجمعي الذي نحمله كأفراد،
والذي لا يجد مكانًا ليُقال إلا فوق خشبة المسرح.
الرملة… مدينة كانت تنتظر هذه الليلة
لم يكن الجمهور عابرًا؛
كان جزءًا من العرض.
الوجوه القادمة من اللد ويافا والرملة جلست جنبًا إلى جنب كأنّ المسرح أزال الحدود التي لم تستطع السياسة إزالة ظلّها.
ضحكوا، تأثروا، صمتوا طويلاً،
ثم خرجوا وفي قلوبهم شعورٌ واحد:
أن الطريق إلى فيروز…
هو الطريق إلى الذات.
خاتمة
“الطريق إلى فيروز” في الرملة لم تكن سهرة، بل شهادة:
شهادة على قدرة الفنّ على إعادة تشكيل الوعي،
وعلى قدرة المسرح على أن يكون أملًا في زمن يتساقط فيه الأمل.
طوبى للرملة التي فتحت بابها،
وللسيدة نيفين كور حنحن التي منحت اللحظة صدقها،
ولموسى سابا الذي وفّر منصة للحياة،
ولنبيل عازر الذي أعاد للمسرح روحه…
وللحضور الذي يعرف أن الجمال، مهما ضاق بنا العالم،
يبقى طريقًا نحو النجاة.
