طبيبة المقابر
(1)
صبيحة الجمعة، أستيقظ مبكرا أصلى الفجر ثم أرتدى جلباب قديم، وأشق طريقى بين طرقات البلدة الضيقة، حتى أصل لمنطقة المقابر، وهناك أجلس مع الجالسين ننتظر من يأتون لزيارة موتاهم، فنقرأ لهم القرآن، ونأخذ ما يجودون به علينا من طعام وصدقات، الحقيقة لن أخفيك سرا، فصوتى ليس جيد فى قراءة القرآن الكريم، ولا أحفظ منه سوى بالكاد سورة يس وبعض قصار السور، لكن القراءة على المقابر تحقق لى ميزة كبرى لا يحققها غيرها من الأعمال على الأقل فى الوقت الراهن، فهى توفر لى إفطار لا بأس به فى ذاك اليوم، وبعض النقود التى تسمح لى بالعودة للبيت وإرتداء جلباب الصلاة الذى أذهب به لصلاة الجمعة، ثم أجلس بعد الصلاة على المقهى وأمضى باقى اليوم دون عمل، وبذلك أكون قد حصلت على إجازاتى الأسبوعية، فأنا ممن يطلق عليهم (الأرزقية)، الذين يحصلون على قوت يومهم يوم بيوم.
قد يكون حديثى عن أكثر من جلباب أوحى لك بأن لدى الكثير منهم، الحقيقة أن لدى جلبابين بحالة جيده، أقدمهم أذهب به للمقابر، والأحدث أذهب به لصلاة الجمعة وأمضى به باقى اليوم، وكلاهما لا استخدمه إلا يوم الجمعة، أما باقى الجلابيب فكلها قديمة جدا، وأغلبها إما به قطعات أو رقع أو ضاق، ومعظمهم جاءوا لى كهدايا عبر السنين، أستخدمهم فى العمل على مدار الأسبوع، أعرف أن الاسئلة تتبادر إلى ذهنك، لماذا لا أرتدى جلباب ممزق فى المقابر فذاك قد يجعل تعاطف روادها معى أكبر وصدقاتهم على أكثر، الحقيقة لا أستطيع وستعرف السبب لاحقا فلا تتعجل، أما عن ماذا أعمل، فأنا أعمل أى شئ طالما أنه لا يغضب الله، لا تبتسم فلست درويشا أو شيخ طريقة، ولكننى فقط أكره المال الحرام، فلقد علمنى أبواى ذلك، أكرهه لأنك ببساطة لا يمكنك أن تحصل عليه إلا إذا أضررت أحد ما، وأنا لا أحب ذلك.
لذا فأنا أمضى الأسبوع بين العمل كحمال للبضائع فى موقف سيارات النقل، أو كأحد جامعى المحصول فى مواسم الحصاد، أو كبناء، أو كعامل هدم، أو حتى كمنادى بموقف سيارات الأجرة، المهم أننى أعمل أى شئ بشرط أن يكون داخل البلدة، لماذا، لنفس السبب الذى لا أرتدى لأجله جلباب ممزق فى المقابر، وعلى ذكر الجلباب دعنى أقول لك أن لدى أيضا بذة قد لا تكون باهظة الثمن ولكنها أنيقة بعض الشئ، وحذاء جيد، ورابطة عنق لا بأس بها، أنت تستغرب ماذا يفعل مقرئ المقابر بطاقم كهذا، ببساطة أستخدمه عندما أذهب فى مقابلة شخصية لوظيفة تقدمت لها، وتلك هى الحالة الوحيدة التى سأترك فيها البلدة، أن أقبل فى وظيفة حضرت إختبارها بالبذة الأنيقة، فعلاوة على السبب الذى لم تعرفه بعد، فإن كنت سأعمل فى مهنة أرتدى فيها جلباب ممزق، فأنا أفضل أن أرتدى ذاك الجلباب وسط أهلى لا الأغراب.
