طه حسين بالعامية في ويكبيديا
قَدّرْ لرجلك قبل الخطو موضعها.. مقولة شعرية شهيرة، تنصحنا بأن نفكر بعقولنا قبل أن نحرك أقدامنا ونخطو على الأرض، لكني اكتشفت أن علينا أن نطبق هذه النصيحة أيضا ونحن نخطو في الفضاء، والفضاء الذي أقصده ليس الفضاء الذي يكتشفه العلماء والرواد في الدول المتقدمة، وإنما فضاء الإنترنت الذي يخطو فيه الجهلاء والحمقى إلى جانب الباحثين الجادين والحكماء النابهين!
كلّ من يخطر بباله أمر من أمور الدنيا والآخرة، لا يتردد في تدوينه عبر مدونة من المدونات، أو من خلال تغريدة من التغريدات، وليس مهما أن تكون هناك دراسة أو مراجعة لما يتم تدوينه، طالما أن من حق كل إنسان، حتى لو كان من أجهل الجهلاء أن يدون ما يشاء على ما يتاح له في الفضاء، وربما لهذا السبب فإني دربت نفسي على الخطو بحرص وحذر، حين أحاول التعرف على ما يتم تدوينه في المدونات وفيما تسمى تغريدات، وعلى سبيل المثال فإن أحدهم يؤكد أن المتنبي شاعر من شعراء العصر الجاهلي، بينما يرى آخر أن عباس ابن فرناس الذي جرب أن يطير في الفضاء بجناحين من الشمع هو إنسان عربي، لكنه يحمل الجنسية الفرنسية!
الكارثة التي ما بعدها كارثة في نظري أن كثيرين من أبناء الجيل العربي الجديد يحصلون على ما يريدون معرفته من المعلومات عن طريق فضاء الإنترنت، دون أن يهتموا بالرجوع إلى أي مقال أو كتاب مطبوع وموثق في الموضوع الذي يحاولون أن يعرفوا شيئا عنه. ولن أتوقف الآن عند هذه الظاهرة الكارثية، لأن ما أود الإشارة إليه- عبر هذه السطور- يتمثل في كارثة أخرى، تتعلق بلغتنا العربية الجميلة، فنحن نعرف أن الجامعة الأمريكية بالقاهرة تقوم بتدريس اللهجة العامية المصرية، بحجة أنها شائعة في الشارع المصري، أو لأن بعض الدارسين والسياح الأجانب يريدون دراستها، لأسباب متنوعة تتعلق بهم، لكن ما صدمني صدمة قاسية حقا يتمثل في أن موسوعة ويكبيديا العربية الشهيرة قد كتبت مقالا تعريفيا عن عميد الأدب العربي طه حسين، وبالطبع فإن الصدمة ليست في الكتابة عن طه حسين، وإنما في الكتابة عنه باللهجة العامية المصرية، وسأنقل هنا بعض السطور المكتوبة عن عميد الأدب العربي، لكي يصدقني من قد لا يصدقون.
تقول موسوعة ويكبيديا:
( ..إتولد طه حسين في قرية تابعه لمركز مغاغه في محاقظة المنيا اللي في صعيد مصر، و اتعمى نتيجه للجهل و هو لسه عيل صغير. عاش فى قريته السنين الاولى من حياته و اتعلم في الكتّاب و بعدين راح على القاهره مع اخوه الكبير عشان يلتحقو فى الأزهر. و بعد الأزهر التحق بالجامعه، و راح فرنسا في بعثه تعليميه، ورجع مصر سنة 1925 و اتعين استاذ في الجامعه المصريه و بعدين اتعين عميد لكلية الأداب و بعد كده بقى عميد لجامعة اسكندريه و بعدين بقى وزير للمعارف. وفى فرنسا اتجوز من شريكة حياته " سوزان بريسو " Suzanne Bresseau اللى ساعدته جامد كجوز اعمى و كجوز كاتب و أديب.)
لكي أخفف ولو قليلا من وقع الصدمة عليكم وعليّ، لابد من الإشارة إلى واقعة غريبة حدثت في الستينيات من القرن العشرين الغارب، فقد أعلن الكاتب المسرحي الكبير نعمان عاشور أنه ينوي ترجمة مسرحيات وليم شكسبير إلى اللهجة العامية المصرية، فكانت النتيجة أن هاجمه النقاد الجادون، وسخر منه ومن قكرته الساخرون، وقال بعضهم إن هاملت سيظهر على خشبة المسرح وهو يقول: يا نهار إسود. إيه النيلة المهببة ديه؟ إزاي أسكت على عمي اللي أتل أبويا واتجوز أمي.. يا إما أكون أو ما كنشي!
إذا كان هناك من هاجموا أو سخروا من نعمان عاشور، فإن جرائد مصرية عديدة أصبحت تكتب الآن عناوين مفالاتها باللهجة العامية، دون أن يتعرض لها أحد بالهجوم أو حتى بالسخرية، وإذا كان اللؤماء الماكرون من ذوي الأهداف الخبيثة قد كتبوا عن طه حسين باللهجة العامية في ويكبيديا، فإن المتشنجين الجهلاء قد قاموا منذ عدة أشهر بتشويه تمثاله المقام في مدينة المنيا، ولم يكتفوا بالتشويه وإنما قاموا بقطع رأس هذا التمثال، وقد قيدت الشرطة هذه الجريمة بأنها ضد مجهول! ولم يبق لي إلا أن أتذكر ما قاله نزار قباني في رثائه لطه حسين: إلق نظارتيك ما أنت أعمى- إنما نحن معشر العميان!