يبدو أنك لم تستجمع الأمر بعد، ببساطة أن شاب جامعى لا يمكنه أن يعتمد أكثر من ذلك على عائلته فى الإنفاق عليه، لماذا، لا لن أحكى هذه القصة، فمن المؤكد أنك قد شاهدت الكثير من الأفلام والمسلسلات التى تحكى قصة مماثلة، فيمكنك أن تختار منها ما تشاء وتعتبره سبب إضطرارى لأعتمادى على نفسى بتلك الطريقة حتى أجد عملا ملاءما، وصدقنى لن أعترض على أى قصة ستختارها، فالقصص تتشابه، لكن النتيجة واحدة.
(2)
صبيحة الجمعة، أستيقظ مبكرة وأرتدى جلباب بال به الكثير من الرقع، وأذهب مع بعض النسوة الفقيرات للمقابر، لعل زوارها يعطوننا صدقة أو يطعموننا من أقراص الرحمة، فإن لم تكن من بلدتنا أو أى بلدة تمارس عاداتنا فدعنى أشرح لك ما هى تلك الأقراص، هى نوع من أنواع الخبز الأقرب للخبز الأفرنجى (الفينو) ولكن بها الكثير من السمن وأحيانا بعض من السكر، يخبزها أقارب المتوفى ويأتون بها ليوزعونها على فقراء المقابر كنوع من صدقة الطعام أو الرحمة كما يسمونها، أعرف أن القصة قد بدأت تتضح فى ذهنك، ولكن قبل أن ترسم خيوطها فى عقلك أريدك أن تعرف أننى طبيبة البلدة.
لا تندهش وتفعل كتلك المرأة التى فوجئت بقريبتها وقد سقطت مغشيا عليها فى المقابر بعد أن أجهشت بالبكاء، وما إن أقتربت من قريبتها حتى أخذت تصيح فى وجهى معتقدة أننى أريد منها صدقة مطالبة إياى بالأبتعاد، فلم أجد بدا من أن أصيح فى وجهها أنا الأخرى مطالبة إياها بالصمت ولكن باللغة الأنجليزية، ثم أقتربت من قريبتها وفحصتها ثم سألتها إن كانت مصابة بداء السكرى أم لا، فعندما أفادت بالإيجاب، فقلت لها أن تبحث فى حقيبتها عن حقنة الأنسولين فوجدتها، فقمت بحقنها بها وبعد دقائق قليلة أفاقت، دهشت المرأة وجاءت محاولة إعطائى بعض المال، فرفضت بشدة وقلت لها لقد فعلت ما حتمه على واجبى فأنا طبيبة تلك البلدة، ثم أخرجت لها بطاقة العمل فزاد ذهولها، فسألتنى لماذا إذن أشحذ على القبور، فقلت لها نذر قديم أوفيه.
كانت فكرة النذر هى أفضل صيغة أستخدمها ليتقبلنى نسوة المقابر بينهن، ولا يستغرب أهل البلدة ما أفعل، فعلاوة على أننى طبيبة البلدة، فأنا من أبناء أحد عائلاتها متوسطة الحال، لكن الجميع يعرف أنها يمكنها الإنفاق على، لذا ففى كل الأحوال لن أحتاج للتسول على القبور، أما النذر فلن يتحدث فيه أحد وسيتقبله الجميع، خاصة أننى قبل مغادرتى المقابر أوزع كل ما جمعت من طعام ومال على النسوة الأخريات، مضاف عليه ما يماثله تقريبا، وهو ما يجعل فى مجيئى مع النسوة ميزة لهن، ليس ذلك فحسب فمع الوقت صادقت بعضهن ممن شعرت بأنهن يفعلن ذلك لا عن تعود أو تسول، ولكن لحاجة حقيقية، بالمناسبة أنا أيضا لست أى طبيبة، فأنا مطلعة جدا على أحدث ما وصل إليه العلم الحديث، سواء فى الطب أو فى غيره، وأكمل دراساتى العليا بالجامعة، ويمكن فى أية لحظة أن أحصل على منحة وأكمل الدراسة بالخارج ولكننى لن أفعل ذلك، وأظنك الان تعرف السبب، ووفقا لما قلت أصبحت أنا الرابط بين مثقفى البلدة وجهالها، وبين فقراءها وميسورى الحال فيها، فأنا الوحيدة التى يمكنها أن تتحدث بلغة كل فريق من هؤلاء وتتفهم طريقة تفكيره.
أعود لما أستنتجت، نعم أنت على حق أنا أفعل كل ذلك من أجل أن أراه، وهذا هو السبب الأساسى الذى يجعل كلانا يتمسك ببقاءه فى البلدة، ولكن لدى سبب آخر، فأنا أريد أن أشعره بأننى مثله وأفعل مثلما يفعل، وفى الوقت نفسه أقطع الطريق على عائلتى أو حتى على نفسى بأن يعيره فى لحظة غضب أى منا بأنه كان يتسول على القبور، حال ما أرتبطتنا ببعضنا يوما ما، لكن لا تظن أن لقاء المقابر هذا يطول، فقط هى بضعة لحظات أراه فيها، ومن نظرة واحدة أو نظرتين فى وجهه وعينيه أعرف إن كان بصحة جيدة أم لا، وهل هناك شئ أكثر مما هو معتاد يؤرقه، وللحقيقة أننا منذ أن مرت الطفولة وبالكاد نلتقى فى أضيق الحدود ونتحدث بضع كلمات، فلا هو صرح لى بحبه أو وعدنى بالزواج، ولا أنا أفصحت له عن ما بداخلى أو طلبت منه شيئا، ربما تندهش وتتساءل وما أدرانى أنه يريدنى، الحقيقة أن سؤالك سؤال كهذا يعنى ببساطة أنك لا تفهم تلك اللغة، قد تكون لغة غير منطوقة أو غير مسموعة، لكنها لغة واضحة جلية لمن يفهمها، لغة يسمعها القلب لا الأذن، ويفهمها الوجدان لا العقل.
(3)
تتساءل الان وماذا بعد، حقا نحن لا نعرف ماذا بعد، فقد صرنا عالقين بين الظروف التى لا نعرف متى ستتحسن، والبلدة التى بقدر ما تحتوينا بقدر ما أضحت أحلامنا مرتبطة بمغادرتها، وبين المقابر حيث نلتقى، وبين قصتنا التى لا نعرف لها نهاية، وهكذا ندور فى دوائر مفرغة، يبطن كل ذلك الخوف، فكل واحد منا يخاف من أن يضعف الآخر ويقرر الرحيل وحده تاركا كل ذلك خلفه، أو من تلك اللحظة التى سيلتقى فيها أحدنا بالآخر ولكن الأول حى يقرأ له القرآن الكريم أو يوزع عليه الرحمة، والثانى ميت يسكن إحدى تلك المقابر، ليس ذلك فحسب فلعل الموت يضمن لنا لقاء بعد مفارقة الحياة، ولكن للأسف فذلك لن يحدث، فلن يكون ممكنا أن ندفن سويا فى مقبرة واحدة، وسيذهب كل واحد منا لمقابر عائلته، ببساطة إذا كان لقاءنا فى الحياة محتمل، فلقاءنا فى الموت محال، ستقول ربما تلتقون فى الجنة، ومن منا يدرى أين سيذهب حينها.
تستغرب لماذ أقحمناك فى تلك القصة، وأنت لا ولن تعرفنا، ولا تملك أن تفعل لنا شيئا، وربما كان لديك قصة أو قصص أكثر تعقيدا أو مأساوية من تلك، الحقيقة أننا فعلنا ذلك لأنك كإنسان عليك أن تشارك من حولك من بشر قصصهم المحزنة وألا يكون همك قصتك وحدك، تماما مثلما صرنا نحن نحمل هم أننا حملناك بتلك الحكاية المؤسفة، فأعذرنا، وأغفر لنا ما فعلناه بك، وأدعو لنا أن نحكى قصة أفضل يوما ما.
تمت